يوم طلَبَ حسام يدي، كان يعلم أنّ شرطي الوحيد وهو أن نسكن عند أمّي. فتركها لوحدها لم يكن أمرًا مقبولاً لدَيّ، خاصّة أنّها كانت قد بدأت تنسى أمورًا عديدة في الأواني الأخيرة. أخذتُها إلى الطبيب الذي قال لي بعد أن أجرى لها الفحوصات اللازمة إنّها لا تشكو مِن أي خطَب، ورجَّحَ أنّ فكرة ذهابي بعيدًا عنها أربكَتها نفسيًّا. فالجدير بالذكر أنّني ابنة وحيدة، وأنّ أبي تركَ البيت منذ سنوات لا تُحصى ليبدأ حياة جديدة مع امرأة أخرى.
ربَّتني والدتي لوحدها، وتعبَت كثيرًا لتؤمّن لي كلّ ما يلزم، فأقل ما يُمكنني فعله هو الاهتمام بها بعدما بلغَت سنًّا متقدّمًا. قَبِلَ خطيبي أن ينتقل إلى بيتنا، فالعيش مع حماة كأمّي لم يكن صعبًا لأنّها كانت مرحة المزاج ومُحبّة. في الواقع، كانت والدتي مُحبّة إلى درجة مبالَغ بها، وكأنّ خوفها عليّ نابع مِن خوفها مِن أن يسلب منها القدر آخر إنسان تحبّه، الأمر الذي تقبّلتُه بالرغم مِن انزعاجي منه في غالب الأحيان.
في جميع الأحوال، لم يكن حسام يرى أمّي كثيرًا، بسبب انشغاله طوال اليوم في الشركة التي أسّسها والتي كانت تطلّب منه اهتمامًا دائمًا. أمّا أنا، فكنتُ مِن جهّتي أقضي وقتي في عملي بالمصرف، لِذا لم نكن نجتمع إلا في المساء حول مائدة الطعام فيروي كلّ منّا للآخرين ما حَدَث معه في النهار، ومِن ثمَ تدخل والدتي غرفتها لتنام. حسدَني الجميع على عَيشي الهنيء بعد أن استطعتُ أن أجمع بين حياتي العائليّة والعاطفيّة، وكنتُ فخورة بنفسي كثيرًا. إلا أنّ هذا الهناء كلّه لم يكن مقدَّرًا له أن يدوم طويلاً.
فقد نقلَت أمّي خوفها مِن الهجر إليّ بعدما عانَت، كما ذكرتُ أعلاه، مِن خيانة زوجها وهروبه مع عشيقته الأكثر جمالاً وشبابًا. فبدأت تسألني عن سبب تأخّر زوجي بعمله، وتقول إنّ عليَّ الانتباه مِن وجود عشيقة ما. ولولا أنّني لم أكن أعلم بما مرَّت به المسكينة ومدى تعلّقها بي، لغضبتُ منها كثيرًا، فلم يكن مِن المقبول أن تزرع الشك في عقلي هكذا. لِذا أخذتُ أطمئنُها بأنّني أبقي عينًا ساهرة على حسام وأنّني لن أدَعه يؤذيني. وفي اليوم نفسه، أخبرتُ زوجي عن مخاوف أمّي كي يتفهّم الوضع في حال وجَّهَت إليه أيّ اتهام، ووعدَني بأن يتحمّل كل ما قد يصدر منها. ثمّ أصبحتُ أتقبّل تلميحات أمّي الدائمة ونسيانها المتكرّر للأحاديث والأحداث، ودعَوتُ الله أن يُريح قلبها وبالها.
لكن سرعان ما تفاقَمَت الأمور، أي أنّ والدتي اتصلَت بشركة حسام، وسألَت السكرتيرة عن دوام العمل وإن كان زوجي يبقى حقًّا في المكتب متأخّرًا. رفضَت الفتاة أن تجيب على تلك الأسئلة وركضَت تخبر زوجي بالذي حصل. وحين عادَ إلى البيت في المساء، كان غاضبًا إلى أقصى درجة ولم يتردّد عن مطالبتها بعدم التدخّل في أموره الخاصّة. تعالَت الأصوات بينه وبين والدتي، وخفتُ حقًّا أن يتزعزع الاستقرار الذي كنتُ أفتخر به. عالجتُ الموضوع بديبلوماسيّة وتراجَعَ كل منهما، على الأقل لمدّة قصيرة. فمِن بعدها، عادَت أمّي إلى يقينها وقالت لي:
ـ لا أحبّ ذلك الرجل... يُذكّرني بأبيكِ.
