لَم أكن دائمًا مُشاغبة بل كنت فتاة هادئة ومُطيعة، كما يتمنّى الأهل أن يكون أولادهم. لكن مع السنوات، نما في قلبي غضب عارم ضدّ والدَيّ فاعتبرتُهما عدوَّيّ. أعلمُ الآن أنّ مُعظم المُراهقين يثورون ضدّ سلطة والدَيهم لإثبات شخصيّتهم، وأنّ تلك المرحلة هي عابرة وتُعالَج ضمن جدران البيت ليعمّ التوافق بعد ذلك. إلا أنّ أمّي خافَت ألا تكون قادرة على لَجم تصرّفاتي، وأن ينتهي بي الأمر صبيّة ذات سلوك مُنحرف. للحقيقة، على الأهل أن يثقوا بأنّ تربيتهم كافية لوضع الأسس اللازمة لأولادهم، وتحمّل فترات عصيان تكون عادة سليمة وغير مُؤذية لصاحبها ومُحيطها. لِذا هي أقنعَت أبي بأن أرى طبيبًا نفسيًّا لمعرفة سبب تصرّفاتي ومُعالجتها. هل هي كانت تُلقي العبء والمسؤوليّة على غيرها في حال لَم أصطلِح؟
قد تتساءلون عمّا كنتُ أفعلُه لأستحقّ المُعالجة النفسيّة، وهذا السؤال بالذات دارَ في رأسي لفترة. فالواقع أنّني كنتُ فقط دائمة الغضب ولا أنفّذ ما يُطلب منّي. لَم أكن قليلة التهذيب أو الأخلاق، ولَم أُعاشِر شبّانًا أو أتعاطى المُخدّرات أو حتى السيجارة العاديّة. حاولتُ الوقوف بوجه قرار والدَيّ في ما يخصّ الطبيب النفسيّ، لكن مِن دون نتيجة.
إختارَت أمّي لي طبيبة نفسيّة وليس طبيبًا لسبب لَم أعرفه، ورحتُ معها إلى جلستي الأولى. علِمتُ لاحقًا أنّني سأقصدُ الأخصّائيّة لوحدي بعد ذلك.
أحبَبتُ الدكتورة صونيا بالرغم مِن رفضي القاطع التعاون معها، فإن كان أبوايَ مَن غصَبني للعلاج فهذا ليس ذنب المُعالجة. لِذا قضَيتُ أوّل جلسة لي معها لوحدنا رافضة الكلام. وهي إحترمَت إرادتي فسكتَت هي الأخرى. إنتهَت مُدّة الجلسة فوقفتُ وأسرعتُ بالخروج. لكن قبل أن أترك مكتبها، قالَت لي صونيا: "أنتظرُ عودتكِ بفارغ الصبر" وابتسمَت لي. شعرتُ بدفء مُفاجئ، فلَم يبتسِم لي شخص ناضج منذ زمَن بل كانوا كلّهم يوبّخوني طوال الوقت.
فكّرتُ مُطوّلاً بتلك البسمة، لِذا كنتُ أكثر تعاونًا مع الطبيبة في جلستنا التالية، لكن طبعًا ليس كما يجب. فلا تنسوا أنّني كنتُ لا أزال مُراهقة وبعيدة كلّ البُعد عن عالم النفس البشريّة.
وحين صرتُ أثقُ فعلاً بصونيا، بدأتُ أروي لها إمتعاضي مِن أبوَيّ وكيف أنّهما لا يسمحان لي بالقيام بما أُحبُّه بل ما هما يُحبّانه، أو بالذهاب للقاء صديقاتي في المُجمّع التجاريّ أو السينما لوحدي. هي هزَّت برأسها لكنّها لم تتدخّل بحديثي لا إيجابًا ولا سلبًا. للحقيقة، إرتحتُ لِمُجرّد التكلّم عمّا يزعجُني والذي كان، كما ذكرتُ سابقًا، إنزعاج كلّ مُراهق مِن أهله. وكلّ ما كان على الطبيبة قوله في مرحلة لاحقة هو أنّني لا أختلفُ عن غيري، وأنّ والدَيّ هما تمامًا كباقي الأهل. وكان عليها تطميني بأنّ امتعاضي سيزولُ مع الوقت وسأُنساه مِن تلقاء نفسي، وأستأنفُ حياتي السليمة مع سكّان البيت. إلا أنّها اتّخذَت منهجًا مُغايرًا تمامًا. فما قالَته صونيا أدهشَني وأفرحَني في آن واحد:
ـ أفهمُ ضياعكِ وغضبكِ يا صغيرتي... أفهمُه جيّدًا. وإن كنتِ تتوقّعين أن أردّكِ إلى ذراع هذَين الشخصَين، فأنتِ مُخطئة. فالأمر سيكون وكأنّني أرمي بكِ في فم الأسد... أجل، سينهشانكِ بلا وخزة ضمير.
