هل سينتقم أخي مني؟

يخافُ المرء عادة مِن المجهول أو الغرباء أو حوادث القضاء والقدر، إلا أنّني خفتُ، ولسنوات طويلة، مِن أخي.

كان وسيم هو أخي الأكبر والوحيد، وحين قدِمتُ إلى الدنيا أوصاه والدايَ بي، طالبَين منه أن يصيرَ درعي الحامي ومثَلي الأعلى. إلا أنّهما لَم يعلَما آنذاك أنّ ابنهما إنسان مريض نفسيًّا إلى حدّ الخطورة.

لَم تظهر على وسيم أيّة علامة اختلاف حتى بلَغَ سنّ المُراهقة، فهو بدأ يتصرّف بغرابة. وإلى ذلك الحين، كنتُ أُحبّ رفقته وأستشيرُه بأمور عديدة، وهو يُعطيني نصائح أخ يُحبُّ ويخافُ على أخته الصغرى.

وفجأة بدأَت علاماته في المدرسة تتراجع، واشتكى منه جميع المدرّسين.

وأذكرُ أنّ والدَيَّ كانا يقصدان المدرسة باستمرار للإجتماع مع القيّمين بغية إيجاد الحلول المُناسبة. فالجدير بالذكر أنّ تلك المدرسة كانت مِن الأرقى في البلاد، والدّخول إليها كان صعبًا للغاية، كما كان الخروج منها يعني فقدان فرصة ذهبيّة لا تُعوَّض. وكانت مشكلة وسيم تكمنُ في علاقته مع رفاقه ومدرّسيه، فهو صارَ عدائيًّا معهم للغاية، ويرفضُ أيّ تدخّل أو مُلاحظة ويفرِضُ على الجميع هَيمنَته.

في البيت بدأ أيضًا التقليل مِن تهذيبه معنا، ويصرخُ ويُهدّدُ كلّما لم يُعجِبه شيء. بقيَت معاملته لي حسنة لكنّه فقَدَ صبره عليّ.

إعتبَرَ طبيب المدرسة النفسيّ أنّ أخي يمرُّ بمُراهقة صعبة، ويُحاولُ فرض شخصيّته لبنائها، فأوصى الكلّ بأن يتحمّل مزاجه الصعب الذي كان مِن المفروض به أن يزول بعد فترة ليست بطويلة.

لكنّ الأمور لَم تصطلح، بل العكس إذ صارَ وسيم وكأنّه شخص آخر تمامًا وباتَ له أصدقاء يُشبهونَه بأخلاقهم، إلا أنّه كان الوحيد بينهم الذي وُلِدَ وكَبُرَ في عائلة مُكتفية. الباقون كانوا أولاد شوارع يتسكّعون طوال النهار والليل في الطرقات أو الحانات. حاوَلَ أبي طبعًا إبعاده عن هكذا معشَر، إلا أنّ أخي بدأ يراهم بالسرّ، مُدّعيًا أنّه مع رفاقٍ له في المدرسة. وقبل أن يُنهي سنته المدرسيّة الأخيرة، ترَكَ وسيم الدّراسة ومكَثَ في البيت يأمُرُنا ويصبُّ غضبه علينا.

للحقيقة إحتَرنا بأمره، فكنّا نشعرُ أنّنا فقدناه، لكنّنا بقينا نأملُ أن يعود أخي ذلك الإنسان الطيّب والمسؤول.

 


