إلى حين وقعَت المصيبة، كنتُ حقًّا أعتقدُ أنّ خلود زوجتي تُحبُّني. وكيف أظنُّ عكس ذلك وهي لَم تقترِف يومًا أيّ خطأ تجاهي بل كانت إنسانة مُحبّة وحنونة، وتقومُ بواجباتها تجاهي وتجاه البيت والأولاد على أكمَل وجه؟ كنتُ آنذاك زوجًا سعيدًا، وأقسمتُ مرارًا أنّ لا حياة أجمَل مِن الحياة مع خلود. هذا قَبل إصابَتي بِجلطة دماغيّة تَسبَّبَت لي بِشلل نصفيّ. كنتُ في الخمسين مِن عمري وشكَرتُ ربّي أنّني لَم أمُت، على الأقل في اللحظات الأولى. فحين عدتُ إلى البيت مِن المشفى، بدأ كابوسي. نعم، كابوسي وستعرفون لماذا بعد قراءة ما حصَلَ لي لاحقًا.
دخلتُ البيت على كرسيّ مُتنقّل بعد أن أخَذنا موعدًا لِبدء جلسات العلاج الفيزيائيّ. كنتُ مُتفائلاً بعض الشيء، فطمأنَنا الطبيب بأنّ عدَم قُدرتي على التكلّم واستعمال يدي اليُسرى والمشي سيزولان مع الوقت. وصَفَ لي بعض الأقراص، مِن بينها مُسيّل للدم كي لا تُعاودَني الجلطة كما يحصلُ غالبًا. بالطبع إتّكلتُ على مُعاملة زوجتي الحسَنة وحنانها لأجتازَ هذه المحنة الصعبة. وأوّل شيء فعلَته خلود كان مَنع الزيارات عنّي، كي لا أتعَب وأتأخّر بالشفاء. وافقتُها بِحركة مِن رأسي، لأنّني كنتُ قد رأيتُ كلّ أهلي ومُحبّيني عندما زاروني في المشفى. وحدهم أولادي كانوا غائبين كوَنهم في الخارج يُنهون تخصّصهم. إلا أنّني لَم أكن أبدًا لأظنّ أنّ زوجتي تُريدُ عزلي لاستكمال ما كان يدورُ في رأسها.
لَم يأتِ المُعالج الفيزيائيّ عندما حانَت جلسَتي الأولى، فخِلتُ أنّه مريضٌ أو مشغولٌ للغاية، ولذلك لَم أبالِ كثيرًا. شيء آخر أثارَ استغرابي، هو أنّني لَم أتلّقَ أيّ علاج على الإطلاق، أعني بذلك أنّ خلود لَم تُعطِني أقراصي. لِذا سألتُها عن السبب بواسطة الكتابة، الأسلوب الذي اتّبعَتُه معها للتواصل، بسبب عدَم قدرتي على الكلام بوضوح. قرأَت زوجي ما كتبتُه وأجابَت مُبتسمة:
ـ ما يلزمُكَ فعلًا هو الراحة والهدوء... والكثير مِن الحبّ.
إمتلأ قلبي بالدّفء لدى سماعي ذلك، إلا أنّني تذكّرتُ بوضوح تعليمات الطبيب وتحذيراته في ما يخصّ مُعاودة الجلطة بِشكل أعنَف لو أهمَلتُ نفسي.
لكنّني وثقتُ بِخلود، فالزمَن كان قد أثبَتَ لي كَم هي تُحبُّني ورأيتُ بعَينيَّ مدى اهتمامها بي أثناء تعافيّ مِن الجلطة. تعافيَّ؟ تلك الكلمة مُبالغ بها، فأنا لَم أتحسّن، لأنّني لَم أخضَع لأيّ علاج كان.
شعرتُ بوحدة عميقة بِغياب الزوّار وعدَم قدرتي طبعًا على الذهاب إلى عمَلي. إضافةً لذلك، كانت زوجتي قد أخذَت منّي هاتفي بذريعة أنّه يُتعِبُني ويُقلقُني. حاولتُ التصدّي لهذا القرار الذي كان سيُكمِلُ عزلتي، إلا أنّ خلود وضعَت قبلة عميقة على شفتيَّ قائلة:
- بعد فترة قصيرة ستتمكّن مِن الإستمتاع بقُبلاتي وأشياء أخرى أيضًا.
وعادَت إلى ذهني أوقاتنا الحميمة التي اشتقتُ إليها بعد أن خفَّت في السنوات الأخيرة بِشكل ملحوظ، وتأمَّلتُ أن تأتي حالتي المرَضيّة بِنتيجة إيجابيّة في ما يخصّ حياتنا الزوجيّة.
