حتى اليوم أستغربُ عدم معرفتي بالذي كان يجري في بيتي مع أنّني إمرأة ذكيّة أنتبه لأصغر التفاصيل. ولكن هناك أموراً تفوق التصوّر ببشاعتها لِدرجة أنّها لا تخطر على البال. كنتُ قد أصبتُ بمرض خبيث وكنت أخضع لِعلاج طويل ومؤلم جسديّاً ونفسيّاً وطلبتُ مِن حَسَن زوجي أن يأتي لي بمَن يساعدني بالإعمال المنزليّة والإنتباه إلى الأولاد الذين كانوا لا يزالون صغاراً. وإستعنّا بمكتب للتوظيف الذي أمّن لنا عاملة أجنبيّة تجيد اللغة العربيّة والإنكليزيّة كونها عمِلَت مِن قبل في بلدان شرقيّة. ووصَلَت مِسغانا وإستقبلتُها بلطف وأريتُها غرفتها وحمّامها الخاص بها وقلتُ لها أنّها لن تبدأ سوى في اليوم التالي لكي ترتاح مِن السفر. وهكذا بدأت الفتاة بمساعدتي والتعلّم منّي كل ما تجهله لكي تستطيع أخذ مكاني عندما أكون ضعيفة خاصة بعد جلسات العلاج الكيميائي. أحبّوها أولادي وإحترموها على خلاف البعض الذي يعتبر الخدم عبيداً لهم. وحده زوجي كان ينزعج منها وكان يقول لي دائماً:
ـ لا أحبّ أن يعيش معنا غرباء... هؤلاء القوم لديهم عادات وتقاليد وطريقة تفكير مختلفة عنّا...
ـ لا تكن عنصريّاً يا حبيبي ... ألا ترى كيف تحاول تلك المسكينة إرضاءنا جميعاً؟ كم هو صعب أن يترك المرء بلَده وعائلته والعيش مع أرباب عمل لا يعرف عنهم شيئاً...
ـ أعلم ذلك ولكن...
ـ هل صدرَ منها أيّ تصرّف غير لائق أو مقبول؟
ـ أبداً... لا أحبّ الغرباء... هذا كل ما في الأمر.
كنتُ أفهم وجهة نظر حَسَن ولكنّ مِسغانا كانت مساعدة بارعة ومنذ قدومها لم أعد أشغل بالي بالتفاصيل الصغيرة التي كانت تُتعبني دون فائدة. وأصبحَت تعلم كيف تطهو أطباقنا المفضّلة وكل ما يلزم لِجعل حياتنا أفضل. وبعد فترة تحسَّنَ وضعي بعض الشيء وبدأ شعري ينبتُ مِن جديد فعُدتُ أذهب مع صديقاتي إلى المقاهي والتسوّق. وعندما خرجتُ لأوّل مرّة منذ قدوم مِسغانا شعرتُ عندها ببعض الإستياء ولكنّني فهمتُ أنّها قد إعتادَت عليّ معها طوال الوقت وأنّها تلبّكَت لأنّها ستكون مسؤولة عن كل شيء خلال غيابي. ولكنّني طمأنتُها قائلة:
ـ سيجري كل شيء كما يجب... أنتِ إمرأة ذكيّة وتعرفين كيف تقومين بعملكِ... على كل حال لن يطول غيابي.
وخرجتُ وأمضيتُ وقتاً ممتعاً وعندما عدتُ وجدتُ مساعدتي تحضرّ وجبة الطعام. ومنذ ذلك اليوم لم أعُد أبالي إن تركتُها لوحدها لأنّ هي الأخرى تقبّلَت الأمر وإعتادَت عليه. الوحيد الذي بقيَ متردّداً كان حسن. ففي ذات ليلة قال لي:
ـ كيف تتركينها لوحدها في المنزل؟ ومع الأولاد أيضاً؟
ـ وماذا تريدني أن أفعل؟ أن أصتحبُها معي؟ أستطيع فعل ذلك مرّة أو إثنتين ولكنّني بحاجة أن أكون مع صديقاتي لِوحدنا وأن أشعر أنّه بات لديّ حياة طبيعيّة مِن جديد...
ـ وماذا لو حصل شيئاً أثناء غيابكِ؟
ـ لديها رقم هاتفي... لن يحصل شيئاً أبداً... سترى... مِسغانا إمرأة يمكننا الإعتماد عليها...
ـ هذا رأيكِ.
وعلمتُ أنّ لاشيء يستطيع تغيير رأي زوجي بها فلم أعد أناقشه بالأمر وتابعتُ ما كنتُ أفعلُه. ولكن في ذات يوم جاءَت إبنتي الصغيرة البالغة مِن العمر 3 سنوات إليّ باكية وقالت لي:
ـ ماما... غانا...
ـ مِسغانا
ـ مِسغانا واوا...
