عندما ماتَ أبي، شعَرتُ بِحزن ممزوج بالذنب، لأنّني كنتُ قد ابتعَدتُ عنه في السنوات الأخيرة بعدما تزوّجتُ وانشغَلتُ بعائلتي. كنتُ أزورُه وأمّي، لكن ليس كما يجِب، ربّما لأنّني لَم أتصوّر أنّه سيموتُ يومًا ولن أراه مُجدّدًا. إضافة إلى ذلك، لَم أكن مُقرّبة منه، وكذلك أخوَتي، لأنّنا افتقَدنا معه الحنان الذي ينتظرُه الولَد مِن أبيه، فهو كان إنسانًا جافًّا وقاسيًا.
واسَيتُ أمّي كما يجب، وعرضتُ عليها أن تعيشَ معنا بصورة دائمة، لكنّها قبِلَت فقط أن تأتي لشهر أو اثنَين لأنّها لَم تكن قادِرة على ترك المنزل الذي عاشَت فيه مع أبي. إطمأنَّ بالي، فقد كنتُ سأهتمّ بها طوال الفترة التي ستلزمها للاعتياد على فكرة غياب زوجها. في بيتنا، ستتسلّى مع الأولاد وتضحَك مِن جديد. ولَم أكن مُخطئة، فبعد وصولها بأسبوع، رأيتُ بسمة خفيفة على وجهها وهي تُلاعِب أحفادها.
وحين لزِمَ أن نهتمّ بأغراض أبي الشخصيّة، عرضتُ أن أفعَل ذلك بنفسي لأجنِّب والدتي الحزن والبكاء لدى رؤية ومُلامسة ثيابه وأغراضه. تركتُها مع الأولاد ورافقَني زوجي إلى بيت أهلي، البيت الذي ربيتُ فيه وتركتُ فيه ذكرياتي يوم تزوّجتُ. ولدى دخولي، رأيتُ نفسي وكأنّني عدتُ صغيرة فجأة، مع أنّ ذلك لَم يحدث لي حين كنتُ أزورُ أهلي وأجلسُ معهما ونأكل ونتكلّم. ربّما موت أبي كان قد أثَّرَ عليّ كثيرًا، وتمنَّيتُ ضمنيًّا لو كنتُ لا أزال صغيرة وهو لا يزال على قَيد الحياة.
بدأتُ وزوجي بِفَرز أغراض والدي ووضعها في كراتين وأكياس، وترَكنا لأمّي ما هو ثمين وشخصيّ جدًّا، فالهدَف لَم يكن محو ذكراه، بل فقط مُساعدتها لتستمِرّ بحياتها وتتغلّب على حزنها.
وبين أوراق أبي، وجدتُ ظرفًا بُنيّ اللون مكتوب عليه: "وصيّتي".
إستغربتُ الأمر، إذ أنّني لَم أكن على عِلم بأنّه ترَكَ يومًا وصيّة، وكذلك أمّي، على ما أظنّ. أخذتُ الظرف وفتحتُه وقرأتُ ما هو مكتوب على تلك الورقة: "أنا الموقِّع أدناه... أتركُ كلّ ما لدَيّ مِن أموال وأملاك لأولادي. أمّا بالنسبة لزوجتي ف. م، فلِتتدبَّر أمرها بنفسها، فيكفي أنّني سمحتُ لها بالعَيش معي في البيت نفسه وكتَمتُ أسرارها".
لدى قراءتي تلك الأسطر، كبَتُّ صرخة لفظاعة الكلمات التي استعملَها والدي عندما كتب عن أمّي. مِن حسن حظّي أنّ زوجي كان مشغولًا بأوراق أخرى، وإلّا كانت فضيحة كبرى. وعندها سألَني عن مُحتوى ذلك الظرف البنّي، قلتُ له: "لا شيء مُهمًّا... حسابات يوميّة". ثمّ وضعتُ الوصيّة في حقيبة يدي، وأكمَلتُ العمَل وبالي مشغول لأقصى درجة. فماذا أفعَل؟ هل أحرِق الوصيّة لأُحافِظ على سمعة أمّي، أم أحترِم رغبات والدي الأخيرة؟ فكلّنا نعلَم أنّ رغبات الشخص الذي يموتُ تكونُ مُقدّسة!
