هل أنا مجنونة؟ (الجزء الأول)

عندما تعرّفتُ على حُسام امتلكَني الهمّ. فحتّى ذلك الحين كنتُ مُصمِّمة على عدَم الزواج والإنجاب بسبب اضطراب نفسيّ. فالفصام، أصابَ جدّتي ومِن ثمّ أمّي وقد يُصيبُني حتمًا لأنّه في غالِب الأحيان يكون وراثياً. فلقد عانَيتُ كثيرًا مِن عوارض الفصام عند أمّي، فالمسكينة كانت قد فقدَت صِلتها بالواقع في سنينها الأخيرة، وكانت ترى أشياءً غير موجودة وتتوهّم أنّ الناس يُريدون أذيّتها بطرق بالفعل غير منطقيّة. هي لَم تكن هكذا منذ البدء، بل خالَت وأبي أنّها تُعاني مِن اكتئاب عابِر عائد لولادة أخي الصغير. تفاقَمَ وضعها سنة بعد سنة، إلى حين وقَعَ التشخيص الحقيقيّ وبدأ العلاج الذي لَم ينفَع كثيرًا. أمّها عانَت مِن الاضطراب نفسه وقيلَ عنها أنّها جنَّت وماتَت في المصحّة.

لكنّ القدَر شاءَ أن أقَع في حبّ حُسام ونسيتُ لفترة مخاوفي، فذلك الشعور الجميل طغى على كلّ شيء. لكن حين عرَضَ عليّ الزواج، عدتُ إلى واقعي المرير فرفضتُ عرضه غير مُعلِنة عن السبب الحقيقيّ. إلا أنّ حُسام لَم يتقبّل الرفض، بل أصَرَّ أن يعرف لماذا لا أريدُه بالرغم مِن حبّي الواضح له. وبعد مُجادلة طويلة ومُتعبة، إنتهى بي المطاف أقصُّ له ما حصَلَ لأمّي وجدّتي. عندها هو قالَ لي:

 

ـ حسنًا... سنذهبُ سويًّا لطبيب صديقي ونسأله إن كان محتّمًا أن تُصابي بالفصام. لكنّني رجُل مُثقّف وأعلَم مُسبقًا أنّ الأمراض الوارثيّة ليست حتميّة. إضافة إلى ذلك، انا لَم أرَ أبدًا فيكِ أيّ علامات اضطراب نفسيّ على الاطلاق.

 

ومع أنّني لَم أكن مُقتنِعة أبدًا، قبِلتُ أن أِرافقَه، فلقد ظهرَت علامات المرَض على أمّي بعد زواجها ببضع سنوات. هل هي كانت تُعاني مِن مشاكل نفسيّة قَبل ذلك ولَم ينتبِه أحد للدلائل التي كانت خفيفة، لستُ أدري. يا إلهي، لماذا لا يتركني حُسام وشأني ويبحثُ عن زوجة أخرى له؟!؟

بعد أن سألَني مئة سؤال، قال لنا الطبيب إنّ ليس عليّ أن أتوهّم وإنّني أبدو له طبيعيّة، ثمّ هو دعا لنا بالتوفيق. بقيتُ قلِقة وكذلك والدي، الذي كان يتوقّع هو الآخَر أن ينتهي المطاف بي مثل زوجته التي سبّبَت له مُعاناة كبيرة وطويلة. وحده أخي الصغير كان واثِقًا مِن أنّني سليمة العقل، وأنّ يجب عليّ الزواج والإنجاب ونسيان موضوع الفصام.

تزوّجتُ وعشتُ مع حُسام في شقّته الظريفة في ضواحي المدينة، مكان يقَع في منطقة سكنيّة هادئة مزروعة بالشجر، ونسيتُ مع الوقت ذلك القلَق الذي رافقَني منذ صغري بفضل حبّ زوجي لي. فذلك الرجُل كان بالفعل يهتمّ بي كثيرًا، ويفعلُ جهده لتأمين كلّ ما أحتاجُ إليه. لكنّني كنتُ قد اتّفقتُ معه أن نؤجّل موضوع الانجاب قليلاW وهو قبِلَ معي، فهمّه الوحيد كان أن يعيشَ معي تحت سقف واحد. شيء واحد أزعجَني، وهو أنّ حُسام طلَبَ منّي أن أتركَ عمَلي لأنّه كان يجني ما يكفي، ولا يُريدُني أن أقطَع مسافة طويلة بين عمَلي ومنزلي الجديد. للحقيقة كنتُ امرأة عامِلة منذ سنوات، ولَم أعُد أعرف ما أفعَل طوال النهار بعد أن أنتهي مِن ترتيب وتنظيف البيت وإعداد الطعام. حمَدتُ ربّي أنّني تصادَقتُ مع رانيا جارتي في المبنى المُجاوِر، فصرتُ أزورُها وتزورُني في أوقات فراغي العديدة. هي أيضًا لَم تكن تعمَل بل لدَيها ولَد وحيد تهتمّ به. لكنّ زوجها كان رجُلاً قاسيًا وطاغيًا، وهي تخافُ منه كثيرًا وحين سألتُها لماذا تبقى معه، قالَت لي:

 

ـ لا تحكُمي عليّ أرجوكِ... فلدى زوجي مال وفير ولقد اعتَدتُ على العَيش برخاء... أنا إبنة أناس فقراء ولن تأتيني فرصة أفضل... لا عليكِ، أنا تأقلَمتُ مع طباع زوجي البشِعة، وأعرفُ كيف أتجنّب نوبات غضبه الشديد... إضافة إلى ذلك، هو يُسافرُ كثيرًا فلا أراه بصورة دائمة. كَم أنّني سعيدة بكِ يا أحلى جارة!