وركضتُ لأرى إن كانت مِسغانا مريضة ولكنّها كانت بخير. فضحكتُ وأخذتُ إبنتي وقلتُ لها أنّ الكذب عادة سيّئة وأرسلتُها تلعب مع أخوَتها التؤام الذين كانا يكبرانها بسنتَين فقط. ومرَّت الأيّام وزادَ إتّكالي على تلك المرأة التي بدأت تشعر فعلاً أنّها في منزلها وتعطي رأيها في أمور عديدة. وكانت في أغلب الأحيان على حق بالذي تقولُه والأفكار التي تقدّمها وكنتُ ممنونة لها إلى أقصى درجة. وأظنّ أنّ وضعي الصحّي حين وصلَت مِسغانا إلينا وحاجتي الماسّة إليها هو الأمرالذي أعطاها كل هذه الأهميّة بالنسبة لي لأنّني رأيتُ فيها مخلصّتي أكثر مِن عاملة بسيطة.
ولم أرَ حقيقتها إلاّ بعد أكثر مِن سنة وكرهتُ نفسي على عدَم إنتباهي للأشاير التي كانت موجودة مِن حولي. أوّلاً كان هناك شعور حَسَن تجاهها الذي لم يتبّدل مع مرور الوقت بل زادَ إلى حدّ كان سيؤثّر على حياتنا اليوميّة في البيت. وثانياً الأولاد فبالرغم مِن سنّهم الصغير كانوا قد أصبحوا هادئين جداً منذ فترة الأمر الذي أفرحَني بدلاً أن يلفِتَ إنتباهي والتفسير البديهي الذي وردَ على بالي كان أنّ للعاملة طريقة مثاليّة في التعاطي مع الصغار وشكرتُها ضمنيّاً على ذلك. والأمر الثالث كان إصرار أطفالي على مرافقتي كلّ مرّة أخرج مِن المنزل وبكاؤهم المستمّر وهم يودّعونني حتى الباب. ولكنّ معظم الأولاد يرغبون في الخروج مع أهلهم لِذا لم أعِر للأمر أيّة أهميّة خاصة. وكان مِن الممكن أن يستمّر الوضع على ما كان عليه لولا دهاء زوجي الذي كان يخطّط للإيقاع بمساعدتي منذ بعض الوقت.
ففي ذات يوم وبعد أن علِمَ أنّ لديّ إرتباط مع صديقاتي في أحد المطاعم عادَ إلى البيت مِن عمله على غير عادته قرابة الظهر بدلاً مِن المساء. وما رآه يجري عندنا أثّر فيه لمدّة طويلة. فحالما دخلَ منزلنا لاحظَ الهدوء الغريب الذي كان سائداً وأنّ جميع الستائر كانت مُغلقة ما جعلَه يضيء الأنوار في وضح النهار. ثمّ دخلَ غرفة الأولاد ولكنّه لم يجد أيّ منه فبدأ قلبه يدقّ بسرعة. ركضَ إلى غرفة مِسغانا وهناك وجدَها بِصحبة ناطورنا يمارسان الجنس. عندها صرخَ زوجي بهما:
ـ ما الذي يجري؟ أين الأولاد؟ أجيبا! أين الأولاد؟!؟؟
وفي لمحة بصر أخذَ الناطور ثيابه وهربَ خارجاً ليختبئ في غرفته في أسفل المبنى. عندها إقتربَ حَسَن مِن مِسغانا ومسكَها بكتفَيها وهزّها بقوّة ِلتجيبَ على سؤاله فأشارَت بيدها نحو الحمّام. تركَها وأسرعَ إلى الحمّام لِيَجِد أولادنا محجوزين في الداخل بعدما أقفلَت الماكرة الباب عليهم بالمفتاح. كانوا المساكين مرعوبون لا يجرؤون على التكلّم مِن كثرة خوفهم. أخرجَهم حَسَن مِن مكانهم وقبّلهم وطمأنهم ووضعَهم في غرفتهم وأخذَ هاتفه وإتّصلَ بالشرطة بعدما أقفلَ على مِسغانا باب غرفتها لكي لا تهرب. ومِن ثمّ خابرَني وطلبَ منّي أن أرجع فوراً ولكنّه لم يعطِني تفاصيلاً لكي لا أفقد صوابي. وعندما عدتُ إلى المنزل ورأيتُ الشرطة وعلِمتُ بما حصل رحتُ أعانق أطفالي وأطلب منهم السماح لأنّني لم أنتبه إلى ما كان يجري كلّما غبتُ عن البيت وجاءَت العاملة بعشيقها.
وبالطبع تمّ طرد الناطور وسجن مِسغانا بعدما إعترفَت للمحقّق أنَها كانت تقيّد أطفلي أحياناً وتضربهم وتهدّدهم بقتلنا إن تفوّهوا بِكلمة عن الذي يحصل. ومنذ ذلك الحين تغيَّرت أمور كثيرة في عائلتنا فأصبحتُ أثق أكثر بزوجي وبتُّ آخذ حذري مِن الغرباء وأستمع إلى أولادي لأنّني كدتُ أن أفقدهم فمَن يعلم ما كانت تلك المرأة الغريبة ستفعله بعد.
حاورتها بولا جهشان