هل أستحقّ هذه السعادة؟

لم أسامح أهلي يوماً على كونهم فقراء! منذ صغري وأنا أنظر إلى أولاد الأغنياء وأسأل نفسي لِمَ شاء القدر أن أولد بين أناس أمّيين لا ماضي لهم ولا مستقبل؟

أبي كان عامل بسيط في معمل وأمّي كانت تنزل كل يوم إلى المدينة لِتهتمّ بمنزل أناس أغنياء. وعندما بلغتُ العاشرة من عمري طلبتُ منهما أن أعيش مع عمّتي التي تغيّرت أحوالها حين تزوّجت من تاجر أحذية كبير. قَبِلا على مضد وإنتقلتُ إلى العاصمة لأنعم برخاء هؤلاء الناس الذين لم يرزقا يوماً بطفل. كم كنتُ سعيدة أن أضع ورائي القلق الذي عشتُ فيه والقلّة التي كانت قوطي اليومي. فعند عمّتي لا أحد يحسب كميّة الأرز والسكّر وإن كان الحطب سيكفي للشتاء.

دخلتُ أفضل مدرسة وتلقّيتُ تعليماً لم أحلم به يوماً. أصدقائي لم يكونوا إبن السكّاف او بنت المزارع بل أولاد أصحاب الشركات العالميّة أو سياسيين مرموقين. معهم كنتُ قد وجدتُ نفسي ولم أشعر يوماً بفرق ما. لتبرير مكوثي مع عمّتي كنتُ قد إخترعتُ قصّة مأسويّة يموتوا فيها أهلي حين سقطت طائرتهما الخاصة في جبال الألب. كان رفاقي يشهقون عند سماع قصّتي وكنتُ أذرف دمعة أو إثنتين لإقناع من بقي عنده شكوك. كبرتُ في الوهم والكذب أحيكُ حياتي بخيوط خياليّة.

ومع السنين أصبحتُ شابة جميلة ومثقّفة تجيد التعامل مع الناس. لم أسأل يوماً عن أهلي رغم أنني كنتُ أعلم أنّهما يتابعان أخباري عن كثب. للحقيقة كنتُ قد نسيتُ أمرهما وكأنّهما لم يوجدوا قط. وبعد بضعة سنين من رحيلي أخبرتني عمّتي أن أبي قد مات ولكنني ام أحزن بل بالعكس شعرتُ بإرتياح وكانّ نصف ماضييّ قد زال.

وفي أحد الأفراح المرموقة التي كنتُ قد دعيتُ إليها تعرّفتُ إلى أحمد وأعجبتُ به فوراً فكان لديه كل ما تحلم به أي فتاة: وسيماً، ثريّاً ومثقّفاً أي مناسباً تماماً لي. تبادلنا بعض الكلمات وبعد فترة قصيرة علمتُ أنّه سأل عنّي وقيل له أنني شابة ممتازة. وإتّصلت أمّه بعمّتي وتناقشتا إمكانيّة التقارب بيننا. وبدأتُ أواعد أحمد ووجدتُ فيه الأخلاق الحسنة والقلب الكبير مما عزّز من حبّي وإعجابي به. أمّا هو فقد تأثّر كثيراً بقصّة موت أهلي ووعدني أن يفعل ما بوسعه لإسعادي والتعويض لي عن الحنان الذي إفتقدته.

بعد تحديد موعد الزفاف بدأتُ بالتحضيرات لأكون أجمل عروس. كانت فرحتي لا تسعني فكل شيء كان يجري كما لطالما تمنّيتُه. وفي ذات ليلة جاءت عمّتي إلى غرفتي وسألتني إن كنتُ أنوي دعوة أمّي إلى الزفاف فأجبتها:

- أنتِ أمّي ووجودكِ كافياً. أنا لا أكرها ولكنني لا أحبّها بالرغم أنّها لم ُتسِىء إليّ يوماً.  ما أتذكّره عنها هو إمرأة تعبة تأخذ البأس في الصباح لتعود منهكة في المساء ثم تحضّر لنا عشاءً لم يكن يكفينا قبل أن تخلد إلى النوم. أعلم أنّها كانت تفعل ما بوسعها لتأمين القوط لنا ولكنني لم أشعر بالعاطفة تجاهها ولو لم تسأليني عنها الآن لما تذكّرتُها حتى. وكيف أدعوها وأنا قلتُ للجميع أنّها ماتت وأنا صغيرة. دعينا من هذا الحديث فلا أريد أن يزعجني شيء الآن فأنا أطير من الفرح!

نظَرَت إليّ عمّتي بحزن وخرجت من الغرفة.

وجاء اليوم المنتظر. كنتُ قد دعيتُ كل رفاقي في المدرسة والجامعة ليشاهدوا ذروة نجاحي. أردتُ أن يرى العالم بأسره ما حقّقته البنت الفقيرة.