حين عدتُ وزوجي إلى البيت، لاحظَت والدتي حالتي، فتحجَّجتُ بالحزن الذي أصابَني حين رتَّبتُ أغراض أبي. خلَدتُ إلى النوم لكنّني بقيتُ صاحية أُحدِّق في الظلام، بحثًا عن حلّ وعن الأسباب التي حمَلت والدي على التكلّم عن زوجته هكذا وحرمانها مِن الميراث. للحقيقة، لَم أجِد شيئًا في سيرة أمّي أصِفُه بالسيّء، بل هي كانت دائمًا أمًّا جيّدة وزوجة مُخلِصة. لكنّني لَم أكن لأعلَم ما يدورُ بين الزوج والزوجة حين يكون أولادهما خارج البيت أو نائمين. إضافة إلى ذلك، لَم يكن والدايَ مِن الذين يتشاجرون دائمًا، بل اتّصَفَ أبي ببرودة كان معروفًا بها في البيت وسكوت قد يطول لأيّام. هل هذا لأنّه كان يكرهُ زوجته ويمقتُها؟ كانت والدتي الإنسانة الوحيدة التي بإمكانها الإجابة على أسئلتي العديدة، لكن كيف أتمكّن مِن حَملها على الكلام مِن دون أن أجرَح مشاعرها؟
في الأيّام التي تلَت، رأيتُ أمّي بالفعل حزينة على زوجها، لِذا بدأتُ أكلّمها عنه، وهي بدأت بالبكاء والتحسّر عليه. عندها سألتُها:
ـ ماما... هل كنتِ سعيدة مع بابا؟ أعني حقًّا سعيدة؟
ـ لا يوجد شيء يُسمّى بالسّعادة المُطلقة، لكن كانت لدَينا ذكريات جميلة.
ـ لكنّه كان قاسيًا بعض الشيء، أليس كذلك؟
ـ أجل... ولا يغفرُ بسهولة. لكنّه كان إنسانًا صالِحًا.
إحتَرتُ كيف أُدخل الحديث إلى ما كان يُقلِقُني، فأضفتُ كاذبةً:
ـ أتذكَّرُ أنّه كان مُستاءً لفترة طويلة منكِ يا ماما، لماذا؟
ـ مُستاء؟ لا، أبدًا.
ـ بلى... سمِعتُه مرّة يُوبّخكِ على شيء خطير فعلتِه وقالَ إنّه لن يُسامحكِ أبدًا.
سكتَت أمّي مُطوّلًا وقالَت:
ـ يا إلهي... أنتِ سمِعتِ ما كان يدورُ بيننا؟!؟
ـ أجل، سمِعتُ كلّ شيء! لكن اليوم أُريدُ سماع القصّة منكِ، فالموضوع يُزعجُني منذ سنوات وحانَ الوقت لمعرفة الحقيقة، بما أنّني صِرتُ راشدة، وزوجة... وأمًّا.
ـ حسنًا... يا إلهي... لَم أتصوَّر أنّني سأضطرّ يومًا للاعتراف بالحقيقة لابنتي! لكن بما أنّكِ تعلمين ما حصَل، فعليّ على الأقل توضيح بعض الأمور.
ـ لكن إبدائي مِن البداية!
ـ حسنًا...
كان قلبي يدقُّ بسرعة، إذ أنّني كنتُ سأعرِف سبب حِقد والدي على والدتي وقد لا أُحِبّ أبدًا ما سأسمعُه. وهي أكملَت:
ـ قَبل سنوات لا تُحصى وقَبل ولادتكِ، أيّ بعد أن أنجَبتُ أخاكِ الأكبَر بقليل، بدأ أبوكِ بتناول الخمر.
ـ أبي؟!؟ لَم أرَه يشربُ الخمر ولو مرّة واحِدة!
ـ دعيني أكمِل... وفي كلّ مرّة يشرَب فيها، كان يشتمُني ويُعنِّفُني جسديًّا ويُهدِّدُ بالتخلّص منّي ومِن ابننا.
ـ يا إلهي!!!
