وسواس قهريّ!

هذه قصّة أمّي التي عانَت مِن الوسواس القهريّ طوال حياتها، الأمر الذي قلَبَ أيضًا حياتنا كلّنا في البيت. ولا يعلَم حقًّا ماذا أتكلّم عنه سوى الذي عاشَرَ شخصًا يُعاني كوالدتي مِن هذا المرَض. لكنّ حالتها بلغَت حدًّا لا يُعقَل وكذلك الأحداث التي وقعَت لاحقًا. فمنذ ما أتذكّر وهي تعمَل جهدها لإبقاء منزلنا بغاية النظافة، الأمر الذي يبدو لأوّل وهلة طبيعيًّا خاصّة في مُجتمعاتنا الشرقيّة حيث تتنافَس سيّدات البيوت على الترتيب والنظافة. لِذا، لَم يرَ أحد خطَبًا بذلك بل أثنى عليها الجميع. لكن سرعان ما صارَ مِن غير المُستحَبّ على أبي أن يستقبل رفاقه أو أقاربه، فأمّي كانت تُرتِّب وتمسَح وراءهم بعد رحيلهم مهما كانت الساعة ليلاً. مُنِعنا أيضًا نحن الأولاد مِن جَلب أحد إلى المنزل تحت طائلة المُعاقبة وسماع الشتائم والصريخ. وهكذا، صارَ كلّ ما نفعله يقَع خارج المنزل وبعيدًا عن توسيخ أو زعزعة ترتيب ما أسمَيناه: "قصر الملِكة". لأنّه بالفعل كان مكانًا لا يجدرُ المَسّ به. عرَضَ عليها أبي مرارًا أن يأخذها إلى معالج نفسيّ، إلا أنّها رفضَت وبإصرار ذلك، ووصَلَ الحدّ بها إلى تهديده بالانتحار لو هو بقيَ على رأيه.

نظَّمنا حياتنا على هذا الأساس وبتنا مُعتادين عليه، لكنّ الضغط كان قويًّا علينا، فمِن جهة عمِلنا المستطاع لمُراعاة والدتي، ومِن جهة أخرى لَم نعُد نشعرُ أنّنا ننتمي إلى ذلك البيت، بل وكأنّنا ضيوف علينا إحترام القوانين الصارمة وإلا! لكنّنا لَم نعرِف في ذلك الوقت أنّ ما نمرُّ به لَم يكن يُذكَر أمام الذي ينتظرُنا.

 

مرَّت السنوات بصعوبة، وتفاقمَت حالة والدتنا لِدرجة أنّها رفضَت أن يخرجَ أولادها مِن البيت يوم زواجهم، بل مِن الفندق أو مِن بيت قريب أو صديق. فيوم زفافي، رحتُ في الصباح الباكر إلى منزل عمّي حيث جاء المُصفِّف وأخصائيّة للتجميل، وهناك لبستُ فستاني الأبيض واستقبلتُ معازيمي. كنتُ على شفير البكاء، خاصّة حين دخلَت والدتي الغرفة دقائق قبل خروجي، وبدلاً مِن أن تُهنّئني أو تثني على جمالي كعروس، قالَت لي: "بياض فُستانكِ ليس ناصعًا... يا للخسارة". بدأتُ بالبكاء بينما هي هزَّت برأسها أسفًا على ردائي. ركَضَ أبي ليواسيني طالبًا منها الخروج: "دعيها وشأنَها، أيّتها المجنونة! هيّا، أخرجي في الحال! أيّ أمّ أنتِ؟".

