هل لحبّ المال حدود؟

كانت سعاد قد أخبرَتني قَبل أن نتزوّج عن حبّها المُفرَط لِصرف المال على التسوّق، ولَم أرَ مانعًا في ذلك... آنذاك. فأحبُّ أن تكون زوجتي سعيدة وحاصلة على كلّ ما تشتهيه نفسُها، ضمن الإمكانات طبعًا. مِن هذه الناحيّة، لَم تكن لدَيّ مُشكلة، فكنتُ موظّفًا كبيرًا في شركة كبيرة أيضًا، وراتبي يتحمّلُ تلبية نزوات زوجة. إضافة إلى ذلك، كنتُ على إطّلاع على طفولة سعاد الصعبة، إذ أنّها كبرَت في العَوز بعد أن توفّي والدها. وأيّ انسان لدَيه أدنى معرفة بالناس، سيفهم حاجة زوجتي للحصول على ما لطالما تمنَّته، حتى لو أنّها هي الأخرى صارَت مُرتاحةً مادّيًّا وتعملُ وتجني ما يكفيها.

فرَشنا الشقّة بأفضل أثاث، ولَم أدَع زوجتي تدفعُ قرشًا واحدًا، لا بل قلتُ لها: "راتبكِ هو لكِ، إصرفيه كما تشائين فأنا لا أرضى بِغير ذلك. أنا رجُل بكلّ ما للكلمة مِن معنى، ومسؤول عن بيتي وزوجتي ولاحقاً أولادي". ليس ذلك وحسب، بل أعطَيتُها إحدى بطاقاتي الائتمانيّة لترى مدى جدّيّتي. عانقَتني سعاد بحبّ وإعجاب وتحضَّرنا لِخوض حياة هنيئة. هنيئة؟!؟ لو عرفتُ إلى أيّ مدى سعاد مفتونة بالمال وصرفه، لمَا تزوّجتُها. فالذي بدأ صغيرًا، صار يكبُر على مدى الأشهر والسنوات لِيَبلغ حدًّا لا يتحمّله أحد. أنا لستُ بخيلاً يا ناس! على كّل الأحوال، ستحكمون بنفسكم حين تقرؤون كلّ تفاصيل قصّتي.

في البداية عشتُ مع سعاد أيامًا جميلة، فهي كانت زوجة صالحة ومُحبّة. كنّا نجتمع في الصباح حول مائدة الفطور، وفي المساء لتناول عشائنا ثمّ نقصد غرفة النوم. خلال فرصة نهاية الأسبوع، كنّا نخرجُ إمّا لوحدنا أو مع أصدقائنا إلى المطعم؛ وهي حياة هنيئة يتمنّاها كلّ أنسان.

إلى أن بدأَت تصلُ فواتير البطاقة الائتمانيّة التي أعطيتُها لزوجتي وكان المجموع كبيرًا. لَم أقُل لها شيئًا إذا أنّ مُعظم المُشتريات كانت مخصّصة للبيت، والبعض الآخر لعدد مِن الألبسة والأحذية. قلتُ لنفسي إنّ سعاد ستخفِّف مِن ذلك المصروف حين تشتري كلّ ما يلزمها.

لكن عندما لَم يتغيّر شيء، إضطرِرتُ لوضع سقف للبطاقة، الأمر الذي أثار استنكارها. شرحتُ لها أنّ ما تفعله ليس له معنى، بل هي تشتري الأشياء نفسها تكرارًا، وأنّنا بحاجة إلى ذلك المال لأغراض أخرى. عندها سمعتُها تنعتني للمّرة الأولى بالبخيل، الأمر الذي أزعجَني كثيرًا، إلاّ أننّي لَم أتراجع ورأَت زوجتي نفسها مُضطرّة للتخفيف مِن صرفها.

 


لكنّ سعاد لَم تستلِم، بل صارَت جافّة معي ولَم تُعد تقول لي كلمات جميلة وعاطفيّة، وامتنعَت لاحقًا عن القيام بواجبتها الحميمة بِحجَج عدّة. كانت تبتزُّني على طريقتها وانا فهمتُ الرسالة. سألتُها عمّا تريدُ لِتعودَ كما في السابق، فأجابَتني: "إفتَح لنا حسابًا مشتركًا في المصرف، فلا أطيقُ أن يحدَّ أحد، مهمَن كان، مِن إمكاناتي. لستُ مُراهقة أو موظّفة لديكَ، أنا زوجتك."