أوّل حادثة وقعَت في بيتنا الصيفيّ. كانت قد بدأَت فرصة نهاية السنة الدراسيّة، فذهبنا كعادتنا إلى منزلنا قرب الشاطئ. هناك كنّا نستريح ونسبَح ونقضي سهرات جميلة سويًّا أو مع جيراننا الذين كانوا ينتظرون قدومنا بفارغ الصبر. وفي إحدى الأمسيات، بينما كنّا مُجتمعين على الشرفة، تَرَكنا وسيم وتغيّبَ لمدّة ساعَتَين. لَم يسأله أبي أين هو ذاهب، كي لا يتشاجر معه ويُخرّب علينا جلستنا الجميلة. إلا أنّ صرخةً قادمة مِن البيت المجاور فاجأتنا، ولَم تكن تُنذِرُ بالخَير. بعد لحظات، رأينا وسيم قادمًا ركضًا إلينا، ومِن ثمّ اختفى في غرفته. لحِقَ به جارنا وعصًا كبيرة في يده. كان الغضب يتطايَر مِن عَينَيه ويصرخُ: "أين ذلك الحيوان؟ أين وسيم؟ سأقتلُه!". منَعَ أبي جارنا مِن دخول البيت، وحاوَلَ تهدئته بشتّى الطرق سائلاً إيّاه عمّا يجري. نظَرَ الرجل إليه وقال:

 

ـ إبنكَ، ذلك السافل، ذلك...

 

ـ أدخل إلى صلب الموضوع مِن فضلكَ.

 

ـ أجل، أجل... إبنكَ... إعتدى على إبنتي! سأقتلُه!

 

ـ يا إلهي! هل أنتَ متأكّد مِن...

 

ـ تشكُّ في كلامي وفي ِسُمعة إبنتي؟!؟

 

ـ لا، أبدًا! لكن... هل لدَيكَ دليل على ما تقولُه؟

 

ـ أجل، وسأقدّمُه للشرطة مباشرةً!

 

بدأ والدايَ بالتوسّل إلى الجار كي لا يُدخِل الشرطة في الموضوع، ووعدَه أبي بأنّه سيعرفُ كلّ ما جرى مِن أخي ويحملُه إلى إصلاح خطئه مع البنت. فأعطاه الجار مُهلة 24 ساعة ورحَلَ وهو يشتمُ ويتوعّدُ بالإنتقام.

ركَضَ أبي إلى الداخل، واختلى لساعة كاملة مع وسيم ثمّ عادَ ليجلسُ معنا. كان الحزن والخَيبة بائنَين على وجهه وكَرَجَت دموعه على خدّه. إقتربَت أمّي منه وقبّلَته بحنان. عندها سألتُه:

 

ـ أخبرنا يا بابا، أخبرنا.

 

ـ يا إبنتي العزيزة... لا أعلمُ أين أخطأتُ مع أخيكِ. ها أنتِ صالحة ومُهذّبة، لَم تتسبَّبي يومًا لنا بأيّة متاعب أو إحراج... وها هو أخوكِ يدخلُ منازل الناس وينقضُّ على بناتهم.

 

ـ إذًا حصَلَ فعلاً أن...

 

ـ أجل، لقد اعترَفَ وسيم بذنبه... لكنّه ليس نادمًا ولا يريدُ إصلاح ما فعلَه بتلك المسكينة.

 

ـ يا إلهي! هي حقًّا مسكينة! لكنّ أباها سيطلبُ الشرطة.

 

ـ كيف أدَع إبني يدخلُ السجن؟ وكيف لي أن أقبَلَ بأن يُدمّر حياة الفتيات؟ فلدَيَّ إبنة أنا الآخر. ماذا عليّ فعله؟!؟

 


عندها تدخّلَت أمّي قائلة:

 

ـ لن يأخذ أحدٌ إبني إلى السجن! لنرحّلُه إلى ألمانيا عند أختي!

 

ـ ويعيش فارًّا مِن العدالة لباقي حياته؟ لا! سيُواجه ما فعَلَه ولن أتراجع عن قراري!

 

سكتَت والدتي وخفتُ مِن النظرة التي رأيتُها في عَينَيها. في صباح اليوم التالي، إختفى وسيم ولَم نعرف إلى أين ذهَبَ.

وعندما جاء جارُنا ليعرف ما فعلَه أبي، حاوَلَ هذا الأخير ربح الوقت، لكن مِن دون جدوى. سادَ جوّ مُشنّجًا للغاية، ووحدها أمّي كانت مُرتاحة البال، لسبب بسيط: كانت قد ساعدَت إبنها على الهروب. لَم يستطِع أبي حملها على الكلام حتى بعدما هدّدها بأن يُطلّقها، فهي كانت تحمي وحيدها، حتى لو كان ذلك يعني مُساعدة مُغتصب في عدم الحفاظ على شرف فتاة بريئة.

