...وانتقمت لي الحياة

إلتقيتُ بتوفيق عندما كنتُ عند أصدقاء لي. كنتُ مدعوّة إلى العشاء وجلستُ إلى جانبه طيلة الوقت. تحدّثنا كثيراً وأبدى إعجاباً كبيراً بي. كان وسيماً وجذّاباً واستغربتُ أنّ طبيباً بهذه الصفات ما زال عازباً. أنا أيضاً كنتُ عزباء مع أنّني كنتُ قد بلغتُ سنّ الأربعين. لم يكن يُزعجني الأمر فكانت حياتي مليئة بالأصدقاء والنشاطات ولم يعد لديّ الوقت الكافي لحياة غراميّة. نمط حياتي جعلني أبدو أصغر من سنّي وإعتقد توفيق أنني ما زلتُ في الثلاثين من عمري.

أخذ رقم هاتفي وبدأ يتّصل بي بإستمرار. كنتُ أستمتع بأحاديثنا الطويلة عبر الهاتف ووجدتُ أنّ لنا روابط كثيرة. إلتقينا مرّة ثم ثانية وبدأنا نخرج سوياً كلّ أسبوع. كان مسرور جداً بي وعندما سألته لماذا لم يتزوّج حتى الآن قال: "كنتُ أبحثُ عن امرأة مثلك". لم أكن متأكدة من جدّية كلامه حتى طلب أن يتعرّف على أهلي. هنا أدركتُ نواياه تجاهي.

أخبرتُ أمّي عن توفيق وطلبتُ منها أن تُخبر أبي أنّ هذا الرجل الوسيم والناجح يُريد مقابلته. أعددنا مائدة جميلة على شرفه ودعيناه إلى العشاء. جاء مُحمّلاً بالورد والحلويات. قضينا وقتاً ممتعاً وأحبّه أهلي كثيراً. كان من الواضح أنّ أبي وجدَ فيه الصهر المثالي الذي سيُقنع إبنته بالزواج أخيراً.

 


- أنا مسرور بكَ يا توفيق. فإبنتي منال لا تؤمن بالزواج رغم إصرارنا على أن تجد شخصاً تقضي حياتها معه. أصبحتْ في الأربعين من عمرها وهي لا تزال تلهو مثل الفتيات الصغيرات. أُهَنِّئُكَ فأنتَ الوحيد الذي سلبَ قلبها.

 

نظرَ إليَّ توفيق بتعجّب ولم أفهم لماذا. بعد بضع دقائق إستأذن منّا ورحل.

ذهابه هذا كان غريباً ولكن لم نُعره أهمية كبيرة حينها. ولكن عندما لم يتّصل بي توفيق في اليوم التالي علمتُ أنّ شيئاً لم يكن على ما يرام. طلبته على هاتفه فلم يُجب. إنتظرتُ قليلاً وعاودتُ الإتصال حتى قرّر أخيراً أن يُجيب.

 

-حبيبي توفيق، ما الأمر؟ هل أنتَ مريض؟ هل أنتَ بخير؟


- أنا مشغول جداً. أرجوكِ أن تدعيني أعمل. هناك أناس مريضة تحتاج إليّ ولا وقت لديّ للكلام الفارغ.


- توفيق! ما الأمر؟ لماذا تتكلّم معي بهذه الطريقة؟ هل أزعجك شيء خلال وجودك عندنا؟ قلْ لي الحقيقة.


- لا أحبُّ الكذب والنفاق. أضعتُ وقتي معك ووقتي ثمين جداً. لقد كذبتي عليّ وجعلتني أظنّ أنّك أصغر من عمرك الحقيقي.


- لم أكذب عليكَ يوماً! أنتَ لم تسألني عن عمري ولم أقل شيئاً بهذا الخصوص. وما المشكلة بعمري؟


- انا أريد امرأة شابّة تُنجب لي أطفالاً. لما الزواج إذاً؟


- الزواج ليس فقط للإنجاب ولكن هو فرصة تتاح لإثنين يُحبّان بعضهما لكي يعيشا سوياً. وما أدراك أنني لا أنجب أطفالاً؟ قلتَ لي أنّك تحبّني... أين كلّ ذلك الحبّ الآن؟


- لا... لا... لا أريدُ عجوزاً!

 

- عجوزاً! أنتَ في الخمسين من عمرك، أنتَ العجوز! لا أريدُ سماع صوتك بعد الآن! أنتَ إنسان معقّد، ليس لديك أي احترام أو تقدير للمرأة. أنتَ تريدُ فقط ماكينة تعطيك نسلاً. لن تجد السعادة أبداً. أنتَ الذي أضعتَ وقتي! وداعاً!

 


وأقفلتُ الخطّ بقوة. يا للرجل السخيف! لا يستحقّ حتى أن أندم عليه، فلقد عاملني وكأنني شيئاً، لا كإنسانة. أخبرتُ والديّ بما حصل. غضبا كثيراً ولكني قلتُ لهما أنّ شخصاً كهذا لا يستأهل منّا أيّ ردّة فعل.

ونسيته كلّياً حتى جاء يوم ووصلتني بطاقة دعوة لكي أحضر زفافه. يا للسخافة! إعتقد أنني سأشعر بالغيرة أو بالأسف. رميتُ الدعوة في سلّة النفايات.

 

بعد فترة حصل ما لم أكن أتوقّعه: عندما كنتُ في السوبرماركت أشتري بعض الحاجيات إلتقيتُ بربيع، شاب كان يسكن في الطابق العلوي من المبنى حيث أسكن. كنّا نلعبُ سوياً عندما كنا صغاراً حتى غادر هو وأهله وانتقلوا للعيش في فرنسا.

تعرّفَ إليّ رغم مرور سنين طويلة على فراقنا. قبّلته بقوّة على وجنتيه ثم دعاني إلى فنجان قهوة. جلسنا وبدأنا نتذكّر الماضي بفرح. إعترفَ لي أنّه كان يكنُّ لي مودّة خاصّة، واعترفتُ له بنفس الشيء. نظرنا إلى بعضنا وعلمنا حينها أننا لن نفترق مجدداً.

تزوّجنا وشاء القدر أن أُنجبَ فتاةً جميلةً جداً أسميناها أمل. كان ربيع قد قال لي قبل أن نتزوّج : "لا يهمّني أن تُنجبي أم لا. أنا أحبّكِ أنتِ لأنّكِ أنتِ". هنا علمتُ أنّه رجل حياتي، الإنسان المحبّ الذي كنتُ أنتظره.

وفي ذات يوم عندما كنتُ مع زوجي وابنتي نتسوّق في المول إلتقيتُ بتوفيق في المصعد. كان برفقة زوجته الشابة. نظرتُ إليه وقلتُ له وأنا أبتسم:

 

- كيف حالكَ يا دكتور؟ دعني أُعرِّفُكَ على زوجي ربيع وابنتي أمل.


- أهلاً... أهلاً... وهذه غنوة زوجتي.


- وأين أولادك؟ في البيت؟


- لم نُنجب أولاداً...


- يا للأسف... مع أنّ زوجتك صغيرة السنّ.


- لم يشأ القدر أن يكون لديّ ذرّية.


- هذا مؤسف يا دكتور... جدّ مؤسف. أليس كذلك؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button