هل إبنتي ستكون السبب في موت أبيها؟

هل هناك فعلاً لعنة تلحق بالمرء حتى لو حاول تغيير مصيره، أم أنها صدَف تتلاحق بشكل عشوائي؟

هذه قصّتي مع الشؤم الذي عانيتُ منه والذي كاد أن يخرب حياتي:

أوّلاً عليّ البدء من زواج جدّتي أُم والدتي. كانت إمرأة عاديّة ذات حياة هادئة وهنيئة، حتى أن تعرّفت إلى زوجها رجل قويّ البنية يتمتّع بصحّة جيدّة ولكن بعد أقل من سنة على زواجهما مات جدّي من جرّاء وقوعه من حصانه، تاركاً زوجة وإبنة عمرها شهر واحد: أمّي.

تَعِبَت جداً جدّتي لتربية إبنتها الرضيعة والإهتمام بالمزرعة في نفس الوقت ولم تشأ أن تتزوّج مجدّداً لكثرة حبّها لزوجها المتوفي. ومرّت السنين وكبرَت أمّي لتصبح شابة جميلة وجذّابة، يتهافت عليها شبان المنطقة. وإختارت واحد منهم وأصبح لاحقاً أبي. أحبّا بعضهما كثيراً، فكان حنوناً ومحبّاً ووسيماً ولم تتخيّل أمي أن تعيش من دونه، لذا تزوّجا وإنتقلا للعيش في المدينة. وبعد فترة قصيرة علِما أنّ والدتي تنتظر مولوداً وكان هذا بالنسبة لهما تتويجاً لغرامهما.

ولكن بعد ولادتي بشهر واحد، لقيَ أبي حتفه تحت دواليب سائق ثمل. وإنهارَت أمي لكثرة حزنها على حبيبها وعلى مصير يشبه مصير أمّها وأدركَت أنني سأعاني من العيش من دون أب كما حصل لها في الماضي.

وبالإضافة إلى ذلك، بدأت والدتي تعتقد أنّ هناك لعنة على نساء عائلتها وأنني سألاقي نفس القدَر وأفقد زوجي بدوري بعد ولادة إبنتي. فبات شغلها الشاغل التفكير بطريقة لِفكّ هذه اللعنة عنّي وكبرتُ محاطة بالتعويذات والمبصّرين وكل من له حلّ لهذه المشكلة. ولقد صرفَت أمّي كل ما حصلَت عليه من بيع مزرعة والدتها على المنافقين دون أي تردد لشدّة إقتناعها بما كانت تفعله. أمّا بالنسبة لي، فباتَ عندي خوف عميق من الزواج وإنجاب بنت بالتحديد. ولكن بما أنّ لا أحد يستطيع التكهّن بجنس المولود قبل تكوينه فكان من المستحسن ألا أتزوّج أو أنجبَ بتاتاً.

لذا أبعدَتني والدتي عن الفتيان طيلة مراهقتي وأنا بدوري لم أكن مهتمّة بالذي سيموت يوماً ويتركني لوحدي مع بنت أربّيها من دونه.

ولكن الحياة تفعل بنا ما تشاء ورغم محاولاتنا العديدة، حصل ما كان يجب أن يحصل: وقعتُ في الحب. وأعترفُ أنّه عندما رأيتُ سليم في الشركة التي توظّفتُ بها، لم أفكّر ولو للحظة لا باللعنة ولا بجدتي أو حتى بأمي. إختفَت مخاوفي مع دقّات قلبي المتسارعة. وهو أيضاً أحبّني من أوّل نظرة وكأنّنا ولدنا لنكون سويّاً. وهكذا أصبحنا نرى بعضنا بإنتظام خارج العمل وأخفيتُ عن أمّي أمر هذه العلاقة، لأني كنتُ أعلم أنّها ستمانع أو تحاول إقناعي بترك حبيبي. فبدأتُ أكذب عليها وأختلق قصصاً لتبرير غياباتي حتى أن عرض عليّ سليم الزواج. هنا رجِعَت فوراً مخاوفي ورأيتُ نفسي أرملة وعلى ذراعي طفلة صغيرة. فقلتُ له أنني لا أستطيع القبول، طالبة منه ألا يسألني عن السبب. ولأتأكّد من أنّني لن أغيّر رأيي، قدّمتُ إستقالتي من الشركة ورحتُ أبحث عن عمل آخر.