عُدنا إلى بيتنا في المدينة، ولحِقَت بنا الشرطة وحقَّقَت معنا جميعًا. أجبَرَتني أمّي على الكذب على المُحقّق، ولَم أجرؤ على مُخالفتها. لِذا أكّدتُ عاليًا أنّ وسيم بقيَ معنا طوال الوقت في تلك الأمسية. أمّا أبي، ففضّل البقاء صامتًا على الكذب. لَم يستطِع أحدٌ إثبات مسألة الإغتصاب، فطويَت القضيّة. ومنذ ذلك اليوم، غابَت السعادة عن بيتنا، وباتَ والدَايَ يعيشان مع بعضهما كالغريبَين. لَم يسأل أبي يومًا عن مكان إبنه بل أعلَنَ أنّه يتبرّأ منه، الأمر الذي لَم يُؤثّر على أمّي بل أراحَها. وحدي صِرتُ أعيشُ بين نارَين، ومشغولة البال على مصير وسيم الذي لا طالما أحبَبتُه بالرّغم مِن تقلّب مزاجه وطباعه.

وذات يوم سمعتُ أمّي تتكلّمُ عبر الهاتف مع إبنها وتقولُ له:

 

ـ أبوكَ يُراقبُني... يدّعي أنّه نسيَ أمركَ إلا أنّه ينتظرُ أن أقترِفَ أدنى خطأ ليُسلّمُكَ إلى العدالة. سأتوّقفُ عن الذهاب إليكَ لفترة... سأبعثُ أختكَ بدلاً منّي لتأتي لكَ بالأكل والمال. لا تخف يا بنَيّ، لن أتركَكَ ولن أدَعَ أحدًا يؤذيكَ.

 

بعد تلك المُكالمة، نادَتني والدتي لتُملي عليّ ما أفعل. كانت نبرة صوتها حازمة ولا تحمل المُناقشة، خاصّة بعدما قالَت لي:

 

ـ إن رفضتِ مُساعدة أخيكِ وفضحتِ أمرنا، سيُطلّقُني أبوكِ وستكونين أنتِ المُذنبة، نعم، أنتِ.

 

كان أخي يختبئ في شقّة صغيرة وبشعة قريبة منّا، وليس في ألمانيا أو حتى في بلد مُجاور. حَمَلتُ له سلّة مِن المأكولات ومبلغًا مِن المال وعندما فتَحَ لي الباب بعد أن تمعَّنَ بي عبر المنظار، أدخلَني بسرعة قائلاً:

 

ـ هل تبعكِ أحدٌ إلى هنا؟ هل أخبرتِ أيًّا كان عن مكان وجودي؟ ما الذي جئتِ به؟ ما هذا المبلغ الزهيد! وهل أنا طفلٌ صغير لتبعث لي أمّي بهذا القدر فقط؟!؟

 

لَم يتسنّى لي الإجابة على هذا الكمّ مِن الأسئلة، ولَم ينتظر وسيم منّي أن أُجيب. بقيتُ واقفة وسط الغرفة، فأخي لَم يدعُني للجلوس، بل قال لي: "هيّا، إرحلي، ولا تعودي إلا ومعكِ الكثير مِن المال."

ونظَرَ إليّ بغضب. لَم يسألني عن أحوالي ولَم يقُل لي إنّه مُشتاقٌ لي، بل اعتبرَني مجرّد مِرسال.

بكيتُ في طريق العودة، لأنّني فقدتُ أخي وحلَّ مكانه إنسان بغيض للغاية. بقيتُ أمدُّ وسيم بالأكل والمال لمدّة ستّة أشهر، إلى أن وقَعَ الحدث الثاني الذي غيَّرَ مصير باقي حياتنا.

