حين استقرَّيتُ وخليل في غرفتنا في حديقة الفيلا، أخذتُ قرارًا أن أتحمّل وضعي الجديد وأتناسى أنّني كنتُ، قبل أشهر قليلة، أسكنُ أنا الأخرى في فيلا لها حديقة كبيرة وحدائقيّ. وبدأ زوجي بالعمل، وأنا أخذتُ أرتّبُ بعض الشيء مسكنًا صغيرًا للغاية ومتروكًا منذ فترة طويلة. كانت رائحة الرّطوبة تعمّ المكان، والسّرير على وشك الانهيار والخزائن تعجُّ بالحشرات. إمتلأت عينايَ بالدموع، لكنّني مسحتُها بشجاعة.
شكرتُ ربّي أنّ أصحاب الفيلا لَم يطلبوا رؤيتي ولا زاروا الغرفة، فلَم أكن أعلم كيف أتصرّفُ معهم. لكنّ ذلك الوضع لَم يدُم طويلاً.
فذات يوم جاءَت إليّ صاحبة الفيلا، إمرأة بالعقد السادس مِن عمرها. كانت ترتدي ثيابًا أنيقة والكثير مِن الحُلى، الأمر الذي ذكّرَني بأمّي. ففي هكذا مُجتمعات، على المرء أن يعرض ثراءه في كلّ وقت ومكان. نظَرَت السيّدة أمَل إليّ بشيء مِن الإحتقار ثمّ ابتسمَت. جالَت بنظرها في الغرفة وقالَت:
ـ هل ستبقين مُختبئة طويلاً في هذا المكان المُقرِف؟
ـ هذا مسكني، يا سيّدتي، ولَم يعدُ مُقرفًا بعدما رتّبتُه.
ـ لا يزال وضيعًا، فمهما فعلتِ به سيظلّ غرفة في حديقة. ألَم يقل لكِ زوجكِ إنّ عليكِ العمل في الفيلا؟
ـ لا يا سيّدتي، لَم يقل لي، ربمّا لأنّني إشطرتُ عليه أنّني لن أعمَل بل أبقى في الغرفة.
ـ لستِ مَن يُقرّر ذلك، فأنا مَن يملكُ حقّ الإختيار، وإن كان لا يُعجبُكِ ذلك يُمكنكِ الرّحيل.
ـ إذًا سنرحل غدًا!
ـ أنتِ ترحَلين ويبقى زوجكِ هنا، فلقد جعلناه يُوقّع على عقد عمل يقضي بقيامه بمهامه كحدائقيّ وأنتِ كخادمة لمدّة سنة كاملة، أو دفع غرامة ماليّة كبيرة. سأكون بانتظاركِ في الصّباح الباكر، فخادمتنا بحاجة إلى مُساعدة.
وفور انتهائها مِن الكلام، رحلَت أمَل مِن الغرفة بعد أن نظرَت إليّ بتحدٍّ.
إنتابَني غضب شديد، وركضتُ خارجًا أفتّش عن خليل لأسألُه عن ذلك العقد، وأعاتبُه على ما فعلَه بي. كيف له أن يحمِلَني على العمَل في بيوت الناس؟ ألا تكفيه التضحيات التي قمتُ بها مِن أجله؟
كان خليل يعمل بهدوء في الحديقة، وعندما أفرغتُ غضبي عليه وقَفَ ينظرُ إليّ بتعجّب. ومِن ثمّ قال:
ـ هذا المكان هو الوحيد الذي وجدتُه وإلا مُتنا جوعًا... إنّها مرحلة مؤقّتة وأرجو منكِ الصّبر حتى انتهاء العقد.
ـ تعني الإنتظار سنة بكاملها؟!؟ ومَن قال لكَ إنّني موافقة على بنود هذا العقد؟
ـ لأنّني أعرفُ أكثر منكِ ما يُناسبنا وما نحتاج إليه. أنا زوجكِ وأنا أقرّرُ عنكِ.