لكنّني كنتُ بعيدًا كلّ البُعد عن حقيقة وضعنا. فبعد أن صرتُ مشلولاً نصفيًّا ومُلزمًا بهذا الكرسيّ اللعين أو السرير، صارَت زوجتي تخرجُ بِكثرة، وتتركني لوحدي قائلة:
- بما أنّكَ غير قادر على مرافقتي، وبما أنّكَ بِحاجة إلى إراحة جسدكَ وعقلكَ، سأذهبُ إلى فلانة أو إلى المكان الفلاني لوحدي... يا لَيتكَ تستطيع المجيء معي!.
كنتُ سعيدًا بأنّ خلود تبتعدُ بعض الشيء عن أجواء المرَض، إلا أنّني أحسستُ بأنّني وحيد للغاية. لِذا قضيتُ وقتي بالنوم... والنوم... والنوم. وعندما كنت أستفيقُ، كنتُ أنتظرُ عودة حبيبتي بِفارغ الصبر وأبتسمُ لها عند رجوعها وأكتبُ لها كَم أنّني اشتقتُ إليها.
وبعد أيّام، جاء أخيرًا المُعالج الفيزيائيّ، وصِرتُ أتمرّن على تحريك رجلي وذراعي على أمَل أن أعودَ الرجل النشيط والمُنتِج.
لكنّني لاحظتُ، ولا أدري كيف ولماذا، أنّ ذلك المُعالج لَم يكن يُحسن عمله معي. فللإنسان قدرة على الشعور بأمور خفيّة أسماها البعض "الحاسّة السادسة." أخبرتُ خلود بأنّني غير ممتنّ مِن أداء ذلك الشاب وأنّ علينا البحث عن آخر، إلا أنّها قالَت:
- مكوثكَ في البيت وفي حالتكَ، قد ولّدا لدَيكَ حالة نفسيّة قلِقة وهذا طبيعيّ. دَع المُعالج يقومُ بِعمله، فهو مَن أوصى به الطبيب، أي أنّه مُختصّ وجدير بالثقة.
إقتنَعتُ مرّة أخرى بِكلامها، فهي كانت دائمًا على حقّ، وحصَلَ مرارًا أن اعتمَدتُ على حكمتها في أمور عديدة.
وفي أحد الأيّام... سمعتُهما. كنتُ قد أنهيتُ جلستي مع المُعالج وهو خرَجَ مِن البيت ليعود إلى عيادته، لكنّني سمعتُ صوته يتكلّم مع خلود. كانا يضحكان عاليًا في الغرفة المُجاورة، غير آبهَين بوجودي. لمَست الجرس الذي اشترَته زوجتي لي لاستدعائها في حال أردتُ شيئًا منها، إلا أنّها لَم تأتِ لِترى ما خطبي. أعدتُ الكرّة مرّات لا تُحصى مِن دون نتيجة. وبعد أكثر مِن ساعة، دخلَت خلود غرفتي وسألَتني إن كنتُ بخير، فكتبتُ لها أنّني سمعتُها مع المُعالج واستعمَلت الجرس. ضحِكَت زوجتي قائلة:
- مع المُعالج؟ لقد ذهب منذ أكثر مِن ساعة. قد تكون سمِعتَ صوت التلفاز.
أوحَيتُ لها أنّني صدّقتُها، لكنّني كنتُ متأكّدًا مِن الذي سمعتُه. صحيح أنّني كنتُ مفلوجًا، لكنّني كنتُ أيضًا بِكامل وعيي.
ومنذ ذلك اليوم، صِرتُ أراقبُ زوجتي عن كثَب. فكان مِن الواضح أنّها على علاقة حميمية مع ذلك الشاب القويّ البنية والسليم الجسَد وفضّلَته على شبه كسيح. إضافة إلى ذلك، شكَكتُ بأنّها تُريدُني أن أموتَ، وإلا لماذا لا تُعطيني دوائي؟
حزنتُ كثيرًا لِما آلَت إليه أموري، لكنّ ذلك الحزن لَم يدُم بل حلّ محّله غضبٌ شديد. كان لا بدّ لي أن أفضحَ خطّة خلود الدنيّئة، لكنّني كنتُ طبعًا بِحاجة إلى دليل. لذلك انتظرتُ الوقت المُناسب لأمسكَ العاشقَين بالجرم المشهود.
تطلَّبَ الأمر صبرًا منّي، فزوجتي والمُعالج كانا قد أخذا حذرهما منّي، ومرّ وقتٌ لا بأس به حتى سمعتُهما وهما سويًّا في الغرفة المُجاورة. قرّبتُ كرسيّ مِن الباب وألقَيتُ بِنفسي أرضًا وبدأتُ أزحفُ نحو الغرفة الثانية.