ـ يا ماما، حسام ليس أبي ولن يفعل مثله... الرجال ليسوا كلّهم سواءً... ولِما يخونني زوجي؟ فلَم يمرّ على زواجنا سوى أشهر، ولو كان يُريد غيري لَما تزوّجني!
ـ لا أعلم ما يدور في عقله لكنّني متأكّدة مِن أنّه ليس صالحًا... سأثبتُ لكِ أنّني على حق.
ـ لن تفعلي شيئًا! لو تدخّلتِ مجدّدًا في حياتنا سأضطرّ إلى ترك هذا البيت والسكن في مكان آخر!
عند سماعها ذلك، سكَتت والدتي لكنّني كنتُ أعلم أنّها لن تتخلّى عن تلك الفكرة بسهولة. لِذا، طلبتُ مِن زوجي أن يُعاملها بلطف زائد وأن نصطحبها معنا في مشاويرنا، كي تتعرّف إليه أكثر وتشعر أنّها فرد مِن عائلتنا الجديدة.
وهذا ما فعلناه. لكن في احدى المرّات، حين كنّا جالسين في مطعم نتناول الغداء، قالَت أمّي لحسام:
ـ سمعتُكَ تتكلّم عبر الهاتف عنّي مع عشيقتكَ... أنسيتَ أنّ الشرفة مطلّة على شبّاك غرفتي؟ هل اعتقَدتَ أنّ لا أحد يعلم بما تفعله؟"
نهَضَ حسام مِن عن كرسيّه وغادَرَ المكان بعد ما قال إنّه لن يتحمّل هكذا إهانة، وإنّ علينا العودة إلى البيت بسيّارة أجرة، لأنّه لن يبقى ثانية واحدة معنا. إمتلأت عَينايَ بالدّموع، أمّا والدتي فضحكَت عاليًا صارخةً له وهو مغادر: "هيّا! أهرب مِن المواجهة يا بطل!"
كان قد طفَحَ كَيلي مِن تصرفات أمّي، وفكّرتُ جدّيًّا بالرحيل مِن بيتها، إلا أنّ زوجي اقترَحَ أن نعرضها على طبيب مختصّ:
ـ مِن الواضح أنّ تلك السيّدة مريضة عقليًّا ويلزمها علاج.
ـ لكنّني أخذتُها إلى الطبيب ولم يجد بها خطبًا.
ـ أخذتِها عند طبيب العائلة، وما يلزمها هو أخصّائيّ بالأعصاب والأمراض العقليّة... دعي الأمر لي... أو أنّكِ تفضّلين أن ننفصل بسببها؟
لكن عندما أخبرتُ أمّي أنّني أخذتُ لها موعدًا مع طبيب، بدأَت تصرخ:
ـ هذه ليست فكرتكِ بل فكرته هو! يُريد التخلّص منّي! لن أدعه يفعل! لن أذهب إلى أيّ طبيب ما دمتُ على قيد الحياة!
إستاء حسام كثيرًا مِن رفض والدتي، وقرّر أنّ علينا أخذها بالقوّة. وأعترَفَ لي أنّه يخاف منها ومّما قد تفعل به إذا ساءَت حالتها:
ـ عندما قبلتُ السكن هنا، فعلتُ ذلك لأنّكِ ومنذ تعارفنا، أعرَبتِ عن تعلّقكِ بأمّكِ ورفضكِ تركها لوحدها. لكنّني لن أسمح لها بأن تخرب زواجنا أو أن تزرع في قلبي القلق والخوف. هل تريدين أن أحملكِ على الاختيار بيني وبينها؟ هل هذا ما تريدينه؟
ـ لا يا حبيبي... سأتصرّف... وإن لم تغيّر رأيها بشأن الطبيب، فسأقبل بفكرة أخذها عنوةً، لكن ليس فقط مِن أجلكَ بل مِن أجلها هي، لأنّها تتألّم كثيرًا وتعيش في عالم إفتراضيّ خطير.
وبمحاولة أخيرة، طلبتُ مِن أمّي مرافقتي إلى الطبيب. نظَرَت إليّ بحزن ومِن ثمّ قالَت:
ـ يؤسفني أن تصدّقي غريبًا وأن تنسي كل ما فعلتُه مِن أجلكِ... أعدكِ بأن أذهب أينما تشائين شرط أن تفعلي ما سأطلبُه منكِ.
