هل كانت جارتي تريد أخذ ابنتي منّي؟

كانت لجارتي إبنة أخَذَها الموت منها حين كانت في الثالثة مِن عمرها. أصيبَت المسكينة بكآبة لا مثيل لها، وحاوَلَ جميع سكّان المبنى مواساتها قدر المستطاع، إلا أنّ قلبها بقيَ داميًا على فلذة كبدها التي قضَت نتيجة حمّى قاتلة.

لَم تشأ ناديا الإنجاب مِن جديد، مِن شدّة خوفها على فقدان ولد ثانِ، فبقيَت لوحدها بينما يقضي زوجها نهاره ومعظم ليله خارجًا ليتفادى التواجد مع زوجة "باكية ونادبة". وكان مِن الواضح أنّه وجَدَ أخرى أكثر فرحًا.

وحصَلَ أنّني حملتُ وأنجبتُ بنتًا جميلة، الأمر الذي دفَعَ ناديا إلى زيارتي يوميًّا لتتفرّج على ريما وتساعدني على إعطائها الحمّام.

لم أرَ مانعًا لذلك لأنّني كنتُ أعلم كم أنّ الأمر مهمّ بالنسبة لها، خاصّة أنّها استعادَت أخيرًا ضحكتها واختفى الحزن مِن عَينَيها. كانت إبنتي تعني لها الحياة بدل الموت الذي سكَنَ قلبها لمدّة خمس سنوات. وسرعان ما بدأتُ أتّكل على ناديا للإهتمام بابنتي، فكان عليّ التفرّغ لبيتي وزوجي وابني وعملي، وهو حمل كبير ملقىً على كتفيَّ.

وحده زوجي كان يرى مشكلة بالأمر، فبالنسبة له لم يكن وجود ناديا في حياتنا وحياة ابنتنا سليمًا، فمَن يُمكنه معرفة ما يدور في رأس امرأة فقدَت أغلى ما عندها؟ ضحكتُ لسخافة الأمر، وطلبتُ منه الكفّ عن مشاهدة أفلام عن أناس مختلّين، مؤكدّة له أنّ ناديا إنسانة موزونة لا تريد سوى إشباع عطشها للتي فقدَتها. أضفتُ أنّني قد أفعل الشيء نفسه لو كنتُ مكانها، لا قدَّرَ الله. نظَرَ إليّ زوجي قائلاً:

 

- لقد حذّرتُكِ... أنتِ المسؤولة الوحيدة عمّا قد يحصل.

 

أعترفُ أنّني خفتُ مِن نظرته ونبرة صوته، وسألتُ نفسي إن كان محقًّا في ما يقوله، إلا أنّني طردتُ بسرعة تلك الأفكار البشعة وانتظرتُ جارتي في اليوم التالي بفارغ الصبر.

 


بعد حوالي السنة، تَرَكَ زوج ناديا المنزل نهائيًّا ليتزوّج مِن عشيقته ويُنجب منها أطفالاً، وهي لم تكترث بل ارتاحَت مِن رجل لم يُقدّر حزنها ولم يعرف كيف يُنسيها مصيبتها بإعطائها الدعم والحبّ اللازمَين لذلك. وعندما زفَّت لي الخبر، كانت تضحك مِن الفرح. وأضافَت قبل أنّ تعود إلى شقّتها: "لم يعد يهمنّي شيء، فلدَيَّ ريما". أعترفُ أنّني لم أكن مسرورة مِن الذي قالَته جارتي، فقد شعرتُ وكأنّ ابنتي تُسلَب منّي ووعدتُ نفسي بأن أضع حدًّا، ولو تدريجيًّا، لوجود ناديا في بيتنا. والذي عزَّزَ قراري كان أنّ ابنتي بدأَت تتفاداني وتنزعج منّي عندما أقترب منها لحملها أو ضمّها إلى صدري، بينما كانت ترمي نفسها في أحضان ناديا. كان مِن الواضح أنّ تأثير تلك المرأة على صغيرتي كان كبيرًا، وسألتُ نفسي إن لم تكن تثيرها ضدّي أثناء وجودهما لوحدهما.