 

أسِفتُ لرانيا، وأدركتُ كَم أنّني محظوظ بحُسام، فشكرتُ ربّي للمرّة الألف لأنّه بعثَه لي. ففي تلك الفترة، لَم أكن أعلَم بعد بماذا سيحصلُ لي.

لكن قبَل أن أروي لكم بقيّة الأحداث، دعوني أُكلّمُكم عن صوفيا، جارتي الأخرى التي تسكنُ في المبنى نفسه. هي كانت سيّدة في العقد الخامس مِن عمرها وتعيشُ مع هِرَرها بعد أن توفّى زوجها. هي الأخرى صادقَتني وأعترفُ أنّني كنتُ أنزعِج أحيانًا مِن أسئلتها الكثيرة، لكنّني كنتُ أحبّ رفقتها لأنّها إنسانة مُثقّفة وطيّبة... لولا فضولها! أمّا علاقتها برانيا، فكانت فاتِرة لكن مبنيّة على الاحترام المُتبادَل.

وهكذا كنتُ أملأ فراغي، وأعترفُ أنّ تلك السيّدتَين ساعدَتاني كثيرًا للتأقلم مع حياتي الجديدة.

إلا أنّ صوفيا كانت تعرفُ أشياءً كثيرة عن زوجي حين كان لا يزال عازبًا ويعيشُ لوحده، وحاولَت جهدها للاحتفاظ بها. لكنّها كانت تكره الكذِب والمكر والتمثيل، لِذا قالَت لي خلال إحدى زياراتي لها:

 

ـ حبيبتي... كَم أنا سعيدة بكِ، فأنتِ سيّدة مُميّزة للغاية، ونادرًا ما أنسجِم مع أحد... مِن حسن حظّي أن لدَيّ قِطَتي، فالحيوان لا يعرفُ الغشّ بل يتصرّف حسب غريزته. يا لَيت الناس يتصرّفون هكذا أيضًا!

 

ـ لا تكوني قاسية يا صوفيا... فهناك مَن هم بغاية الصدق، مثل جارتنا رانيا، فأنا أجِدُها لطيفة للغاية... المسكينة... يا له مِن زوج بغيض!

 

ـ لو كان زوج رانيا فقيرًا لتركَته منذ زمَن بعيد! يا تُرى ما سبب غضب ذلك الرجُل الدائم؟ فلو كان سعيدًا لكانت طباعه أفضل.

 

ـ ربّما هو ضحيّة طفولة صعبة، مَن يدري؟

 

ـ حين انتقلَت رانيا وزوجها للعَيش بيننا كانا ثنائيًّا سعيدًا، فلقد عاشرتُهما وزوجي لفترة قَبل أن يموت رفيق دَربي. ثمّ تغيّرَت أحوالهما فجأة وصارَ الزوج يُسافِر باستمرار. أنا أعلَم كلّ ما يدورُ في مُجتمعنا الصغير هنا، لا لأنّني فضوليّة كما يعتقد البعض بل لأنّني أهوى مُراقبة الصنف البشريّ لأُقارِنه بالحيوانات التي أكنُّ لها شغَفًا كبيرًا. ما لا تعرفينَه عنّي هو أنّني درستُ علِم النفس في الجامعة لكنّني لَم أُمارِس اختصاصي.

 

ـ أحبُّكِ كثيرًا يا صوفيا، فمعكِ أشعرُ أنّني لستُ بحاجة إلى إثبات أيّ شيء. يا لَيتكِ مارستِ اختصاصكِ لأخبرتُكِ بما يُقلِقُني على الدوام! دعينا مِن سيرة رانيا وزوجها، فكلّ الناس لدَيهم مشاكل. أرجو فقط أن يبقى حُسام زوجًا مُحِبًّا ومُخلِصًا.

 

ـ إبن رانيا ولَد لطيف وجميل... رأيتُكِ تُلاعبينَه.

 

ـ أجل، أرأيتِ أيضًا عَينَاه الواسعَتان السوداوان؟ سبحان الله!

 

ـ بالطبع... عَينان رأيتِهما عند شخص آخَر أيضًا، أليس كذلك؟

 

ـ ماذا تعنين؟ عند مَن؟

 

ـ زوجكِ حُسام.