ـ لستُ أفهَم يا دكتورة!
ـ ليس عليكِ الفهم، بل فقط الاستماع إليّ... ألَم أستمِع إليكِ خلال عدد لا يُحصى مِن الجلسات؟ الآن حان دوري للتكلّم. كلّ ما عليكِ استيعابه هو أنّكِ ضحيّة والدَيكِ كما يحدث للكثيرات. يُريدان سحقكِ ولاحقًا رميكَ في أحضَان أوّل عريس يتقدّمُ لكِ، أجل، يُحضّرانكِ لتكوني لُعبة مُطيعة لزوجكِ... هؤلاء الناس ليس لدَيهم أيّ ضمير!
ـ لكن ما عسايَ أفعل؟
ـ سأُعلّمُكِ كلّ ما تحتاجين معرفته... كلّ شيء في أوانه... لكن عليكِ حفظ سرّيّة جلساتنا وإلا قُضيَ عليكِ، فسيسحبانكِ منّي وتصبحين مِن جديد ملكهما. أهذا ما تريدينه؟
ـ بالطبع لا! أنا لَم أعُد أُطيقُهما على الإطلاق.
ـ أتساءل ماذا ستشعرين حيالهما عندما أُبرزُ لكِ كامل حقيقتهما.
لَم أدرِك حينها أنّ صونيا إنسانة مُضطربة لأقصى درجة، لا بَل مجنونة!
وجود سرّ بيني وبين صونيا كان أمرًا مُثيرًا، أضفى على حياتي تشويقًا ساعدَني على تحمّل حياتي اليوميّة مع أهلي. وصارَت مواعيد الجلسات أمرًا أترقّبُه بفارغ الصبر. وفي تلك العيادة، كنتُ أستمِع إلى الطبيبة وهي تُحلّلُ لي بالتفاصيل نفسيّة والدَيّ ومُخطّطهما الدنيء في ما يخصُّني. لكنّها لَم تقُل لي في تلك المرحلة ما عليّ فعله أو عدَم فعله. كان الأمر وكأنّها تُعلّقُ أهميّة كبرى على إتّهام أبوَيّ بارتكاب أخطاء جسيمة أو التخطيط لها. حاولتُ مرّات عديدة لَفت انتباهها إلى أنّهما لَم يكونا بهذه الفظاعة إلّا أنّها لَم تسمعني بل تابعَت الوصف والاستنتاج. بدا لي أنّها تتكلّم عن أناس آخرين، لكن سرعان ما نسيتُ تلك الفكرة لتحلّ مكانها أخرى: عليّ الإفلات مِن قبضة هذَين الشرّيرَين قبل فوات الأوان.
علّمَتني صونيا كيف أدّعي أمام والدَيّ الطاعة والاستسلام، مُضيفة أنّني بذلك أكونُ أذكى وأقوى منهما، وأُزيحُ في آن واحد عنّي طغيانهما، وأضمنُ استمراريّة الجلسات.
وهي لَم تكن على خطأ فلقد سمعتُ أمّي تقول لأبي: "يبدو أنّ تلك الطبيبة بارعة، فابنتُنا تتحسّن يومًا بعد يوم".
أتحسّن؟ يا لَيتهم يُدركون ما ينتظرهما! فرحتُ أنّ خطّة صونيا كانت ناجحة لكنّني لَم أتفاجأ بالأمر، فهي كانت في آخر المطاف طبيبة مشهورة وتعرفُ كلّ ما يدورُ في ثنايا النفس البشريّة. ويا لَيتها درسَت نفسيّتها قبل أن تتعامَل مع مرضاها! فعقَدها النفسيّة كانت عميقة وقديمة، وهي بدلاً مِن أن تعترف بها وتُعالجها، حجبَتها ونقلَتها إلى الآخرين.
وفي إحدى جلساتنا، قالَت لي الأخصّائيّة:
ـ أظنّ أنّكِ جاهزة... هل أنتِ جاهزة؟
ـ جاهزة لماذا؟
ـ للتصرّف... فلقد طمأنّا بال أهلكِ وهما لا يدريان بما نُخطّط له.
ـ وماذا نُخطّط له، فحتى اليوم لَم تقولي لي شيئًا سوى الحديث عن مكر والدَيّ.
ـ ستهربين مِن البيت، فهذه هي الطريقة الوحيدة للإفلات مِمّا ينتظرُكِ.