فبعد أن رأى أنّ إمكانيات أمّي المادّيّة كانت محدودة، قرَّرَ وسيم أن يذهب مُباشرة إلى المصدر، أيّ إلى أبي. كان هذا القرار مُتهوّرًا للغاية، فهو يعرفُ موقف أبيه حياله، إلا أنّ طباع وسيم وحبّه للمال والإستفادة مِن الكلّ كان أقوى مِن منطقه. لِذا خَرَجَ مِن مخبئه ذات يوم، ودخَلَ البيت عازمًا على نَيل مراده. لَم أكن موجودة آنذاك لأنّني كنتُ لدى صديقة لي أقضي عندها يومًا أرَدتُه جميلاً. كلّ ما أعرفُه هو أنّ شجارًا عنيفًا دار بين أخي وأبي الذي كان يُريدُ تسليمه للشرطة، وأنّ وسيم أخَذَ إناء الزهور مِن على الطاولة وضرَبَ به أباه على رأسه مرّات عديدة فقتلَه. ركضَت أمّي لترى ما يجري بعدما بقيَت في غرفتها تفاديًا لعتاب أبي. وعندما رأت زوجها سابحًا بدمائه، صرَخَت في إبنها: "إرحل بسرعة! سأهتمُّ بكلّ شيء!"

وصلَني خبر موت أبي مِن الشرطة التي دقَّت باب صديقتي، وطلَبَت منّي أن أذهب إلى القسم. أردتُ رؤية جثمان أبي والتكلّم مع أمّي، إلا أنّهم منعوني مِن ذلك.

حين وصلتُ القسم، كانت والدتي هناك. وعند رؤيتي، صَرَخَت عاليًا وهي تنظرُ إليَّ: "أنا قتلتُ زوجي ولا أحدًا سوايَ." ومع أنّني لَم أكن موجودة وقت وقوع الجريمة، علِمتُ أنّ أخي هو الذي فعَلَ أبغَض الأمور، وفهمتُ أنّ أمّي تُريدُني ألا أذكرُ موضوع أخي وأن أُجاريها باتهام نفسها. إلا أنّني اكتفَيتُ مِن الكذب وحماية إنسان فاشل ومُغتصب وقاتل، لِذا أخبرتُ الشرطة بكلّ ما أعرفُه.

وجدوا وسيم في المخبأ الذي أخبرتُهم به وسحَبوه للتحقيق. لَم يلزمهم الكثير للحصول على اعتراف منه بسبب غروره وقلّة خوفه مِن العقاب. أُخلِيَ سبيل أمّي لتُحاكَم لاحقًا بتهمة مساعدة هارب مِن العدالة وإخفاء أدلّة.

سُجِنَ أخي مؤبّدًا وأمّي حصَلَت على سنتَين مع وقف التنفيذ. لكنّها لَم تُسامحني على ما فعلتُه وكأنّه أفظع مِن قتل أخي لأبي أو اغتصاب صبيّة. ورحلتُ لأعيشُ مع جدّتي لأنّ الحياة مع والدتي صارَت لا تُطاق، وأعترفُ أنّني خفتُ منها. فلَم أكن أعلم إلى أيّ مدى قد تصل للإنتقام لابنها.

مضى على سجن وسيم عشرون سنة، وسيُخلون سبيله بعد فترة قصيرة بسبب حسن سلوكه، وأنا خائفة منه ومِن الذي قد يفعله بي. فقد كانت والدتي قد أكّدَت لي أنّ ابنها الذي بقيَت تزورُه كلّ أسبوع قد تغيَّرَ بطريقة جذريّة، لكنّني لَم أُصدّقها. فهي لَم ترَ يومًا الشرّ الذي في قلبه، بل بقيَت تدافعُ عنه حتى بعدما قتَلَ زوجها وأب أولادها. واليوم، بعدما ماتَت، لَم يبقَ هناك سوايَ، فأنتظرُ الأسوأ مِن أخي. لِذا أُصلّي كلّ ليلة كي يُبعِدَ الله عنّي شرّ وسيم ويُهديه.

 

حاورتها بولا جشان

المزيد
back to top button