هل لعنة العجوز حقيقية؟

جرَت أحداث هذه القصّة منذ أعوام عديدة وفي بلدة صارَت اليوم مدينة كبيرة. في ذلك الزمان، كان الناس يؤمنون كثيرًا بالفأل والعقاب الإلهيّ أو غير الإلهيّ... ما دامَ مِن خارج هذه الدنيا. وإن كنّا اليوم نسخَر مِن تلك المُعتقدات، إلا أنّها كانت تُديرُ حياة هؤلاء القوم.

 

بدأَت الأحداث يوم قتَلَ أحد سكّان البلدة عن خطأ كلب امرأة عجوز. كان الحيوان وسط الحرج حين أُصيبَ بطلقة نار مِن بندقيّة صيد. إعتذرَ الصيّاد، الذي اسمه توفيق، بشدّة لهذا الخطأ المُميت، لكنّ العجوز لكثرة حزنها، أطلقَت صارخة الكلمات التالية: "ملعونٌ أنتَ... وملعونة هي عائلتكَ وسلالتكَ إلى آخِر الأزمنة... سيموتُ ذكوركم قتلاً ولن يرفَعَ أحد هذه اللعنة عنكم!".

تجمَّدَ دم توفيق في عروقه، إذ أنّ المرأة بدَت جدّيّة للغاية ولعنتها نابعة من ألَم شديد. فالكلّ كان يعلَم كَم كان يعني لها وجود كلبها في حياتها وإلى جانبها، لأنّها كانت وحيدة في هذه الدنيا. إضافة إلى ذلك، كان الكلب يقودُها حيث تذهب لأنّ نظرها كان قد شحَّ بسبب السنّ. أسرَعَ الصيّاد عند أحد أقربائه لجلب كلب آخَر للعجوز، إلا أنّها طردَته بغضب ونبّهَته مِن الاقتراب مِن بيتها مُجدّدًا.

جالَت أخبار اللعنة أرجاء البلدة، وقَبل بزوغ الضوء، علِمَ الجميع بالحادثة وتداعياتها. وتمّ تبنّي اللعنة على أنّها ستحدثُ حتمًا، ألَم تلفظها عجوز وحيدة ومجروحة في صميمها؟ وبغضون ساعات، ركَضَ السكّان إلى بيت السيّدة المُسنّة حاملين معهم الخضار والفواكه والدواجن والحبوب، كعربون مودّة آملين ألا تطالُهم يومًا لعناتها. وهكذا وُلِدَت تلك الأسطورة وكبُرَت واستمرَّت. لكن لو تمّ تجاهلها على الفور، لماتَت إلى الأبد. فلِتشتعِل النار يلزمُها ما يوقدُها، وباستمرار، وإلا انطفأَت.

إجتمعَت نساء البلدة وبالأخصّ أمّهات عائلة الصيّاد اللواتي خفنَ على أولادهم مِن اللعنة، وقرَّرنَ قصد العجوز والتماس الرحمة والمُسامحة منها. لكن لسوء حظهنّ، توفِّيَت المرأة جرّاء سقوطها وكَسر عنقها. وتعالى الصراخ، فالكلّ أدركَ أنّ العجوز سقطَت لأنّ كلبها لَم يكن موجودًا ليدلّها على الطريق، الأمر الذي زادَ مِن حجم المسألة. فلَم يعُد هناك مِن أمَل برَفع اللعنة، بل إنّ العجوز قد تكون تلعَن تلك العائلة مِن حيث صارَت، أيّ العالَم الآخر.والغريب في الأمر، هو أنّ تلك النساء لبِسنَ الأسود على العجوز، وأيضًا على أولادهم وأزواجهم وإخوتهم... مُسبقًا! ومنذ موت المرأة المُسنّة، سادَ البلدة جوّ مِن الخوف والحزن.

 

جدّتي سميرة، التي كانت آنذاك فتاة صغيرة، لَم تفهَم لماذا أمّها تبكي باستمرار، مُرتديةً ملابس سوداء لا تخلعُها أبدًا. فالواقع أنّ جدّتي هي ابنة توفيق، الصيّاد الأخرَق. مِن جانبه، تجاهَلَ أبوها كلّ التنبيهات التي تلقّاها مِن أهالي البلدة والتي تقضي بالاحتراس على نفسه وعلى ولدَيه الذكور. فهو كان يُردّد لِمُستمعيه: "ما بالي وبال تخريفات عجوز؟ لن أخاف ولن أحترِس، فلقد قتلتُ الكلب سهوًا وهذا كلّ ما في الأمر! لن أموت قتلاً بل سأُغمضُ عَينَيّ بسلام في فراشي عن عمُر مُتقدِّم وكذلك جميع ذكور عائلتي!". لكنّ ذلك لَم يحدث، فلَم يعِش أب جدّتي ليصير عجوزًا ولَم يمُت في سريره، بل بطريقة... قريبة للغاية مِن موت ذلك الكلب. فلقد ماتَ الصياد مِن جرّاء رصاصة طائشة أصابَته في رأسه يوم كان يحضرُ زفافًا، وقرّرَ أحد المدعوّين إطلاق النار فرَحًا.

