أعلمُ ما عليّ فعله حين يأتي الموعد... أقصدُ موعد موتي. ستقولون إن الإنسان لا يعرفُ متى سيُغادر هذه الدنيا، إلا أنّنا مُختلفون عن باقي الناس في ما يخصّ هذا الموضوع. أجل، رجال عائلتنا يشعرون بمجيء المنيّة قبل يوم واحد، ما يُتيح لهم توديع أحبّائهم. أمّا نساؤنا، فلا ينطبق الأمر عليهنّ. لا أحد استطاع إعطاء تفسير لِما أُسميّه "لعنة"، ولا يهمُّني كثيرًا معرفة الكيف واللماذا. إلى أيّ مِن رجال عائلتي تعود تلك القدرة؟ إلى جدّ جدّي، وربمّا جدّ جدّ جدّي، لكنّني لَم أكن على علم بشيء... إلى حين ناداني جدي ذات مساء، وطلَبَ منّي الجلوس بالقرب منه قائلاً:
ـ الآن صرِتَ بالعاشرة مِن عمركَ، أي شبه رجُل... وسأخصّصُكَ بِشرَف كبير وهو توديعكَ أنتَ بالذات.
ـ هل أنتَ مُسافر يا جدّي؟
ـ إنّها بالفعل سفرة... لكن طويلة... أجل، طويلة... إسمَع، سأموتُ في الغد.
ـ تموت؟!؟ ولماذا؟ ها أنتَ بصحّة جيّدة يا جدّي!
وبدأتُ بالبكاء، لكنّ جدّي صرَخَ بي:
ـ كفى بكاءً وإلا ندمتُ على اختياري لكَ! سنموتُ جميعًا وحتى أنتَ! الحياة هي نُزهة صغيرة نقومُ بها قبل الوصول إلى الهدف الأساسي: رحمة الله. لستُ آسفًا على موتي، فلقد عشتُ الأيّام والأشهر والسنوات على أكمَل وجه، ولَم أُخالِف تعاليم الله إلا نادرًا وبأشياء صغيرة. أنا جاهز لِمُلاقاته.
ـ ولماذا تقولُ لي هذا الكلام يا جدّي؟ لِماذا أنا بالذات؟
ـ هكذا تجري العادة عندنا، نختارُ الابن أو الحفيد أو الأخ أو ابنه، ونوصيه بالذي نُريدُه قبل مماتنا.
ـ وماذا تريدُ أن تقول لي؟
ـ إيّاكَ أن تركض وراء المال أو النساء أو كلّ ما يُخدّرُ عقلكَ أو جسدكَ... بل اكتفِ بالذي أعطاكَ إيّاه الله وأحِبّ مِن كلّ قلبكَ وتحمَّل بِصبر مشاكل الحياة. وهكذا ستكون إنسانًا بكلّ ما لِلكلمة مِن معنى.
ـ أعرفُ كلّ ذلك يا جدّي فأهلي يربّوني جيّدًا.
ـ لكنّ توصيّة مُحتضِر لا تُنسى أبدًا. شيء آخر لا يجب أن تنساه: عليكَ توصية مَن تختارَه حين يأتي يومكَ.
ـ هل هذا يعني أنّ أبي سيعرفُ هو الآخر موعد موته؟
ـ أجل.
وارتعبتُ كثيرًا لدى سماعي ذلك، خاصّة عندما لفَظَ جدّي أنفاسه في اليوم التالي. وباتَ همّي الأكبر ترقّب موعد موت والدي الحبيب الذي كان بالنسبة لي رمز القوّة والأمان. فلا ينبغي على ولد في العاشرة مِن عمره التفكير بِموت أحد، بل النظر إلى الحياة وكأنّها لن تنتهي. لماذا خصَّني جدّي بذلك السرّ الرهيب؟!؟ كرهتُ ذلك الميّت مِن كلّ قلبي، وصِرتُ أنزعجُ مِن مُجرّد سماع اسمه يُلفَظ مِن قِبَل أيّ أحد. أُتركوني بسلام!