 

سكتُّ مُطوّلاً ثمّ اتّفَقتُ مع صوفيا على الشبَه الموجود بينهما. وتذكّرتُ أنّ أوّل شيء لاحظتُه عند حُسام عندما رأيتُه لأوّل مرّة عَيناه الجميلتان والمُميّزتان. نظرتُ إلى صوفيا ورأيتُ على وجهها ابتسامة خفيفة فهمتُها على الفور. لا... لا يجوزُ أن تكون جارتي على حقّ... إنّها صدفة حتمًا! تابعَت صوفيا:

 

ـ أظنُّ أنّ مِن الأفضل لو تنتقلي وزوجكِ للعَيش في مكان آخَر حتّى لو عنى ذلك ابتعادكِ عنّي.

 

ـ لماذا تفعلين ذلك؟!؟ لماذا هذا الكلام المُبهَم الذي له أبعاد خطيرة؟

 

ـ لأنّني لا أُطيقُ المِكر! هكذا أنا. على كلّ الأحوال، أنا لَم أقُل شيئًا، فافعلي ما تشائين. وإن احتجتِ لأيّ شيء، تعرفين أين تجديني.

 

فكّرتُ كثيرًا بكلام صوفيا، وشعرتُ أنّها تقولُ الحقيقة مع أنّني لَم أُلاحِظ شيئًا مُريبًا يدورُ بين حُسام ورانيا. لِذا أعرَبتُ لزوجي عن رغبتي في الانتقال مِن مسكننا لكنّه رفَضَ بقوّة استغربتُها.

عدتُ وأدركتُ أنّه مُرتاح في شقّة إعتادَ عليها منذ سنوات عديدة وجيرة باتَ يعرفُها. هل كنتُ أُحلِّل أكثر مِن اللازم؟ فصوفيا لَم تتكلّم بوضوح وهي قد تكون على خطأ. لِما لا أنتظِر قليلاً قَبل أن أحكم على زوجي فهو بالفعل زوج جيّد لي. تبًّا لكِ يا صوفيا! لماذا هذا الكلام المؤذي؟ هل لتدمير زواجي؟

لَم أثِر بعد ذلك مع حُسام مسألة تغيير مسكننا، فعلى كلّ الأحوال، هو لَم يسألَني عن سبب طلَبي هذا، وانتهى الموضوع مِن تلقاء نفسه. لكنّني بدأتُ أشعرُ بامتعاض حيال جارتي رانيا بعد أن دخَلَ الشكّ رأسي. وكلّما رأيتُها وابنها، كنتُ أرى الشبَه الكبير بين صغيرها وزوجي. مهلاً... هل بدأتُ أهلوِس كأمّي وجدّتي؟!؟ لا... فتلك الفكرة لَم تأتِ مِن رأسي بل مِن صوفيا. لا، لا، لا خطبَ بي على الاطلاق، أليس هذا ما قالَه لي الطبيب الذي قصَدناه وزوجي؟

إبتعدَت صوفيا عنّي قليلاً، ربّما لأنّها شعرَت أنّها تمادَت في الكلام، وأنا لَم أُحاوِل رؤيتها بل صرنا نلتقي أحيانًا عند شراء حاجاتنا مِن دكّان الحَيّ ونتبادَل التحيّة وحسب، يا إلهي... خسِرتُ صديقتَيّ الوحيدتَين! ماذا سأفعَل لوحدي؟ هل يجدرُ بي التفكير بالإنجاب أم عليّ الانتظار بعد؟ تساؤلات كثيرة دارَت في بالي وأتعبَتني كثيرًا.

ثمّ حدَثَ أن أتى طَرد إلى بابي يحملُ اسم رانيا فحمِلتُه وأخذتُه إليها. هي شكرَتني بحرارة واعتذرَت كثيرًا على هذا الخطأ، فطمأنتُها بأن لا دخل لها، فهذه الأمور تحصلُ دائمًا كَوننا نسكنُ بالقرب مِن بعضنا. لكنّها بدَت لي مُرتبِكة بشكل مُبالَغ به، الأمر الذي أثارَ رَيبتي. لِذا قلتُ لها:

 

ـ ما بالكِ يا رانيا؟ لَم يحصل شيء! قام ساعي البريد بتوصيل طرد يخصّكِ إلى بابنا وحسب!

 

ـ أجل، أجل... لَم يحصل شيئًا على الاطلاق، أنتِ على حقّ.

 

عندها أدركتُ أنّني رأيتُ على الطرد اسم رانيا لكن عنواننا نحن! وفهمتُ سبب ارتباكها الكبير! لَم أقُل شيئًا بل غادرتُ بسرعة منزلها قَبل أن تُلاحِظ أنّني فهمتُ ما جرى. ركضتُ إلى البيت لأحلِّل كلّ المعطيات بهدوء وتعقّل، ففي هكذا أمور، لا يجدر التسرّع. يا إلهي... هل كانت صوفيا على حقّ أمّ أنّ لِما جرى ويجري تفسيرات بسيطة ومنطقيّة؟

 

يتبع...

المزيد
back to top button