وجَدَ زوجي ولداً تائهاً

عندما عادَ أيمَن زوجي إلى البيت ومعه ولداً صغيراً خفتُ كثيراً أن يقول لي أنّه منه. ولكن بدلاً مِن ذلك روى لي ما جرى معه:

 

ـ كان نهاري شاقاً جدّاً وطلبتُ مِن مديري في المعمل أن يأذنَ لي بالعودة أبكر مِن العادة، فقبِلَ وطلبَ منّي ألاّ أقول لرفاقي أنّني راحل وأن أخرج مِن الباب الخلفي الذي ينفذ على طريق ضيّق ويلفّ حول المبنى. شكرتُه بحرارة وفعلتُ كما أمرَني. وعندما وصلتُ إلى الطريق سمعتُ صوت بكاءً آتياً مِن وراء مستوعب كبير للنفايات. إقتربتُ لأكتشف ولداً لم يبلغ الربعة مِن عمره. حاولتُ معرفة إسمه وإسم أهله ومكان سكنه ولكنّه بقيَ يبكي بحرارة. نظرتُ مِن حولي فرأيتُ سيّدة جالسة على شرفتها فسألتُها إن كانت رأت ما حدث فأخبرَتني أنّ سيّارة جميلة توقّفَت قرب المستوعب ونزلَ رجل مع الولد وتركَه هنا ورحل. ولم ترَ السيّدة رقم السيّارة أو أيّ شيئاً قد يدلّ على هويّة الفاعل. عندها قررتُ أن آتيَ به إلى هنا لنقرّر ما سنفعله به.

 

ونظرتُ إلى الولد الذي كان لا يزال يمسك بِيَد أيمَن وإبتسمتُ له ولكنّه خافَ منّي وإختبأ خلف زوجي باكياً. وذهبتُ إلى المطبخ وحضّرتُ له بعض الأكل وكوباً مِن الحليب الساخن وقلتُ لأيمَن:

 

ـ ولماذا لم تأخذه إلى الشرطة؟

 

ـ قلتُ... قلتُ أنّنا ربمّا نستطيع إبقاءه معنا...

 

ـ ماذا؟

 

ـ أجل... ليس لدينا أطفالاً... ربمّا أرسلَه الله لنا... مَن يعلم؟

 

ـ حبيبي... هذا الصبّي لديه أمّاً وأباً وأنا متأكدّة أنّهما يبحثان عنه الآن في كلّ مكان... وهما قلقان جدّاً عليه... لو فقدتَ إبنكَ ألن تكون في حالة يرثى لها؟

 

ـ بلى... ولكن...

 

ـ أنظر إليه... ثيابه جميلة وغالية الثمن ما يعني أنّه ليس متشرّداً وهي أيضاً نظيفة أي أنّه تَرَكَ بيته مِن زمن قريب... سندعَه يأكل ثم نتصّل بالشرطة... لا تغضب منّي... ولكن علينا إعادته إلى ذويه.

 


ونظرَ زوجي إليه بحزن ورأى أنّني على حق. وبعد حوالي الساعة جاءَ رجال الشرطة إلى منزلنا وأخذوا الولد وزوجي ليدلي بشهادته. وعندما وصلَ القسم، أخبرَ أيمَن المحقّق كل ما يعرفه فأبقوه معهم إلى حين التأكدّ مِن المعلومات كلّها. كنتُ قلقة جدّاً عليه وندمتُ أنّني دفعتُه إلى الأبلاغ وخفتُ أن يُتّهم بخطف الصغير. ولكنّ التحرّي وجَد المرأة التي رأت الحادثة وأكدَّت أنّ زوجي وصلَ بعدما أُلقيَ الولد قرب القمامة فأطلقوا سراحه وقالوا له أنّهم سيفعلون جهدهم للوصول إلى أهله. عندها طلبَ منهم أيمَن إن كان يستطيع توديع الصبّي فسمحوا له بذلك شرط أن يكون معه شرطيّاً. وعندما دخلَ الغرفة حيث كان ينتظر الولد ركضَ هذا الأخير وعانقه بقوّة. وإمتلأت عيون أيمَن بالدموع وقال له:

 

ـ سترجع إلى أهلكَ... أنا متأكدّ مِن ذلك... عليّ العودة إلى البيت ولكنّني سأتابع المستجدّات... لن أتركَكَ... قلبي كلّه معكَ... قل لي شيئاً... شيئاً واحداً... ما إسمكَ؟

 

ـ توفيق...

 

ـ شكراً يا حبيبي... شكراً يا توفيق على ثقتكَ بي... الآن سأترككَ مع الطبيب ليرى إن كنتَ بخير...

 

وإبقوه حتى أن إنتهى الطبيب مِن كتابة تقريره وأن تأكدّوا أنّ لم يؤذيه توفيق خلال مكوثه عندنا. ومِن بعدها عادَ زوجي إلى المنزل وقلبه حزين. سألتُه:

 

ـ ما الذي سيحصل لهذا الولد الآن؟ أين ستضعوه؟

 

ـ ستأخذه عاملة إجتماعيّة ويضعونَه في ميتم ريثما يجدون أهله.

 

ـ يا للمسكين.

 

وبعد ذلك اليوم لم يعد أيمَن كما عهدتُه، فلم يأكل جيدّاً ولم ينم ليلة بكاملها بل بقيَ مهموماً يتمتم طوال الوقت: "أين هو الآن... هل هو بخير؟." حتى أن رأينا على التلفاز صورة توفيق ومواصفاته فكانت الشرطة لا تزال تبحث عن اهله وبعدما فشلَت بإيجادهم قرّرَت الإستعانة بالإعلام. وبعد أقلّ مِن يوم واحد، تمّ العثور على أمّه وأبيه الذَين ركضوا إلى الميتم لأخذه إلى منزلهما كما أُشيرَ في النشرة الأخباريّة. ولكنّ أيمَن بقيَ مهموماً:

 

ـ هناك خطب ما... مَن هو الرجل الذي رماه على الطريق؟ لا بدّ لي أن أعلم! لن أتركَ توفيق هكذا... لقد وعدتُه...