كبرتُ والخوف في قلبي وأنا أُراقبُ أبي عن كثَب. ويوم كان والدي يمرضُ أو يتعرّض لأيّ حادثٍ كان، كنتُ أُحضّرُ نفسي لفقدانه وينهارُ عالمي بأسره إلى حين يتعافى. فكنتُ ابنًا وحيدًا بين ثلاث بنات، وكان سيقعُ عليّ الاختيار مرّة أخرى أو على الولَد الذي قد أُنجبُه يومًا.
عمِلتُ طبعًا بِتوصية جدّي لي، ليس فقط لأنّه أرادَ ذلك، بل لأنّني كنتُ فتىً طيبًا وخلوقًا. وعندما كبرتُ، تزوّجتُ مِن صبيّة تُشبهُني وأنجبنا إبنًا وابنة. عندها فقط أدركتُ أنّني سأضطرُّ يومًا إلى أن أفعل بابني أو حفيدي ما فعلَه معي جدّي.
عندها أخذتُ قرارًا حازمًا ونهائيًّا، وهو أن أُنهي سلسلة الرعب والقلَق في العائلة، حتى لو كلّفَ ذلك فقدان تلك القدرة النادرة إلى الأبد. ورحتُ أقولُ لأبي:
ـ بابا... أعلمُ أنّكَ تعلَم أنّ جدّي اختارَني لِتوصيته الأخيرة.
ـ أجل وافتخرتُ كثيرًا لذلك الشرَف الذي تلقَّيتَه.
ـ قد يكون شرفًا بالفعل، لكنّه ولَّدَ في قلبي قلقًا رافقَني منذ ذلك الحين ولا يزال يُرافقُني.
ـ أفهمُ ما تقصد تمامًا.
ـ ولا أُريدُ أن يُعاني أحدٌ مِن ذلك القلَق بعد الآن.
ـ ماذا تقصد؟
ـ لا أُريدُكَ أن توصي ابني بشيء... لا تخبِره أنّكَ ستموت، فالحياة للأحياء ولا مكان للموت فيها.
ـ لكنّنا نملكُ قدرة عجيبة! ولا يجدرُ بنا فقدانها بل تمريرها إلى الأجيال القادمة!
ـ قُل لي... ما نَفع ذلك سوى التباهي؟ هل هناك فائدة ما مِنه ؟
ـ أجل، التوصية!
ـ ألا يستطيع كلّ أب توصية ابنه أو حفيده خلال حياته؟
ـ توصية رجل يُحتضَر تبقى في الذهن والقلب.
ـ أجل، إن كان ذلك الأب أو الجد غير قادر على إسماع صوته أو تلقين تربية صالحة خلال حياته. فما أوصاني به جدّي آنذاك كنتُ أعرفُه مِن تربيتكَ لي، ولَم تُعطِني توصيته شيئًا إضافيًّا سوى ترقّب موتكَ يا بابا... لقد عشتُ منذ العاشرة مِن عمري في قلق سكَنَ قلبي، ومنَعَني مِن الاستمتاع بِطفولتي ومُراهقتي.
ـ أنا آسف يا بنَيّ.
ـ لا أُريدُكَ أن توصي ابني بشيء وأنا لن أوصي ابنه. ستنتهي المسألة عندي. أنا آسف يا بابا.
لكنّ والدي لَم يفهَم مدى جدّيّة الموضوع بالنسبة لي، وراحَ يطلبُ ابني لتوصيته قبل يوم مِن مماته. لَم أعلَم بالأمر طبعًا إلى حين بدأتُ أرى لدى مُراهقي شيئًا مِن الحزن الدائم. ظننتُ أنّه تعِب كونه بطَل مدرسته في كرة السلّة، إلا أنّني عدتُ وربطتُ حزنه بِموعد موت أبي. فطلبتُ مِن ولَدي أن نتحدّث سويًّا على انفراد وسألتُه:
ـ هل طلبكَ جدّكَ قبل أن يموت؟
ـ أجل، لكنّه...
ـ نبّهَكَ مِن إخباري، أليس كذلك؟
ـ أجل يا بابا.