حزنتُ كثيراً ولم أعد أذوق طعم الأكل أو النوم، بعيدة عن الذي سكن قلبي ولم يخرج منه رغم كل شيء. أمّا هو فلم يستسلم. أعطاني بعض الوقت، ثم عاد بقوّة يدقّ باب قلبي:

- جنى... لماذا فعلتِ هذا؟ أهناك رجل آخر؟ إذا كان هذا هو السبب سأرحل إلى الأبد.

- لا... أنتَ حبّي الوحيد... هناك سبب آخر ولكنني لا أستطيع إخبارك عنه فلن تفهم...

- جرّبيني.

ورويتُ له قصّة نساء عائلتنا. في البدء، إرتسمَت على شفتيه بسمة لسماع شيئاً بهذه السخافة ولكنّه أدركَ أهميّتها عندي وقال بلهجة جديّة:

- أفهم الآن... ولكن عليكِ التفكير بإيجابيّة أكثر... ماذا لو كانت هذه مجرّد صدَف؟ ماذا لو كانت هناك فعلاً لعنة وإنتهَت بأمّكِ؟ ماذا لو أنجبنا صبيّاً؟ وماذا لو كان الحب أقوى من أي لعنة؟

وإقتنعتُ منه لأنّه حبيبي ولآنّ العيش من دونه قاسياً جداً. وبقيَ لي إتمام مهمّة صعبة جداً: إقناع أمّي بالقبول بسليم. أوّل ما سمعَت بالخبر خلتُ أنّه سيُغمى عليها وبعدما إلتقطّت أنفاسها قالت:

- كنتُ على يقين أنّ هذا سيحصل رغم محاولاتي لإبعادكِ عن الرجال... حبيبتي أعلم أنّكِ تحبّينه فأنا أحببتُ أباكِ وجدّتكِ أحبّت جدّكِ أيضاً... يا ليتني أستطيع حمايتكِ ولكن الحياة أقوى منّي... إفعلي ما تريدينه وسأكون معكِ لأساندكِ إن حصل مكروه...

وفي يوم زفافي بكَت أمّي كثيراً ولكن ليس من الفرح. أنا أيضاً كنتُ مهمومة في ذلك النهار وكنتُ أنظر إلى سليم وهو يرقص ويغنّي وأسأل نفسي كم من الوقت ستدوم سعادتي.

وما لم أقوله لزوجي هو أنني كنتُ قد بدأتُ تناول حبوب منع الحمل، خوفاً من أن أخسره وبعد سنة على زواجنا طلبَ منّي سليم أن نذهب إلى طبيب مختصّ، لنرى لماذا لا ننجب. وعندما رأيتُ إصراره وعلِمتُ أن سرّي سيُكشَف، بُحتُ له بالحقيقة. غضِبَ مني جداً وكانت هذه أوّل مرّة أراه في تلك الحالة. صرخَ بي قائلاً:

- هل فقدتِ عقلكِ؟ خلتُ أننا إنتهينا من هذه الفكرة السخيفة! أريد طفلاً منكِ يشبهكِ حتى لو سيكلّفني هذا حياتي! وأريدها أن تكون بنتاً! وعندما تكبر سترين أنّ لا أساس لمخاوفكِ. أحبّكِ وأريدكِ إمرأة عمليّة ومنطقيّة وليس إنسانة ضعيفة.

وأوقفتُ حبوب منع الحمل وحصل ما كنتُ أتفاداه وعشتُ بالأمل حتى تبينَ في الصورة الصوتيّة أنّها بنت. ومن ثم بدأ عذابي الصامت الذي إمتدّ إلى ما بعد الولادة. لم أشأ حتى أن أنظرَ إلى طفلتي، لأنها ستسبب موت أبيها. وعندما رأى سليم أنني أرفض أن أحبّ إبنتنا، أخذَ يهتم بها ويعوّض لها النقص الذي لاقته من جانبي. ومرَّت سنة على هذا النحو وبدأتُ أحضّر نفسي لأصبح أرملة.

ولكنه لم يحصل شيء طبعاً وشعرتُ بالخزي لما فعلتُه بإبنتي بسبب سذاجتي وخفة عقلي ووعدتُ نفسي أن أحبّها كثيراً وأن أخبرها بما حصل عندما تكبر لكي لا تقَع يوماً ضحيّة المعتقدات السخيفة.

حاورتها بولا جهشان   

المزيد
back to top button