إمتلأت الصالة بالناس وبدأت الموسيقى تضرب أطنابها حين ذهب أحمد ورجع بصحبة أحد:

- حبيبتي أريد أن أعرّفكِ إلى أعزّ إنسانة بعد أمّي. في الواقع هي والدتي الثانية، هي التي ربّتني وإهتمّت بي عندما كانت أمّي تذهب إلى حفلاتها الإجتماعيّة العديدة. لم أستطع تخيّل هذا النهار من دون وجودها.

ورأيتُ أمّي واقفة أمامي وعلى وجهها مزيج من الحزن والفرح ومن شدّة إندهاشي وخوفي لم أستطع التفوّه بكلمة واحدة. أخذَت يدي وقبّلتها وقالت لي:

- هنيئاً لكِ سيّدتي... لم يبالغ أحمد عندما قال أنّكِ جميلة وأنيقة. أتمنّى لكما السعادة من كل قلبي. كان  لي إبنة يوماً ولكنّها توفّيت وهي صغيرة...

حين سمعتُ هذا إنهالت دموعي فلم أتخيّل أنّ أمّي قد تعتبرني ميّتة. أصبتُ في صميمي رغم أنني أخبرتُ الجميع أنني يتيمة ولم أسأل عنها يوماً.

عانقني أحمد وقال:

- أترَين يا ماما ثناء كم أنّ زوجتي مرهفة الإحساس؟ هي مثلي ذات قلب كبير وأنا متأكّد أنّها ستفرح كثيراً عندما تعلم أنّكِ ستأتين للعيش معنا لتربية أولادنا. أليس كذلك يا حبيبتي؟

- رائع جدّاً...

وبعد عودتنا من شهر العسل التي لم أستمتع به بسبب قلقي وجدتُ أمّي بإنتظارنا في منزلنا. أخذتها فوراً على حداً وقلتُ لها:

- إسمعي، لستُ فخورة بما فعلته ولكن لا رجوع الآن. لا تهدمي كل ما بنيته على مدى سنين. أنا أحبّ أحمد ولن أخسره.

- لا تخافي... لن أسبب لك التعاسة فأنا أمّكِ.

ومن نظرتها ونبرة صوتها علمتُ أنّها لن تفضحني.

في البدء وجدتُ صعوبة كبيرة للتأقلم مع هذا الوضع ولكن مع الأيّام بدأتُ أعتاد على وجودها معي فأنا تركتُ البيت وأنا صغيرة ولم يتسنّى لي أن أعرف من هي فعلاً. وفي غضون بضعة أشهر أصبحنا فعلاً كالبنت وأمّها وشعرتُ بعاطفة الأم الشيء الوحيد الذي لم تستطع عمّتي إعطاءه لي رغم كل حبّها وإنتباهها.

وأحسستُ بالندم الشديد وقررتُ أن أخبر أحمد بالحقيقة حتى لو كان هذا سيكلّفني زواجي فلم أعد أحتمل هذه التمثيليّة. لقد عانت أمّي منّي الكثير ولم أكن أريد الإستمرار بأذيّتها.

بكيتُ وأنا أروي قصّتي لزوجي وطلبتُ منه السماح. إبتسم وقال:

- ها هي المرأة التي أحببتها! أتظنّين أنني لم أعرف أنّها أمّكِ؟ أوّل مرّة إلتقينا شعرتُ أنني رأيتُ وجهكِ من قبل لأنّكِ نسخة طبق الأصل عن التي ربّتني. لا تنسِ أنّها كانت شابة في ذاك الوقت. وقصّتكِ عن موت والديكِ كانت دراماتيكيّة أكثر من اللزوم فسألتُ صديق لي يعمل في صحيفة كبيرة أن يبحث في الأرشيف عن سقوط طائرة خاصة في تلك الحقبة فلم يجد شيئاً طبعاً.

- ولم بقيتَ معي إذأً؟

- لأنني أحببتكِ وقررتُ أن أساعدكِ على إسترجاع حياتكِ. إتصلتُ بماما ثناء وعرضتُ عليها خطّتي. في البدء رفضَت رفضاً قاطعاً ولكن أقنعتها أنّ ما أفعله هو لصالحكِ أوّلاً. كنتُ متأكّد أنّكِ ستأتين إليّ بالحقيقة عندما يحين الوقت.

- وما تنوي فعله الآن؟

- اليوم بدأت حياتي معكِ. لا يهمّني الماضي بعد الآن.

وإكتملَت حياتي بمجيء إبنتي. ساعدتني أمّي بالإهتمام بها وأرتني كيف أعطيها الحنان. وعلمتُ حينها كيف أنّ الأهل يتفانون من أجل أطفالهم وأنّهم مستعدّون لأيّ تضحية من أجل سعادتهم مهما كلّفهم الأمر.

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button