ـ حاضر يا ماما.
كيف حصَلَ أن أشكّ بأمّي بسبب رجل لم أكن أعلم بوجوده قبل سنة واحدة؟ حتى اليوم لا أستوعبُ أنّني كنتُ على وشك إرسال مَن جلَبَتني إلى الدنيا إلى مصحّة عقليّة والعيش مع إنسان لا يردعُه شيء.
خطّة والدتي كانت التالية: أن أخرج مِن عملي باكرًا وأمرّ عليها لنذهب سويًّا إلى أمام مدخل شركة زوجي، والإنتظار هناك لمدّة ثلاثة أيّام فقط. بعد ذلك، كانت مستعدّة لعرض نفسها على أي طبيب أختارُه.
قبلتُ معها فقط لإسكاتها، وذهبنا ننتظر أيّة حركة مشبوهة مِن قِبَل زوجي، مع الحرص على أن نعود إلى البيت قبله كي لا يشكّ بشيء.
في اليوم الأوّل، إنتظرنا مِن دون جدوى وكذلك في اليوم التالي، وفرِحَ قلبي لمعرفة أنّ أمّي مخطئة وأنّ زوجي رجل شريف.
لكن في اليوم الثالث والأخير، وبينما كنّا جالسَتين في السيّارة أمام الشركة قالَت لي والدتي:
ـ أشعر باستيائكِ تجاهي ولكن اصبري معي... بما أنّ حسام لم يخرج مِن عمله لملاقاة أحد، فلا بّد مِن أنّه يرى عشيقته في المكتب.
ـ كفى يا ماما، أرجوكِ! ألا تعين سخافة ما تقولينَه؟
ـ يحقّ لي بهذه الليلة بعد، فهذا اتفاقنا، أليس كذلك؟
ـ أجل، أجل.
ـ إصعدي إلى مكتبه وسترَين أنّني على حق.
ـ لن أفعل! كفى!
ـ ستفعلين وإلا تراجعتُ عن اتفاقنا!
ترجّلتُ مِن السيّارة، ودخلتُ المبنى وقرعتُ الجرس. كنتُ واثقة مِن أن حسام موجود في الداخل لأنّه لم يكن قد خرَجَ بعد، على خلاف باقي الموظّفين. قرعتُ مجدّدًا ثمّ بدأتُ أخبط على الباب بعد أن انتابَني شعور سيّء. فتَحَ لي زوجي أخيرًا، ولكن عندما رآني قرأتُ الهمّ في عَينَيه. سألَني ماذا أريد فقلتُ له إنّني جئتُ أصطحبه إلى مطعم جميل. عندها طلَبَ منّي مستاءً أن أنتظره في السيّارة، إلا أنّني أصرَّيتُ على الدخول. وقبل أن يتسنّ لحسام أن يبقيني خارجًا بأيّة طريقة، سمعتُ صوت فتاة تقول مِن داخل الشركة: "حبيبي حسام... أين ذهبتَ؟ لم أنتهِ منكَ بعد."
صفَعتُ زوجي بكلّ قوّتي، ونعَتُّه بالسافل ونزلتُ السلالم ركضًا. وعندما جلستُ في السيّارة قالت لي أمّي:
ـ أظنّ أنّنا لن نزور الطبيب قريبًا... أليس كذلك يا ابنتي؟
ـ لن نزوره أبدًا بل سنزور المحامي.
طلّقتُ زوجي، وعلِمتُ أنّه كان ينوي وضع يده على البيت بعد إبعاد أمّي ودفعي لتركه وترك المكان، ليعيش فيه كما يحلو له مع عشيقته.
بقيتُ أظنّ أنّ أمّي تكره جميع الرجال وتشبّههم بأبي إلى حين عرّفتُها إلى رامي. نظَرَت إليه بتمعّن وابتسمَت قائلة: "إنّه جيّد، تزوّجيه."
ولكن في تلك المرّة لم تقبل والدتي أن أسكن معها بل أن أجلب لها مساعدة تبقي عينًا عليها.
تزوّجتُ مِن رامي وأنجَبنا البنين والبنات، ولا تزال أمّي بكامل صحّتها الجسديّة والعقليّة.
حاورتها بولا جهشان