نفّذتُ لها طلبَها فقط لأستعيد حياتي السابقة معها، وفتحتُ الحساب المذكور ووضعتُ فيه المبلغ الذي هي أرادَته، واعدًا إيّاهّا بأن أزيدَ الحساب شهريًّا. عندها فقط عادَت المياه إلى مجاريها بيننا، واستطعُت الاستمتاع بحبّ سعاد كما يجب.

مرَّت الأشهر مِن دون أن يحدث شيء يُذكَر، ونسيتُ أمر الحساب المُشترك خاصّة بعد أن حصلتُ على ترقيَة في عمَلي. حينها طلبَت منّي زوجتي أن أضَع مبلغًا شهريًّا أكبر في الحساب، بعد أن ارتفعَ راتبي بشكل ملحوظ. لَم أرَ مانعًا في ذلك لأنّني اطّلَعتُ على الرصيد ووجدتُ أنّ سعاد لَم تصرف منه سوى القليل. هي أقنعَتني قائلة: "قد نحتاجُ إلى المال في حال صرنا والدَين، فالولَد يتطلّب مصروفًا كبيرًا، خاصّة إن أردنا وضعه في مدرسة تليقُ بِنمط حياتنا". فكرة الإنجاب أفرحَت قلبي إذ كنّا لَم نُرزَق بأولاد بعد. عرِفَت سعاد كيف تستميل قلبي إلى طلبها، وهكذا خصّصتُ مبلغًا شهريًّا كبيرًا للحساب، مِن دون أن يخطر ببالي ما كانت تنوي فعله.

تفاجأتُ كثيرًا حين اكتشفتُ يومًا أنّ زوجتي تقتطِع مبلغًا شهريًّا مِن الحساب مِن دون مُبرّر. وحين سألتُها عن الموضوع، صرخَت بي:

 

ـ ما بكَ لا تُفكّر سوى بالمال؟ لو علِمتُ أنّكَ رجُل بخيل لَما تزوّجتُكَ!

 

ـ لِما هذه الكلمة البغيضة؟ وهل أنقَصتُ عليكِ شيئًا منذ زواجنا؟

 

ـ طلبتُ منكَ إنشاء هذا الحساب كي لا أسمَع التوبيخات منكَ! دَعني وشأني!

 

أخرسَتني زوجتي، فآخر ما كنتُ أُريدُه كان أن تتعكّر أجواء بيتنا.

علاقتي بأهل زوجتي كانت فاترة بعض الشيء، لأنّني طالما اعتبرتُهم مُختلفين عنّي مِن نواحٍ عديدة. زارَتنا أمّها وأخوها قليلاً، ولَم أرَهما سوى خلال فترة الخطوبة ولاحقًا ليلة الفرَح وبُمناسبة الأعياد. لِذا لَم أعرِف أنّ أخ سعاد قد سافَرَ إلى اليونان واستقرّ هناك. ولَم أعرف أيضًا أنّ أمّه لحِقَت به بعد فترة وصارَ بيتهما خاليًا. إلا أنّ زوجتي كانت تقولُ لي إنّها تزورُهما بانتظام، الأمر الذي وجدتُه طبعًا عاديًّا.

 


حمِلَت سعاد أخيرًا وكنتُ أسعَد الرجال، إذ أنّ طفلاً هو ما كان ينقصُني لاكتمال حياتي. وعندما أبصَرَ ابني النور، أقنعَتني سعاد بِبَيع قطعة أرض كبيرة ورثتُها عن أبي، ووضع ثمنها في الحساب المُشترك مِن أجل تأمين حياة ابننا لو حصَلَ لي مكروه. فتكاليف حصر الإرث باهظة، وابننا أحقّ بكلّ قرش. أخذَت زوجتي مولودنا لتُريه لأمّها "المريضة"، وبعثتُ لها معها سلاماتي الحارّة ودعائي للشفاء العاجل.

قد تقولون إنّني بالفعل أستحقُ ما حصَلَ لي لاحقًا، لأنّني مشيتُ كالنعجة على الطريق الذي رسمَته لي زوجتي. إلا أنّ الأمور لَم تكن في الواقع مُريبة كثيرًا. للحقيقة، سعاد كانت زوجة مُمتازة ولَم أشتكِ منها يومًا. صحيح أنّها كانت تُحبّ المال، لكنّها عرفَت كيف تُعاملُني على الصعيد اليوميّ. لو كنّا في ضيقة ماليّة أو أنّ راتبي كان صغيرًا، لكنّا قضَينا وقتنا بالمُشاجرة على مصروفها. إلا أنّني، كما ذكرتُ، كنتُ بالفعل ميسورًا.