كِدتُ أن أبكي وأنا أجرُّ نفسي، لِكثرة أسَفي على حالتي وعلى الذي كنتُ أفعلُه بِسبب خيانة خلود لي، إلا أنّني تابعتُ، ببطء شديد، طريقي إلى الدليل القاطع.
وصلتُ الغرفة أخيرًا ورفعتُ ذراعي السليم نحو مسكة الباب الذي فتحتُه بِقوّة لأحدثَ عنصر المفاجأة.
لكنّ المفاجأة كانت لي، لأنّ خلود كانت لوحدها في الغرفة تُشاهد التلفاز وتضحكُ للمشاهد الظريفة. نظَرَت إليّ وأنا في الأرض وركضَت ملهوفة عليّ:
ـ يا إلهي! ما الذي فعلتَه؟ هل استعمَلتَ الجرس ولَم أسمعكَ كالمرّة السابقة؟ أنا آسفة يا حبيبي!
أشرَتُ لها بأن تُعطيني ورقةً وقلَمًا وجرى هذا الحديث بيننا:
ـ أين هو؟!؟ أين عشيقكِ؟
ـ ماذا تقصد؟ ومَن تقصد؟
ـ ذلك المُعالج! لقد سمعتُ صوته. أين هو؟ في الخزانة؟ تحت السرير؟
وركضَت زوجتي تفتحُ الخزانة وترفعَ غطاء السرير لتُريني أنّ ما مِن أحد معها. عندها بدأتُ بالبكاء. راحَت خلود تأتي لي بالكرسيّ وحمَلَتني وأقعدَتني عليه. عندها قالَت لي:
ـ أنتَ في حالة نفسيّة صعبة جدًّا، وخلتُ أنّني أستطيع تحمّل الوضع لوحدي، إلا أنّني أقرُّ بِفشَلي. سنذهب سويًّا إلى أخصّائي.
وكتَبتُ لها:
ـ تُريدين قتلي! إنّكِ لا تُعطيني علاجي وأنتِ على علاقة مع المُعالج!
ـ كما رأيتَ منذ دقائق، لا وجود لأيّ كان معي. أمّا بالنسبة لِدوائكَ، فأنا أسحقُ الأقراص وأضَعُها في أكلكَ بعدما رفضتَ أخذَها... كما رفضتَ أن يأتي المُعالج الفيزيائيّ.
ـ لَم أرفض شيئًا!
ـ بلى يا حبيبي، بلى.
ـ وعَزلي عن الناس والهاتف الذي أخذتِه منّي؟
ـ فعلتُ ذلك لأجنبّكَ تهكّم الناس، فهم كانوا سيعرفون بأيّة حالة نفسيّة أنتَ. يا حبيبي، يا زوجي، يا أب أولادي، أنتَ كلّ شيء بالنسبة لي ولن أتركَكَ تغوصُ في الكآبة أو الجنون. علينا الذهاب إلى أخصائيّ. طبيبُكَ على علم بحالتكَ السيكولوجيّة، فقد كنتُ أزورُه لأطلعُه على المُستجدّات، وأقولُ لكَ إنّني مع صديقاتي، وهو أكّدَ لي أنّكَ ستتحسن، فهناكَ مَن يشعرُ بالإكتئاب والإحباط عند إصابتهم بشلل نصفيّ. لكنّه كان مُخطئًا، فأنتَ بدأَتَ تشكُّ بي، أيّ أنّ لدَيكَ شعورًا بالارتياب قد يصير خطيرًا عليكَ وعليّ.
ومع أنّني لَم أقتنِع كليًا بما قالَته زوجتي، قبِلتُ أن نذهبَ مرّتَين في الأسبوع إلى مُعالج نفسيّ. ومع الوقت، أدركتُ أنّ ما كان يحصلُ لي كان فقط في رأسي ولا وجود لأيّ مكر أو خيانة مِن قِبَل خلود، بل العكس. فزوجتي كانت ولا تزال إمرأة عظيمة ولا أدري ما كنتُ لأفعلَه مِن دونها. تحسّنَت حالتي الجسديّة أيضًا بعدما أنهَيتُ جلسات العلاج الفيزيائيّ مع شخص آخر كي لا أتصوّر أشياءً ويتراجع شفائي.
اليوم أنا رجل صحيح عقليًّا وجسديًّا وهذه القصّة وراءنا. لكنّ حبّنا صارَ أقوى مِن الأوّل ولن يهزّه شيء بعد الآن.
حاورته بولا جهشان