بعد زواجنا جميعًا، بقيَ المسكين معها لوحدهما، وأسِفتُ مِن أجله عالمةً تمام العلم كَم سيتعذّب معها. يا لَيته تزوّجَ مِن امرأة أخرى، لكان عاشَ سعيدًا ولكانت لنا أمّ أخرى! خلافًا لأخوَتي الذين فضّلوا الابتعاد كلّيًّا عن أهلنا، بقيتُ على تواصل مُستمرّ بوالدَيّ بعد زواجي، ربّما لأنّني كنتُ الابنة الأصغر وتلَقَّيتُ دلالاً خاصًّا مِن أبينا. وفي إحدى زياراتي له، قال لي شبه باكٍ:

 

ـ أودّ لو أستطيع قتلها... أجل، لكنّ فكرة السجن والفضيحة صعبة بالنسبة لي!

 

ـ لا تقُل ذلك يا بابا... إنّها إمرأة مريضة ولا تعي ماذا تفعل. قُل لي... ما بال ذراعَيها؟ فعليها خدوش مُخيفة! هل أنّكَ...

 

ـ لا يا ابنتي، لَم ألمُسها بل هي تقضي نهارها بغسل يدَيها وذراعَيها وتستعملُ لذلك مساحيق تنظيف مؤذية، مِن تلك التي تُنظِّف بها المراحيض.

 

ـ يا إلهي! علينا أخذها إلى المشفى!

 

ـ أنا مَن بحاجة إلى عناية... دعيها وشأنها وإلا عادَت وهدّدَتنا بالانتحار. مهلاً... ما الخطب لو أنّها انتحرَت؟ بالعكس تمامًا، فسأرتاح وأتمكَّن مِن العَيش بسلام!

 

ـ سأتحدّث إليها لكن عليكَ أن تنزَع مِن رأسكَ تلك الأفكار الإجراميّة.

 

رحتُ إلى أمّي، حافية القدمَين طبعًا، فكان ممنوعًا على أيّ كان دخول البيت مُنتعلاً حذاءه، وقلتُ لها:

 

ـ ماما... عليكِ أن تعرضي ذراعَيكِ على طبيب، فقد يصيبُها إلتهاب.

 

ـ ما بال ذراعَي؟ إنّها نظيفة كما يجب. فلقد زالَ عنها مُعظم الجلد... الجلد القذِر الذي يحملُ الجراثيم.

 

ـ بالعكس يا ماما، أنتِ بذلك تفتحين الباب أمام الجراثيم!

 

ـ وما أدراكِ، فأنتِ قذرة كأبيكِ... أكرهُه وأكرَه رائحته النتنة! هو لا يستحمّ سوى مرّة في اليوم، أيعقَل هذا؟!؟ قذِر!

 

ـ تبدين لي تعِبة... أعرفُ طبيبًا ماهرًا بإمكانه إراحتكِ.

 

ـ إيّاكِ أن تتكلّمي بهذا الموضوع معي! فأنا في حالة أفضل مِن حالتكِ! وهل أنّ الانسان النظيف هو المجنون؟!؟ أخرجي مِن بيتي! ويا لَيتكِ تأخذين معكِ ذلك الوسِخ الذي اسمه زوجي. يا إلهي... لِما اخترتُه هو بالذات؟!؟

 

هربتُ مِن المكان لاستحالة وجود حلّ لأمّي ولأبي لكنّني لَم أتخلَّ عنهما. ففي آخِر المطاف كانا يتعذّبان كلّ واحد منهما على طريقته. والحقيقة أنّهما لن يعرفا السكينة إلا إذا ماتَ أحدهم. ولأكون بمنتهى الصراحة، فضّلتُ طبعًا أن يبقى أبي على قَيد الحياة، هذا إن كان عليّ الاختيار بينهما.

سرعان ما باتَت والدتي تشوّه باقي جسمها بمُحاولة منها "إزالة الوسَخ" عنه. فتفاجأتُ لرؤيتها يوم زرتُها وصرختُ رغمًا عنّي. أسرعتُ إلى أبي وأجبرتُه على طلَب الإسعاف. لو تسمعون صراخ أمّي وهم يأخذونها إلى المشفى! كان الأمر وكأنّها ذاهبة إلى الذَبح!