لن تتصوّروا وطأة ما حصَلَ على زوجته ونساء العائلة اللواتي خِفنَ أن يكون مَن يُحبّونه هو التالي، لِذا أرسلنَ إلى الخارج ذكور العائلة بالرغم مِن صغر سنّهم، ظنًّا منهنّ أنّ لا مفعول للعنة سوى في البلَد. أمّا بالنسبة لأخ توفيق، فقد بقيَ لوحده في البلَد وانتقَلَ إلى العاصمة حيث فتَحَ محلاً. لكن بعد حوالي السنتَين، دهسَته سيّارة مُسرعة ومات. شكرَت أمّ جدّتي ربّها أنّها أرسلَت ابنَيها بعيدًا وبقيَت تُصلّي ليلاً نهارًا ليحفظهما الله ويُبعد عنهما شرّ العجوز الميتة.

مرَّت السنوات مِن دون أحداث تُذكّر وصارَت سميرة صبيّة جميلة. لكنّ العرسان بقوا بعيدين عنها، فمَن يدري، قد تكون اللعنة تمتدُّ أيضًا للأنسباء! خافَت جدّتي طبعًا أن تبقى عانسًا، خاصةً في ذلك الزمان حيث على البنت أن تتزوّج قبل سنّ مُعيّن، مع أنّها لمَ تُصدّق يومًا تلك الرواية التي وصفَتها بالسخيفة. فهي حاولَت كثيرًا إقناع النساء بأنّ موت أبيها وعمّها مُجرّد حوادث تقَع كل يوم لأيّ كان، لكن مِن دون نتيجة. وأمام حيرتها، قامَت والدتها بإرسالها إلى الخارج حيث هم أخَواها وأولاد عمّها، غير مُدركة أنّها غيَّرَت بذلك مصير بنتها بشكل جذريّ.

ففور وصول سميرة أمريكا، وقَعَ بحبّها إبن عمّها وسام الذي قرّرَ أنّه لن يعيش بعد ذلك مِن دونها. هي الأخرى أحبَّته. وبعد أن حصلا على موافقة العائلة شرط ألا يعودا يومًا إلى مسقط رأسهما، عقدا قرانهما في الغربة.

لكنّ أحد أخوة سميرة لَم يتقبَّل كيف أنّ وسام أُعجِبَ بأخته، لأنّه واعدَها سرًّا في البدء قبل أن يتزوّجها. وأعتبَرَ أخوها أنّ ذلك مِكر مِن قِبَل ابن عمّه فنَمَا في قلبه كره كبرَ مع الوقت. وهكذا، صارَ الشابّان يتشاجران لأيّ سبَب مهما كان بسيطًا. لَم يفهَم وسام لماذا أخ زوجته يتواقَف معه على الدوام، فليس هناك مِن سبب وجيه. إلا أنّه ردَّ الأمر لضغط الحياة حيث هم، فتذكّروا أنّهم هاجروا منذ ما يُقارب المئة سنة، أي حين كانت الحياة صعبة والحصول على لقمة العَيش أمر يتطلّب العناء.

حمِلَت جدّتي وعمَّت الفرحة... إلا إذا كان الجنين ذكرًا، فبقيَ لدى العائلة خوف مِن اللعنة. إلا أنّ جدّتي كانت، كما ذكرتُ سابقًا، لا تؤمِن بهذه الأمور.

 

وذات يوم، وقَعَ شجار عنيف بين وسام وأخ جدّتي الذي أخرَجَ سكّينًا مِن جَيبه. وليُدافع عن نفسه، أخرَجَ وسام أيضًا سكّينه وسط صراخ الموجودين. وعند انتهاء المعركة التي جرَت بين الرجُلَين، ماتَ كلاهما جرّاء جروحهما البليغة. أجل، توفّيا قتلاً كما أرادَت تلك العجوز أن يحصل، حتى لو وقَعَ ذلك على غير أرض البلَد.

بكَت سميرة لأشهر طويلة موت أخيها وزوجها في آن معًا، ولَم يُواسِها سوى ولادة... إبنها. وعندها اكتشفَت جنس طفلها، كادَت المسكينة أن تفقدَ عقلها! فكيف لها أن تقبَل بخسارة أخرى خاصّة أنّها باتَت تؤمِن باللعنة كغيرها؟ وإلى أين تذهب به في حين لا حدود جغرافيّة للّعنة ولا إمكانية للهروب منها؟ لِذا هي فضّلَت العودة به إلى بلَدها حيث تكون مُحاطة بالعائلة والأصدقاء. صحيح أنّهم لن يستطيعوا حماية ابنها، لكن وجودهم كان مُطمئنًا ولو بعض الشيء.

