هكذا رَحلَت امي...

كم مِن الصّعب أن يعيش الانسان مع الشَك. لا أتكلّم عن الشكّ الاعتياديّ، أيّ في صدق رفيق أو وفاء زوجة، بل عن أمرٍ يتعلّق بأسباب موت أعزّ انسان لدَينا.

ربَّتني أمّي وحدها بعد أن مات أبي وأنا صغير في حادث مؤسف. أعطَتني المسكينة كلّ ما لدَيها مِن حبّ وحنان، وعمِلَت في المنازل لتؤمّن لي القوت والدّراسة. جعَلَت منّي رجلاً بكلّ معنى الكلمة وحرصَت على أن أكون شخصًا ذا تفكير مستقلّ وحرّ.

وحين كبِرتُ وأصبحتُ بسنّ مناسب للزواج، قطَعتُ على نفسي عهدًا ألا أتركها كما يفعل البعض، بل أن آتي بعروستي إلى بيتنا ونعيش كلّنا بإلفة وسلام. لم يكن الأمر صعبًا فأمّي انسانة طيبّة وقلبها لا يعرف سوى الحب والتسامح وأيّ فتاة ستجد فيها صورة الأم الثانية. ولأنّني كنتُ واثقًا مِن ذلك لم أحسن وللأسف اختيار شريكة حياتي.

 

كانت دارين فتاة جميلة للغاية وكانت تعيش مع أهلها في بيت جميل أيضًا، تعرّفتُ إليها عند أصدقاء مشتركين وأُعجِبنا ببعضنا كثيرًا وهي التي أعطَتني رقم هاتفها قائلة: "أنتَ تثير اهتمامي ولن أدَعَكَ تفلِت منّي". ضحِكنا ونظرنا إلى بعضنا مطوّلاً.

لم أنَم تلك الليلة جيّدًا، لكثرة حماسي لأنّني شعَرتُ فعلاً أنّني وجدتُ نصفيَ الآخر، ولو فكّرتُ جيّدًا لرأيتُ أنّ ذلك الحماس لا يرتكز على شيء فعليّ، وأنّه كان مِن المبكّر جدًا أن أكوّن فكرت بشخصٍ ما بهذه السرعة.

إتصَلت بي دارين في اليوم التالي وتحدّثنا مطوّلاً عن أمور عديدة، وأعرَبتُ لها عن كامل اعجابي مؤكّدًا لها أنّني رجل جدّيّ لا يحسن الكذب أو التلاعب بمشاعر الآخرين.

 

وبدأنا نتواعد وكانت أيامًا جميلة لم أنسَها حتى اليوم. كانت دارين لطيفة ورقيقة وتتمتّع بدلَع صعب مقاومته. حرّكَت فيّ غريزة دفعَتني إلى طلب يدها بسرعة وحملَتني على التغاضي عن أمور كثيرة. فلم أركّز مثلاً على طبعها الحاد إذ كانت سريعة الغضب عندما لم تكن تنال مرادها، أو على حبّها المفرط لنفسها حتى لو كان ذلك على حساب غيرها. وعندما أخبَرتني أنّها انتقمَت مِن زميلة لها في العمل بحمل المدير على طردها، وذلك فقط لأنّ المسكينة لم تكن تحبّ طريقة لبسها الذي كان جريئاً بالفعل. لم أرَ حينها أبعاد ما يُمكن أن تفعله دارين بالذين لا تحبّهم أو الذين يُزعجونها.

 


وبالطبع شَرَحتُ لها عن حبّي لأمّي وعدَم استعدادي لتركها في حال تزوّجنا، ولم تبدِ حبيبتي انزعاجًا حيال الموضوع.

أخَذتُ دارين للتعرّف إلى والدتي، وجرَت الأمور جيّدًا مع أنّني رأيتُ لمحة قلق في عَينَي أمّي وتحفّظًا مِن قبَل حبيبتي، وردَدتُ الأمر إلى عدَم معرفتهما ببعضهما جيّدًا وأخذتُ على عاتقي تقريبهما أكثر.