عالجوا جروحها والتهابها في ذراعَيها وباقي جسدها، وقَبل أن يعرضوها على معالج نفسيّ، هربَت أمّي مِن المشفى وعادَت إلى البيت حيث أقفلَت على نفسها... وأبي! وأوّل ما علِمتُ بالأمر، ركضتُ كالمجنونة إلى منزل أبوَيّ ولَم يفتحَ لي أحد بالرغم مِن قرعي على بابهما وعلى الجرَس ومُناداتي لهما. فمفتاحي لَم يكن نافعًا إذ أنّ أحدهما تركَ المفتاح في الباب مِن الداخل. فالحقيقة أنّ أيًّا منهما لم يردّ على اتّصالاتي الهاتفيّة وبالطبع انتابَني الهلَع والهمّ الشديد. فماذا كان يدورُ وراء ذلك الباب المُقفَل؟!؟ خفتُ على أبي مِن أمّي وعلى أمّي مِن أبي وكذلك على أمّي مِن نفسها!

 

تردَّدتُ في طلب الشرطة، إذ أنّني أمِلتُ أن يُفتَح لي بين الدقيقة والأُخرى. لكنّ الوقت كان يمرُّ، لِذا إتّصلتُ بالقسم طالبة النجدة. وبعد دقائق طويلة، وصَلَ رجال الأمن أخيرًا وقرّروا أنّ مِن الأفضَل خَلع الباب.

حين دخَلنا البيت، كان يسودُه سكوت مُقلِق إذ أنّني لا أذكرُ يومًا مرَّ مِن دون سماع صراخ أمّي علينا أو عتاب أبي لها. علِمتُ على الفور أنّ مُصيبة حلَّت لكنّني لَم أكن أعلَم مَن أسكَت مَن بصورة نهائيّة.

الجثّة كانت موجودة في غرفة النوم وشعرتُ بدَمي يتصلَّب في عروقي. طلَبَ الشرطيّ منّي عدَم الاقتراب وجاءَت شرطيّة تُعانقُني وتسحبُني خارج الغرفة. عندها قلتُ لها:

 

- لَم يقصُد أبي قتلها... لا بدّ أنّها حادثة مؤسفة... أين هو؟!؟ فلَم يخرُج أحد مِن الباب الرئيسيّ، كنتُ واقفة أمامه طوال الوقت. أين أبي؟!؟

 

وجَدنا والدي في الحمّام، في المغطس بالتحديد، حيث كان قابعًا ودمه قد لوّنَ الماء. هو فتَحَ عروقه بالسكين نفسه الذي قتَلَ به زوجته. طلبَت الشرطيّة الاسعاف على الفور، وأنا أخذتُ أضغطُ على معصمَيه لإيقاف النزيف. لكنّه قال لي بهدوء:

 

ـ دعيني أموت يا صغيرتي، فلا أُريدُ دخول السجن. كان لا بدّ لي أن أسكتها فهي عادَت إلى البيت وبدأَت تصرخ وتصرخ وتُجرّحُ بنفسها كالمجنونة. لَم أذِق يومًا هنيئًا منذ زواجي منها... كان لا بدّ لي أن أتصرّف، صدّقيني فلستُ مُجرمًا. أزيلي يدَيكِ عن معصمَيّ أرجوكِ ودعيني أرتاحُ أخيرًا.

 

لكنّني لَم أسمَع منه، فكيف أدَع أبي يموت؟!؟ جاءَت سيّارة الاسعاف وأخذَته واستطاع الأطبّاء إنقاذه بعد أن تبرّعتُ وأخوَتي بالدم له. هم لَم يُصدّقوا ما حصَل لأنّهم لَم يواكبوا تطوّرات حالة أمّي وضياع أبي المسكين. نعم، أقولُ مسكين لأنّه بالفعل لَم يكن مُجرمًا بل إنسانًا مُسالمًا وهادئًا. لكنّه صبرَ كفاية على مرّ السنوات وفقَدَ صوابه في لحظة تخلٍّ.