ـ كانت حياتي مُزرية بالفعل، إذ أنّني كنتُ أخشى إغضابه ولو بنظرة أو كلمة، لأنّني كنتُ أعلَم ما سيحدُث. وفي إحدى المرّات، أخذتُ أخاكِ وهربتُ منه ليس عند أهلي، فقد يجِدني، بل عند إحدى عمّاتي التي تسكنُ في قرية بعيدة. بحَثَ أبوكِ عنّي في كلّ مكان، وقيلَ لي إنّه كان يحملُ في جَيبه مُسدّسًا، ويقول للجميع إنّه سيقتلُني بدون رحمة!
ـ هذا لا يُصدَّق! أنتِ تختلقين هذه الأحداث!
ـ أكذِبُ بشأن زوجي المُتوفّي؟ أبدًا!
ـ أكمِلي.
ـ كان لدى عمّتي ابن، شابّ شجاع أقسَمَ لي أنّه سيُدافعُ عنّي إن أتى والدكِ ليؤذيني، وهذا ما حدَث بالفعل. إذ أنّه وجدَني أخيرًا وأتى إلى القرية، وبدأ يصرخُ أمام الباب طالِبًا منّي الخروج. لكنّ ابن عمّي صدَّه بقوّة و... ضَربَه! عادَ أبوكِ أدراجه وهو يُردِّد أنّ لا عجَب أنّني التجأتُ إلى عمّتي لأنّ ابنها هو عشيقي! أجل، سمعتِ جيّدًا، هو اتّهمَني بالخيانة لأنّني هربتُ مِن تعنيفه!
ـ لكنّكِ عدتِ إليه في آخِر المطاف وأنجَبتِ منه! كيف؟!؟
ـ مرَّت الأشهر والسّنة، وسمعتُ أنّ أباكِ توقّفَ عن الشرب وصارَ يُصلّي ويصوم، وتدخّلَت عائلته لإقناعي بالعودة على مسؤوليّتهم. في البدء، جاءَت أمّي لتعيشَ معي لأنّها خافَت عليّ مِن والدكِ، لكن تبيّنَ أنّه بالفعل لَم يعُد يتعاطى الخمرة وصارَ يُمارِس الدين بانتظام. عندها شعرتُ بالأمان وتابَعتُ حياتي الزوجيّة معه... لأنّني كنتُ أُحِبُّه كثيرًا بالرغم مِن كلّ شيء. لكنّه لَم يُسامِحني، فظلَّ يتّهمُني بالخيانة حتّى آخِر أيّامه. باقي السنوات، قضيتُها مع رجُل بارِد وحاقِد، وادّعَيتُ أنّ كلّ شيء على ما يرام مِن أجلكم.
ـ ماذا حلّ بابن عمّتكِ؟
ـ هو كان مخطوبًا آنذاك وتزوّجَ بعد فترة قصيرة وصارَت لدَيه عائلة. لَم أقُل له أبدًا كيف كانت باقي حياتي، فخفتُ أن يتدخّل وتقَع مُصيبة.
ـ يا إلهي... الآن فهمتُ!
ـ فهِمتِ ماذا؟
ـ لا شيء، لا شيء.
هكذا إذًا... لَم ينسَ أبي مسألة هروب أمّي منه وقصّة ابن العمّ هذا، حتّى إلى يوم كتَبَ وصيّته! أظنُّ أنّ أكثر ما أغضبَه كان هروب أمّي منه وضَرب ابن العمّة له، وأنّه َلَم يُصدِّق فعليًّا أنّ زوجته خانَته، بل أخَذَ تلك المسألة كعذر ليُدمِّر حياتها لأنّه لَم يعُد قادِرًا على أذيّتها جسديًّا خوفًا مِن أن تهرب مُجدَّدًا. أمّا مسألة تخلّيه عن الخمر وارتداده للدّين، فربّما كانت تلك الطريقة الوحيدة لاسترداد ضحيّته.
أحرَقتُ الوصيّة في اليوم نفسه، لأنّني أعرفُ أمّي جيّدًا، أعرفُ كيف ربَّتنا وكيف اهتمَّت بنا وبزوجها، ولستُ بحاجة إلى المزيد مِن البراهين لأتأكَّد مِن أخلاقها الحسنة. فليرقد أبي بسلام... هو، ووصيّته!
حاورتها بولا جهشان