وهكذا وجدَت سميرة نفسها أرملة باكرًا، وأمًّا لِولَد قد يلقى مصرعه في أيّة لحظة، بعد أن اقتنعَت تمامًا بموضوع اللعنة. وهي لَم تذق طعم النوم والفرَح أو راحة البال، بل أحاطَت ابنها وكأنّه قطعة زجاج هشّة قد تنكسِر في أيّة لحظة. وكبُرَ ابنها وحيدًا ومُنعزلاً وسط نساء لابسات الأسوَد، وعلى وجههنّ علامات الخوف والقلق والحزن الدائم.

لَم يحدُث شيءٌ على مرّ السنوات، لكنّ ولَد سميرة باتَ غريب الأطوار ويغيبُ لساعات طويلة في الحرج بالرغم مِن توصيات أمّه، ليعودَ ويدخُل غرفته مِن دون حتى إلقاء التحيّة.

 

وفي أحد الأيّام، لحِقَت جدّتي بابنها لترى أين وكيف هو يقضي كلّ ذلك الوقت، فوجدَته جالسًا داخل بيت العجوز المهجور ويتكلّم مع شخص غير موجود. فتصوّروا رعبها لدى رؤيتها ذلك المشهد! عندها أسرعَت إليه صارخة به:

 

ـ مع مَن تتكلّم؟!؟

 

ـ مع صاحبة البيت... هي لطيفة للغاية لكنّها حزينة، فالكلّ يكرهُها ويشتمُها باستمرار.

 

ـ هي قالَت لكَ ذلك؟ يا إلهي... إبني فقَدَ عقله! أو ما هو أسوأ، إنّه يتكلّم مع الموتى!

 

ـ الخالة لَم تكن جدّيّة في ما قالَته عن موت ذكور عائلتنا، بل كانت مُستاءة لفقدان كلبها العزيز. عليكِ، يا ماما، الكفّ عن تصديق تلك القصّة وخَلع الأسود أنتِ وباقي النساء، فالحياة أجمَل مِن أن نقضيها بالخوف والبكاء.

 

ـ وما أدراكَ بالحياة؟

 

ـ الخالة تُخبرُني الكثير مِن الأمور خلال جلساتنا سويًّا... هي قالَت لي إنّني سأصبحُ طبيبًا ماهرًا وأُداوي أوجاع الناس.

 

ـ كيف ذلك وأنتَ بالكاد تذهب إلى المدرسة؟ فأنا أعلَم أنّكَ في مُعظم الأحيان لا تدخل المدرسة بل تأتي إلى هنا. وإن كنتُ أسكتُ عن هذا الأمر فبسبب خوفي عليكَ مِن مرَض قد تلتقطه مِن رفاقكَ في المدرسة، فالحرج بالرغم مِن مخاطره يبقى مكانًا أكثر أمانًا بالنسبة لكَ.

 

ـ سأصبحُ طبيبًا، سترَين، فالخالة لا تكذب!

 

لَم تعرِف سميرة ما عليها فعله بشأن ابنها، لذلك تركَته يتصرّف على حرّيّته، طالما هو لا يضَع نفسه في خطر مُميت.

وهذا الولَد هو... أبي الذي كبرَ وتعلَّم، وبفضل الخالة العجوز، حسب قوله... صارَ طبيبًا. وكلّما كان والدي يروي قصّته، كان يقولُ بفرَح: "هي حمَتني مِن الأخطار لأنّها كانت مُصرّة أن يفهَم الناس أنّ لا دخلَ لها بموت جدّي وأخيه أو موت أبي وخالي، بل هي حوادث تحصل كلّ يوم لملايين مِن الناس حول العالم. وكان مِن الضروريّ أن أعيشَ لأثبتَ للكلّ أنّها بريئة ويكفّون عن شتمها وكرهها كي ترتاح روحها أخيرًا". وللذين وصفوه بالمجنون أو الكاذب لأنّه كان يتكلّم مع ميتة، كان يُجيب: "لا يهمُّني رأيكم بي، فأنا طبيب وأُداوي الأمراض والآلام وأحبُّ مهنتي ورسالتي. إحتفظوا برأيكم كما أنا أحتفظُ بروايتي".

 

لا أدري إن كان أبي بالفعل يتكلّم مع العجوز، أم أنّه وجَدَ في ذلك البيت المهجور ملاذًا يُناسبُه، وبالخالة إنسانة وهميّة تستمعُ إليه ولمشاكله. لكن ما أعرفُه، هو أنّ أبي وصَلَ إلى هدفه المهنيّ وأنّه إنسان مُحبّ وعطوف وكريم، لأنّه يُداوي نصف مرضاه مجّانًا وكلّهم يدعون له بالخَير والسعادة. وبسببه، أنا أيضًا صرتُ طبيبة وأمشي على خطاه... مِن دون أن أُكلّمِ الموتى طبعًا!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button