أذنَت لي السلطات بالبقاء معه في المشفى إلى حين تتحسّن حالته وتُقامُ جلسة المُحاكمة. وفي تلك الفترة، رأيتُه سعيدًا ومُرتاحًا. هو طلَبَ منّي المُسامحة لِما فعلَه وأكّدتُ له أنّني أحبُّه مهما فعَل. أسِفتُ لأمّي لأنّها كانت إنسانة مريضة لكنّها رفضَت العلاج والتحسّن وقلبَت حياة عائلتها إلى جحيم استمرّ على مدى ثلاثين سنة.

 

حُكِمَ على والدي بالسجن خمسة عشر سنة وبكيتُ كثيرًا، فلَن أعُود أراه سوى خلال الزيارات المسموحة لنا. خفتُ عليه، فكان مِن المُمكن أن يُحاول الانتحار مرّة أخرى، لكنّه أقسمَ لي بأنّه لن يفعل بعد أن رأى بأيّة حالة أنا. بل أكّدَ لي أنّه سيستغلّ فترة سجنه لاستعادة السكينة، ومزحَ معي قائلاً:

 - أنا مُعتاد على العَيش في سجن، لا تخافي. الفرق الوحيد سيكون أنّ صراخ أمّكِ غير موجود.

 

وبالفعل تأقلَمَ والدي مع حياته وراء القضبان، لا بل قرأ العديد مِن الكتب وتعلَّمَ بعض الأشغال اليدويّة.

مرَّت السنوات أنتظرُ خلالها بفارغ الصبر موعد الزيارات لأريه صوَر أولادي وهم يكبرون. كَم كان فخورًا بهم، وتمنّى أن يعيشَ كفاية ليخرج ويراهم شخصيًّا. لكنّه خافَ أن يحكُمَ أحفاده عليه ويكرهوه بعد أن قتَلَ جدّتهم، لكنّني أكّدَتُ له أنّ حبّهم له هو تمامًا بقدَر حبّي له.

 

بقيَ لأبي ثلاث سنوات ليخرج أخيرًا مِن السجن ، وأُصلّي أن يُبقيه الله حيًّا حتى ذلك الوقت. أعلَم أنّ القارئ سيتفاجأ بكميّة حبّي لقاتل أمّي، لكن ما مِن أحد مكان أحد. أنا لا أُشجِّع القتل، معاذ الله، لكن كلّ حالة هي فريدة بحدّ ذاتها، فلو كان والدي إنسانًا سيّئًا وبغيضًا وعنيفًا، لأدَرتُ ربّما ظهري له وتركتُه لوحده في السجن، إلا أنّه لطالما كان مُحبًّا وكريمًا وضحّى بكلّ شيء مِن أجلنا. فمَن يعلَم ما كانت أمّنا لتفعله بنا لو تركَنا معها ورحَل؟ حتّى بعد زواجنا، هو لَم يشأ الرحيل خوفًا مِن أن يُشوّه صورته لدَينا.

 

هذه الحادثة المُريعة أثبتَت لي أنّ أيّ إنسان بإمكانه أن ينقلِبَ إلى مُجرم لو تجمّعَت الظروف المُلائمة لذلك. لِذلك علينا أن نطلُب مِن الخالق أن يُبقيَ في قلبنا الرحمة والصبر لاجتياز أصعَب الأوقات. فأبي، وبالرغم مِن راحته داخل السجن، يتألّم مِن وجَع ضميره، بعد أن أدركَ أنّ هناك وسائل أخرى غير القتل لحلّ المشاكل. فكيف للمرء أن يذوق طعم الراحة الحقيقيّة إن كان ضميره يُؤنّبه ليلاً نهارًا؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button