ولم أعد اطيق ناديا، إلا أنّني لم أجد السبيل للتخلّص منها مِن دون أن أخدش شعورها، فلَم أنسَ أنّها امرأة مكسورة وجَدَت بريما خشبة خلاصها.

تشاورتُ مع زوجي في الموضوع، وهو أيضًا رأى أنّ تأثير ناديا على ابنتنا كان مضرًّا، وذكَّرَني بالذي قالَه لي سابقًا. إعترفتُ له بأنّه كان على حقّ وأخَذنا نفكّر بطريقة لبقة لإبعاد جارتنا عنّا.

كنتُ سأنتظر اللحظة المناسبة لتنفيذ ما في رأسي، لولا ذلك اليوم حين نادَت إبنتي ناديا "ماما". عندها طَفَحَ كيلي، وأحسستُ حقًّا أنّها سرَقَت منّي صغيرتي وأخَذَت مكاني كليًّا. إنتزعتُ إبنتي مِن ذراعَيها وصرَختُ بها:

 

ـ كفى! لقد تحمّلتُكِ بما فيه الكفاية!

 

ـ ما الذي فعلتُه؟!؟

 

ـ أريدكِ أن ترحلي وألا تعودي أبدًا!

 

ـ هل فقدتِ عقلكِ؟ لم أفعل لكِ أو لأحد شيئًا!

 

ـ بلى فعلتِ! أخذتِ منّي ابنتي! تحبّكِ أكثر ممّا تحبّني وها هي تناديكِ "ماما"! هي ليست ابنتكِ! إبنتكِ ماتَت وترقد تحت التراب ولن تعود أبدًا! أفهمتِ؟ أبدًا!

 

لم ألاحظ فظاعة ما قلتُه إلا عندما انتهَيتُ مِن الكلام. كيف استطعتُ لفظ تلك الكلمات الشنيعة لأمّ فقدَت ابنتها؟

نظَرَت إليّ ناديا باندهاش كبير ومِن ثمّ بحزن عميق، وقالت قبل أن تغادر:

 

ـ إن كانت ريما تحبّ رفقتي ونادَتني "ماما"، فذلك فقط لأنّكِ دائمة الإنشغال عنها ولقلّة اهتمامكِ بها. فلقد فضَّلتِ عليها عملكِ وأخاها وزوجكِ، وهي وجَدَت فيّ الحنان الذي يتوق إليه كل طفل. أعلم أنّ ريما ليست إبنتي، وكلّ ما فعلتُه هو إعطاؤها العاطفة التي تستحقّها، على عكسكِ.

 


وقفتُ لوحدي لدقائق طويلة أفكّر بالذي قالَته لي جارتي، ووجدتُ أنّها محقّة تمامًا. أوكلتُ ابنتي لها وحاسبتُها على الذي طلبتُ منها فعله. كان لكلام زوجي لي تأثير قوي، فلولاه لمَا شكَكتُ بنوايا ناديا وحطّمتُ قلبها بكلامي الجارح. حضنتُ إبنتي وبكيتُ بصمت على إهمالي لها ووعدتُها بأن أكون أمًّا بكل ما للكلمة مِن معنى. عندها فقط أدركتُ كم سيكون يأسي كبيرًا لو حصَلَ مكروه لريما، وفهمتُ تمامًا ضياع ناديا.

قرَّرتُ إعطاء بعض الوقت لجارتي حتى تنسى حدّة كلامي وطردي لها، واعدة نفسي بتسوية الأمور معها في أقرب وقت. في تلك الأثناء، قلّصتُ مِن ساعات عملي لأتمكّن مِن لعب دور الأم كما يجب، حتى لو كان الأمر سيؤثّر، وبشكل ملحوظ، على راتبي.

مرَّت الأيّام ولم أرَ ناديا أو أسمع عنها شيئًا، فقرَّرتُ أن أقرَعَ بابها. كنتُ خجلة مِن نفسي كثيرًا وصليّتُ أن تفتح لي. وهذا ما حصل، وكم كانت فرحتي عندما سمعتُها تقول لي: "أعلم أنّكِ متأسّفة، فلا داعٍ للإعتذار... أدخلي."