تركتُ لدارين حريّة اختيار أثاث البيت، وكنتُ مسرورًا مِن النتيجة مع أنّ الأمر كلّفني الكثير مِن المال، ولكن راتبينا كانا كافيَين لتأمين حياة أكثر مِن مريحة.

في البدء جرَت الأمور جيّدًا بين دارين وأمّي، التي عمِلَت جهدها على إعطاء زوجتي أكبر مساحة ممكنة لتشعر فعلاً أنّها سيّدة البيت، ولكنّ ذلك لم يكن كافيًا بنظر زوجتي. فبالرّغم مِن أنّنا غيّرنا كامل الأثاث وهي التي اختارَته، كانت تحسّ بأنّها ليست في بيتها. وعندما سألتُها عن السبب أجابَت:

 

ـ أمّكَ هي السّبب... تشعرني بأنّني دخيلة.

 

ـ كيف ذلك وهي لا تتدخّل بشيء؟ أنتِ لا ترَينها إلا في المساء بعد عودتكِ مِن العمل، وحينها يكون كلّ شيء جاهزًا مِن ترتيب ومأكل.

 

ـ ومع ذلك أشعر بالانزعاج... ألا ترى نظراتها إليّ؟ هي لا تحبّني... يا ليتَني لم...

 

ـ لا تكملي أرجوكِ! سأرى ما في الأمر

 

وقصَدتُ والدتي وسألتُها عن موقفها تجاه زوجتي فأجابَت:

 

ـ إنّها امرأة لطيفة... على ما أعتقد.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ أقصد أنّني لا أعرفها جيّدًا فبالكاد أراها، وحين تأتي فرصة نهاية الأسبوع تذهبان سويًّا للتنزّه أو ملاقاة الأصدقاء.

 

عندها أدرَكتُ أنّ أمّي تشعر بالوحدة وأنّ اصطحابها معنا قد يفيدها ويفيد علاقتها بدارين.

وهكذا بدأنا نخرج نحن الثلاثة إلى المطاعم والنزهات وكنتُ ممنونًا جدًّا مِن نفسي. ولكنّ زوجتي لم تكن تشاطرني فرحَتي، وبدأَت تجد الأعذار لعدم الخروج، كالمرض أو الانشغال حتى صِرنا نبقى في البيت طوال الوقت.

 


وباتَت الأجواء متشنّجة لأنّ دارين رأَت أنّني أفرض عليها وجود والدتي: "كما لو أنّ رؤيتها كلّ يوم لم يكن كافيًا" حسب قولها. وأحتَرتُ لأمري وقرَّرتُ أن أخرج مع زوجتي لوحدنا تارة، وتارة أخرى مع أمّي ولكن مِن دون دارين التي كانت تفضّل إمّا البقاء لوحدها في البيت أو لقاء صديقاتها في المقهى.

وخلتُ أنّ الأمور هدأَت بينما كانت الحقيقة مغايرة تمامًا. فدارين كانت قد بدأَت تكره أمّي تمامًا كما كَرَهت تلك الزميلة أو كلّ مَن يقف بدربها.

ولا أبالغ عندما أقول إنّ والدتي لم تتدخّل يومًا بشؤوننا أو تفرض نفسها علينا، ولا أعتقد أنّه يوجد حموات كثر مثلها في العالم. ولكنّ المشكلة لم تكن نابعة منها بل مِن انسانة أنانيّة ومدللة معتادة على الحصول على مبتغاها، ففي نظرها كانت الغاية تبرّر الوسيلة.

بدأَت دارين بازعاج أمّي، وذلك بجلب صديقاتها ليلاً والسّهر معهنّ حتى ساعات متأخّرة، وتعمل جهدها على إحداث أكبر ضجّة ممكنة. حاولتُ إفهامها أنّ أمّي بحاجة إلى الراحة، فهي تهتمّ بالبيت والطهو وكلّ ما يلزم لابقاء البيت نظيفًا، ولكنّها أجابَتني:

 

- هذا بيتي أيضًا ويحقّ لي أن أفعل ما أشاء فيه... إن كانت تنزعج منّي فيُمكننا الرحيل وترك البيت كلّه لها.