ـ وصرتَ حزينًا لأنّكَ تخشى أن يأتي اليوم وأموت بِدوري، هل أنا على حقّ؟
ـ لَم أكن أُريدُ أن أعرف أنّ جدّي سيموت... كان مِن الأفضل لو ماتَ فجأة، على الأقل بالنسبة لي. كنتُ قد حزنتُ عليه طبعًا ولكن...
ـ لَما عرفتَ بتلك القدرة التي نملُكها في العائلة... أفهمُ ما تقصد، فأنا الآخَر مرَرتُ بتلك التجربة الصعبة. كنتُ قد طلبتُ مِن جدّكَ عدَم توصيتكَ، إلا أنّه فضَّلَ المضيّ بذلك التقليد البالي. أنا آسف يا حبيبي. إسمَع، لن أقولَ لكَ إنّني لن أموت يومًا، بل أستطيع التأكيد لكَ بأنّني لن أبعثَ بكَ أو بابنكَ قبل رحيلي. فعلى هذه المسألة أن تنتهي.
ـ أجل يا أبي، إفعل ذلك. كنتُ أظنّ أنّ معرفة موعد موتنا أو موت مَن نحبّ أمر يُسهّل علينا إستيعاب الموت، لكنّ العكس هو ما حصَلَ، فكلّ الذي أفكّرُ فيه منذ موت جدّي هو موتكَ يا بابا.
عملتُ جهدي لإطالة عمري بالقيام بالتمارين الرياضيّة واتّباع حمية صحّيّة، ليطمئنّ بال ابني مِن ناحيتي وليكفّ عن اعتباري نصف ميّت.
هل توصية أبي لابني هي التي حملَته على عدَم الإنجاب بعدما تزوَّجَ؟ لستُ مُتأكّدًا مِن ذلك، لكنّ الأمر ليس مُستبعدًا على الإطلاق. كان بودّي التكلّم مع وحيدي بالموضوع وحثّه على تخطّي ما أسمَيتُها "اللعنة"، لكنّني لَم أحظَ بتلك الفرصة. فابني الحبيب ماتَ وهو في سنّ الثامنة والعشرين.
وبِسبب حزني العميق عليه وبكائي الشديد على رحيله المُبكر، تغافَلتُ عن الذي لاحظتُه عليه قبل يوم واحد. ولَم أُحلِّل كل ذلك إلا بعدما تخطَّيتُ مرحلة الحداد، وساعدتُ زوجتي للتغلّب على كآبتها التي لا تعرفُها سوى أمّ فقدَت ابنها.
فقَبل يوم مِن تعرّض ابني لِحادث مُميت، كان المسكين في حالة غليان ممزوجة بالذي فسّرتُه آنذاك تعَبًا. سألتُه ما به فأجابَني أنّ لدَيه مشاكل مع مديره في العمَل. ثمّ عادَ إلى زوجته بعد أن عانقَني وأمّه بقوّة، وقال لي وهو ينظرُ في عَينيّ: "كلّ شيء سيجري كما يجِب يا بابا... لا تخَف عليّ، فأنا على قدَر المسؤوليّة... أليس ذلك ما علَّمتَني إيّاه؟ سأكون بخير". لِلحقيقة، هو كان يودّعُني عالمًا تمام العلم أنّه سيموت في اليوم التالي.
ماتَ ولدَي، وعندما أموتُ بِدوري ستنكسِر تلك السلسلة اللعينة التي تُفِسدُ حياة ذكور أرادوا إستمداد القوّة والفخر مِن قدرة لَم تجلِبَ لهم سوى الحزن والقلَق. فلِنترك أمر موعد موتنا لِخالقنا، ولنعِش الحياة التي وهبَنا إيّاها بِفرَح وأمل. أجل، ذلك الأمَل الذي هو البلسم لِجروحنا ومتاعبنا وأحزاننا، والذي يُنسينا أنّنا كائنات صغيرة وهشّة تعيشُ في كون شاسع له أسراره.
حاورته بولا جهشان