وبلحظة واحدة، عادَت الإلفة بيننا وكأنّ شيئًا لم يحصل. عندها قلتُ لها إنّني بحاجة إليها بعد أيّام قليلة، إذ أن لدَيّ وزوجي حفلاً ضخمًا تقيمه الشركة التي أعمل فيها، ولا أستطيع طبعًا جلب ولدَيَّ معي. قبِلَت ناديا بسرور وشكرَتني على ثقتي بها.

عندما رأى زوجي ناديا قادمة بعد أيّام، سألَني أمامها: "ماذا تفعل تلك المرأة عندنا؟ خلتُ أنّنا انتهَينا مِن الموضوع!" سحَبتُ جارتي مِن يدها، وطلبتُ منها عدم الاكتراث بما قال، وتركناها مع ولدَينا وذهبنا إلى الحفل.

طوال الوقت، بقيَ زوجي يردّد لي: "لستُ مرتاحًا لوجود تلك الأفعى لوحدها مع ولدَينا... أشعر بأنّ شيئًا ما سيحصل... لستُ مرتاحًا". لم أشاطره الرأي، وعملتُ جهدي للإستمتاع بالحفل قدر المستطاع.

لكن عندما عدنا إلى البيت، رأينا سيّارات إطفاء حول المبنى ودخانًا أسود ينبعث منه. ركضنا كالمجنونَين، وإذ برجال الإطفاء يوقفونا ويمنعونا مِن الإقتراب. بدأتُ أصرخ فيهم قائلة إنّ ولدَيَّ في الشقّة مع جارتنا، إلا أنّهم لم يسمعوني لكثرة انشغالهم. عندها رأينا ناديا على حمّالة إسعاف وجسمها محروق مِن كل جهّة. أسَرَعَ زوجي إليها صارخًا: "ما الذي فعلتِه بولدَينا، يا مجرمة؟!؟ أجيبي!" أبعدَه المسعفون عنها، وجاء أحد رجال الإطفاء وقال له:

 

ـ بل عليكَ أن تشكرها لأنّها أنقذَت طفلَيكَ، يا سيّدي.

 

ـ ماذا تقصد؟ وأين هما؟ أريد ولدَيَّ!

 

ـ إنّهما بخير... والفضل يعود لتلك السيّدة... لقد بدأ الحريق في الشقّة السفلى وصعدَ بسرعة ليطال شقتّكَ... وصلنا خلال دقائق ورفعنا السلّم ليتمكّن السكّان مِن النجاة. رأينا السيّدة تصرخ مِن النافذة وتنادي بأنّ معها ولدَين صغيرَين. رجوناها كي تنزل السلّم، إلا أنّها رفضَت بقوّة وأجَبَرت أحد رجالنا على الصعود لإنقاذ ابنكَ وابنتكَ. وصلَت النيران إليها وأحترقَ جسمها... أدعو مِن الله أن يشفيها وأنصحكَ بأن تفعل أيضًا.

 

إستغرَقَ شفاء ناديا وقتًا طويلاً، وتركَت الحروق آثارًا كبيرة على كامل جسدها وقسم مِن وجهها، إلا أنّها لم تأسف على نفسها ولو للحظة، بل كانت مقتنعة تمامًا بالذي فعلَته في تلك الليلة، فإنقاذ ريما وأخيها كان أمرًا بديهيًّا بالنسبة لها، وأنا متأكّدة مِن أنّها كانت مستعدّة أن تموت مِن أجلهما لو لزِمَ الأمر.

أصبَحَ زوجي وناديا أعزّ صديقَين، وإن حصَلَ أن جاءَ إلى البيت ولم يجدها عندنا، يُسرع بالقرع على بابها وجلبها إلى شقّتنا.

اليوم أصبحَت ريما في الثامنة عشرة مِن عمرها، ولا تزال تنادي ناديا "ماما" مِن وقت لآخر، إلا أنّني أجد الأمر طبيعيًّا فهي تدين لها بحياتها. وهل مِن شيء أثمَن مِن الحياة؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button