 

إلى جانب ذلك صارَت زوجتي تسيء الكلام مع أمّي، الأمر الذي لم أكن لأقبله بتاتًا، فمهما كان حبّي لدارين كبيرًا لن يصل يومًا إلى قدر حبّي لأمّي، وقرَّرتُ طبعًا أن أضع حدًّا لوقاحة زوجتي فأنَّبتُها بشدّة ومنعتُها مِن التقليل مِن احترام والدتي.

عندها نظَرَت إليّ دارين بغضب وكره وقالت:

 

ـ مَن تظنّ نفسكَ لتمنعَني عن أيّ شيء؟ أنا دارين! أفعل وأقول ما أريده! أمّكَ هي السّبب فلولاها لعشنا بسلام... آه لو تموت! أجل... هذا هو الحلّ الوحيد لأنّكَ لن تتركها أبدًا! أريدها أن تموت!

 

ـ هل فقدتِ عقلكِ؟؟؟ ما هذا الكلام؟!؟ لا أسمح لكِ بأن تتكلّمي عن أمّي هكذا! على كلّ حال حتى لو تمنَّيتِ لها الموت فهذا لن يحصل... هو مجرّد كلام!

 

ـ ومَن قال لكَ إنّه مجرد كلام؟

 

وخَرَجَت دارين مِن الغرفة قبل أن أعرف المزيد، وبقيتُ لوحدي أفكّر بالمصيبة التي جلبتُها لنفسي ولأمّي بزواجي مِن تلك الفاجرة. فكان مِن الواضح أنّني لم أعد قادرًا على العيش مع تلك الانسانة، وكان لا بدّ لي أن أضع حدًّا لزواجي بها.

اليوم التالي مرَّ بجوّ مِن الجفاف التام، وانتقَلتُ للنوم في الصالون إلى حين أجد حلاً مناسبًا لمشكلتي.

ولكن بعد يومَين لم تأتِ أمّي لتحضير الفطور كما تفعل كلّ صباح. إنتظرتُ قليلاً ومِن ثمّ قرَّرتُ قصد غرفتها لإيقاظها. ووجدتُ والدتي باردة في سريرها. ركَعتُ بالقرب منها وبدأتُ بالبكاء. رحَلَت أعظم امرأة في العالم وشعَرتُ وكأنّني طفل صغير تائه. ركضَت دارين على صوت بكائي، ووقفَت عند باب الغرفة وأقسم أنّني رأيتُها تبتسم.

وتذكَّرتُ ما قالَته قبل أيّام قليلة، وسألتُ نفسي إن كان موت أمّي صدفة أم أنّ زوجتي هي التي قتلَتها. لم يكن لدَيَّ أيّ دليل بل كانت مجرّد كلمات خَرَجَت مِن فمها في لحظة غضب، ولم أرِد اثارة المشاكل وفتح قضيّة قد لا تصل إلى أيّ مكان، خاصة أنّ الطبيب الذي وقَّعَ على شهادة الوفاة قال إنّ سبب موت والدتي عائد إلى توقّف قلبها عن الخفقان. فضَّلتُ دفن أمّي بهدوء والحفاظ على كرامتها وعدم تعريض جثمانها إلى للتشريح خاصة إن كان الأمر مرتكزًا على مجرّد شكّ وليس يقين.

وأّوّل شيء فعلتُه بعد انتهاء مراسم الدفن والعزاء، هو اعادة دارين إلى اهلها والمباشرة بدعوى الطلاق. كنتُ قد اشمأزَّيتُ منها إلى أقصى درجة وكان مِن المستحيل أن أنظر إليها حتى. أمّا هي فلَم تفهم سبب قراري، بعدما وحسب قولها "أصبَحَ البيت ملكنا وحدنا".

اليوم أعيش مع ذكرى أمّي وأشعر بذنب لا مثيل له. هل قتَلَت دارين أمّي؟ وحتى لو لم تفعل، هل كانت تصرّفاتها هي السّبب بموتها أم أنّ الموت كان مقدرًا لها ؟

أسئلة لم ولن أجد لها أجوبة يومًا.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button