ـ أهرب؟ لأذهب إلى أين؟ إلى بيتكِ يا دكتورة؟
ـ لا! فلا أُريدُ تشويه سمُعتي المهنيّة. إضافة إلى ذلك، بيتي سيكون أوّل مكان يبحثون فيه عنكِ ، فلا تنسي أنّني الإنسانة الراشدة الوحيدة التي تتعاملين معها. لا... لدَيّ مسكن آخر في الجبل... ورثتُه مِن... مِن... لن أُسمّيهما والدَيّ لأنّهما لا يستحقّان هذا اللقب... ستعيشين هناك. لا تخافي، سأهتمُّ بكلّ ما تحتاجينه.
ـ أعيشُ لوحدي في بيت في الجبَل؟ ألن أذهبَ إلى المدرسة؟ هل أنتِ جدّيّة؟
ـ لا تُجادليني! أم أنّكِ تريدين أن اتخلّى عنكِ؟ لا تستخفّي بتأثير أهلكِ عليكِ وما يُضمرانه لكِ. فأبويَّ سيُزوّجاني قسرًا لأكون عبدة لدى زوجي.
ـ ماذا قلتِ؟!؟ أبواكِ؟ سيُزوجانكِ؟ لَم أعُد أفهَم ما تقولينه. أتقصدين أبوَيّ أنا؟
ـ لا يهمّ! أبواكِ أو أبوايَ فالأمر سواء.
عندها شعرتُ بضياع صونيا العقليّ، فكان مِن الواضح أنّها تخالُ أنّ أهلي هما أهلها... وماذا عن خطّطها الفاشلة هذه؟ لَم يكن أبدًا مِن الوارد أن أهربَ مِن بيتي أو أن أعيشَ في بيت مهجور لوحدي بعيدة عن الناس والأقارب والأصدقاء، وخاصّة عن مدرستي. وعدتُها بأن أفكّر في الأمر وانسحبتُ بسرعة مِن عيادتها. مشيتُ قليلاً في الشوارع لأُفكّر بما حصَلَ ويحصلُ، وخاصّة بحقيقة والديَّ اللذَين لَم يقترفا بالفعل أيًّا مِمّا نسَبَته إليهما صونيا. ثمّ قصدتُ البيت وسالتُ أمّي على الفور ومِن دون مُقدّمة:
ـ هل صحيح أنّكما تريدان إخضاعي وتحطيمي لتزويجي مِن أوّل رجُل يدقُّ بابنا؟
ـ يا إلهي يا حبيبتي! مِن أين جئتِ بهذا الكلام؟ لن تتزوّجي إلا مِن الذي تختارينه بنفسكِ، وليس قبل أن تُنهي مدرستكِ وجامعتكِ وتدخلي مُعترك العمَل! فأنا اخترتُ بنفسي أباكِ وكذلك جدّتكِ اختارَت زوجها. ما الأمر؟
إنفجرتُ بالبكاء ثمّ رويتُ لها كلّ القصّة بالتفاصيل. رأيتُ الرعب في عَينيَ والدتي ومِن ثمّ الغضب. عانقَتني بحنان وطلبَت مِنّي دخول غرفتي، لكنّني سمعُتها وهي تُكلّم والدي في عمَله. في المساء، طلَبَ منّي أبي إخباره بالتفصيل بما دارَ بيني وبين الطبيبة، وهو استمَعَ إليّ بصمت ثمّ قال:
- نُحبّكِ كثيرًا يا إبنتي ولهذا السبب نقسو أحيانًا عليكِ... فأنتِ يافعة ولا تسعُكِ الدنيا، ولا تعرفين بعد كيف تتعاملين مع الحياة التي بانتظاركِ. إنّنا نخافُ عليكِ مِن أيّ أذى، ونُحضّرُكِ لمواجهة المصاعب إن صادفَتكِ. أخطأنا على ما يبدو في تقدير الوضع وبعثناكِ إلى مَن يحلّ عنّا مشاكلنا. ثقي بنا وأعدُكِ بأنّنا أيضًا سنثقُ بكِ. أُهنّئكِ على وعيكِ بالنسبة لِما عرضَته عليكِ تلك المجنونة، فأنا فخور بكِ.
إشتكى أبي على صونيا، ومِن الواضح أنّه لَم يكن الأوّل، فلقد نُزِعَت منها رخصتها ومُنِعَت مِن مُزاولة مهنتها إلى الأبد. لَم نسمَع عنها بعد ذلك، وأظنّ أنّها راحَت إلى ذلك البيت في الجبل، فهذه كانت أمنيتها الدفينة التي أرادَت تحقيقها مِن خلالي. لا أدري إن كان يجدرُ بي الغضب منها أو الحزن عليها، فهي في آخر المطاف ضحيّة ما جرى لها في الماضي.
حاورتها بولا جهشان