بعد حوالي السنة، أخبرَتني زوجتي أنّ أخاها وأمّها سافرا للتوّ، الأمر الذي لَم يكن صحيحًا إذ أنّهما كانا قد استقرّا في اليونان منذ فترة. وعرضَت عليّ أن نزورهما يومًا. أعجبَتني الفكرة، فكنتُ بحاجة إلى أخذ استراحة مِن نمَط عمَلي المُرهِق. وعدتُها بالسفَر خلال الصيف، أي بعد ثمانية أشهر. عانقَتني سعاد بِفرَح وقبّلَتني قائلة: "أنتَ أفضل زوج في العالم!".

لكنّ سُعاد لَم تستطِع الانتظار لكثرة شوقها لذويها، لِذا اقترحَت أن تذهب وابننا إلى اليونان وأن ألحقَ بهما حين يتسنّى لي ذلك. أضافَت أنّ والدتها لَم ترَ ولدنا منذ أكثر مِن سنة، وبهذه الطريقة ستستمتِع به لفترة أطول.

ودّعتُ زوجتي وابني في المطار واعدًا بموافاتهما بعد حوالي الشهرَين. في ذلك اليوم بالذات لَم أكن أعلَم أنّني لن أرَاهما مُجدّدًا. ولَم أكن أعلَم أيضًا أنّ سعاد أفرغَت حسابنا المُشترك كليًّا آخذةً معها كلّ ما أملك.

بقينا على اتّصال يوميّ عبر الهاتف والفيديو، ولكن حين وصلتُ مطار أثينا لأُوافي أخيرًا عائلتي، تفاجأتُ بأمر حَظري دخول البلد. حسبتُ طبعًا أنّ هناك خطأ ما، إلا أنّ أمرًا بالإبعاد صدَرَ ضدّي بعد أن ادّعَت سعاد أنّها هربَت منّي بسبب تعنيفي لها وللولَد وتهديدي لها بالقتل. لَم أُصدّق أذنَيَّ طبعًا، وحاولتُ إقناع سلطات المطار بأنّ هناك حتمًا تشابه بالأسماء، إلا أنّهم أعادوني إلى بلدي بالقوّة.

وبدأَت معركة عنيفة بيني وبين سعاد، مِن خلال مُحاميّ ومُحامي المُنظّمة التي التجأَت إليها زوجتي والتي تُعنى بالنساء المُعنّفات. إكتشفتُ طبعًا أمر إفراغ الحساب المُشترك لنا، وسفَر أهلها منذ فترة وشرائهم جميعًا بيتًا وحصولهم على إقامة دائمة في اليونان. فهمتُ أنّ التي أحبَبتُها خطّطَت لأخذ مالي وابني، وتَركي بعد أن تؤمّن حياة جديدة لِذويها. كَم كنتُ مُغفّلاً راجعتُ برأسي كلّ الأمور التي دلَّت على تلك المكيدة ووجدتُها واضحة للغاية، هذا لو جمعناها ببعضها. لكن مُفرّقةً، لَم يكن مِن السهل ربطها في ما بينها. يا للماكرة!

بالطبع لَم أعُد أُريدُ زوجتي بعد الذي فعلَته بي، إلا أنّني ناضَلتُ مِن أجل ولَدي الحبيب، لكن مِن دون جدوى. فلن يُسمَح لِـ "مُعنِّف" بالحصول على الحضانة، مهما حاول. وكأنّ ذلك لَم يكن كافيًا، أمرَتني المحكمة بِدفع مصاريف ابني بالعملة الصعبة.

إنقلبَت حياتي رأسًا على عقَب ولَم أعُد أملكُ رغبة في العَيش. صرتُ وحيدًا في بيت كبير، لا أفكّرُ سوى بصغيري الذي سيكبُر مِن دوني وفي رأسه مئة رواية سيّئة عنّي. تضامَنَ أهلي وأصدقائي معي، فهم يعرفون جيّدًا كيف عامَلتُ سعاد وابني، وأنا شاكرٌ لهم فلولاهم لأنهَيتُ حياتي.

مرَّت السنوات ولَم أتزوّج مِن جديد، فكيف أثِقُ بامرأة بعد الذي فعلَته بي سُعاد؟ على كلّ الأحوال، رأسي مشغول بكيفيّة رؤية ابني، ولقد استعَنتُ بتحرٍّ خاص موجود في اليونان الذي يُطلعُني بصورة دائمة على صحّة وتحرّكات ولَدي. هو يبعثُ لي الصّوَر والفيديوهات، وأنا أتمسَّك بهذا الكمّ مِن التقارب، على أمل أن يأتي يوم وأحضنُه وأُقبِّله وأعيشُ الأبوّة التي حُرمِتُ منها.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button