 

ـ حبيبي... لقد إنتهى كلّ شيء الآن... الصبّي مع أهله الآن... كفّ عن التفكير بالموضوع.

 

ولكنّ زوجي لم يقتنع منّي وقصَدَ التحرّي المسؤول عن القضيّة وأبلغَه عن قلقه. فكان جوابه:

 

ـ أنا ايضاً لستُ مقتنعاً بما رواه لي أبَويه ولكنّني لا أملك أي دليل لإبقاء توفيق معنا وكان عليّ إعادته لهما... علينا إيجاد تلك السيّارة وسائقها...

 


عندها أخذَ أيمَن على عاتقه إيجاد المركبة فعاد إلى ذلك الشارع وسأل جميع السكان إن كان لديهم معلومات عن الموضوع حتى أن وجدَ بائع خضار متنقّل وهذا ما أخبرَه إيّاه:

 

ـ كنتُ واقفاً قرب المنعطف ككل أربعاء مثل اليوم تماماً... فأنا لا آتي إلى هنا إلاّ مرّة في الأسبوع... باقي الأيّام أكون في أماكن أخرى لأتجنّب مضايقات البقّالين الآخرين... رأيتُ السيّارة ورأيتُ سائقها...

 

ـ ورقمها؟

 

ـ لا... أنا آسف... لم يخطر على بالي أن أنظر إلى الرقم لأنّني كنتُ أقول لنفسي لماذا ينزل أب إبنه على الطريق ويتركه ويرحل.

 

ـ لم يكن هذا والده!

 

ـ بلى

 

ـ وكيف علمتَ بذلك؟

 

ـ أوّلاً لأنّ الولد ناداه "بابا" وثانياً لأنّني رأيتُ أهله على التلفاز وهما يستلمانه مِن الميتم.

 

ـ هل أنتَ متأكدّ مِن ذلك؟

 

ـ كلّ التأكيد!

 

عندها أخذه أيمَن فوراً إلى الشرطة ليقابل التحرّي وعادَ مِن بعدها ليخبرني بما حصل:

 

ـ جاؤوا بالأب وتعرّف إليه البقّال المتجوّل وبعد إستجواب لم يدم طويلاً إعترفَ الحقير أنّه هو الذي حاولَ التخلصّ مِن توفيق.

 

ـ ولِمَ يفعل ذلك؟؟!

 

ـ لم يقل... هيّا إرتدِ ثيابكِ... سنذهب لرؤية توفيق وأمّه... لقد سمعتُ الرجل وهو يعطي عنوانه للشرطي... لن ارتاح قبل أن أطمئنّ على الولد.

 

وبالرغم أنّني كنت أرفض التدخّل بشؤون الناس، فعلتُ كما طلبَ منّي زوجي لأنّني كنتُ مدركة كم كان الأمر مهمّاً له وأنّه سيظلّ مهموماً على سلامة توفيق. ودقينا باب الوالدة التي إستقبلتنا بفرح عندما علِمَت أنّ زوجي هو الذي وجدَ إبنها وإهتمّ به وإعاده إلى الشرطة. وعندما رآه توفيق ركضَ إليه وإرتمى في أحضانه ثم نظرَ إليّ وقال لأمّه:"هذه السيّدة أكلها لذيذ!" ضحكنا جميعاً ولكن عندما أخبرَها أيمَن أن زوجها هو الذي قام بالتخلّص مِن توفيق تغيّرَت ملامحها وقالت:

 

ـ أعلم بذلك... لقد أخبرني إبني بالذي حصل... في البدء إعتقدتُ أنّ أحد خطفه ولكنّني لم أجد سبباً لذلك... كان زوجي يبدو مهموماً كثيراً لفقدانه وقال أنّه قلَبَ الدنيا بحثاً عنه وصدّقته... ولكن عندما وجدنا صورة إبننا على التلفاز وركضنا لنأخذه وأخبرَني توفيق كلّ شيء فهمتُ ما جرى فعلاً.

 

ـ ولما يفعل ذلك بإبنه؟؟ ولماذا لم تبلّغي الشرطة فوراً؟

 

ـ توفيق ليس إبنه... بل إبني أنا فقط ... زوجي الأوّل مات عندما كنتُ حاملاً بتوفيق... ولكيّ لا يكبر إبني مَن دون أب تزوّجتُ مجدّداً... ولَيتني لم أفعل فلم يحبّ طفلي بل بدأ يغار وينزعج منه... أحياناً كان يضربه... سكتُّ لأنّني لا أقدر أن أؤمّن لَتوفيق حياة كريمة إن تركتُ زوجي... ولكنّني لم أتصوّر أنّه قد يتخلّص مِن إبني... صحيح أنّني لم أبلّغ عنه الآن ولكنّني أنتظر الفرصة المناسبة لذلك.

 

- وها قد أتَتَ... إنّه في السجن الأن وأنتِ حرّة... إسمعيني... أستطيع تدبير عملاً لكَ في المعمل...

 

- وتوفيق؟

 

- أنا متأكّد أنَ زوجتي ستُسر بالإعتناء به... أليس كذالك يا حبيبتي؟

 

نظرتُ إلى زوجي ورأيتُ عينيه المليئة بالأمل فإبتسمتُ له وأجبتُه:

 

- بالطبع يا حبيبي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button