لم أستطع الردّ لكثرة اندهاشي مِن كلام خليل. هل يُعقل أن يكون ذلك الرجل هو نفسه الذي أحبَبتُه؟ عُدتُ إلى الغرفة للتفكير بما عليّ فعله، وكنتُ مصمّمة على ترك هذا المكان وبسرعة. ولكن إلى أين أذهبُ؟ لِذا قبلتُ، على مضض طبعًا، أن أصبح خادمةً في الفيلا.
يوم دخلتُ الفيلا، إكتشفتُ أنّ للسيّدة أمَل زوجًا وإبنةً وإبنًا يُناهز عمراهما عمري، لكنّني لَم أجد الرّحمة في قلب أيّ منهم. كانوا كلّهم كالسيّدة، لا بل أبشَع. فهم عامَلوني وكأنّني قذارة، والذي أدهشَني هو أنّ الخادمة تعالَت هي الأخرى عليّ. وكَم مِن مرّة أرَدتُ أن أصرخ فيهم أنّني إبنة أناس أثرياء للغاية، لكنّني فضّلتُ السّكوت لأنّ الشماتة ستكون أكبر بعد.
تعبتُ كثيرًا، لأنّني كنتُ أنظّفُ بشكل خاص الأماكن الأكثر وساخة، وشعرتُ بغبن كبير. فقد كنتُ إنسانة صالحة ومُحبّة ولا أستحقُّ ما يحصلُ لي. مِن جهّته، كان خليل لا يُبالي كثيرًا بما أتحمّلُه مِن إهانة وإرهاق، مع أنّني كنتُ أروي له يوميًّا ما أمرُّ به. كلّ ما كان يقولُه لي كان:
- حبيبتي، ماذا كنتِ تنتظرين أن يحصل حين تزوّجتِ مِن حدائقيّ لم يدخل يومًا مدرسة؟ هذه هي حياة مَن هم مثلنا.
أعترفُ بأنّني أحسستُ مرارًا بالندَم على زواجي، لكنّني كنتُ إنسانة عنيدة للغاية ولا أقبَل الهزيمة. وخفَّ تدريجًا حبّي لخليل بعدما رأيتُه يتجاهل عذابي. كنتُ أريدُ زوجًا مُساندًا يُدافعُ عنّي وعن كرامتي، وليس رجلاً ضعيفًا يُفضّلُ راحة باله على كلّ شيء.
ما كان يُزعجُني لأقصى درجة كان تصرّف إبن السيّدة أمَل معي. فهو كان يُلاحقُني مِن مكان لآخر، ويعرضُ عليّ أمورًا غير أخلاقيّة. حاولتُ تجنّبه قدر المُستطاع، إلا أنّه كان يعتبرُ أنّني ملكه ويحقّ له أن ينال منّي ساعة يشاء. إشتكَيتُه لخليل، لكنّه هزّ برأسه قائلاً:
- إنّكِ تتصوّرين أشياءً يا حبيبتي... فما حاجة السيّد الصغير لإنسانة مثلكِ وهو يستطيع الحصول على أفضل الفتيات.
ماذا؟!؟ إنسانة مثلي؟!؟ أفضل الفتيات؟!؟ أهذه كانت نظرة زوجي لي؟ مِن الواضح أنّه نسيَ، وبسرعة، مَن أكون! كان الذنب ذنبي طبعًا، فما كان يجب عليّ تصوّر أنّ الناس كلّهم مثلي، وما كان عليّ تصديق تلك القصص السخيفة التي ملأت رأسي وأنا صغيرة.
مرَّت الأشهر ببطء رهيب، وكنتُ أعدّ الأيّام بانتظار انتهاء العقد، على أمَل أن أرحل وخليل مِن ذلك المكان الفاسد وأن نستعيد حبّنا الذي دفعَني إلى ترك كلّ شيء مِن أجله. إلا أنّ زوجي كان ينوي البقاء حيث نحن. فقد علِمتُ بالأمر بفضل مكالمة كان يُجريها مع أبيه، وسمعتُه يقول مِن خلالها له إنّه مُرتاح جدًّا بعمله ولا يُفكّر بالتفتيش عن عمل آخر. عندها صرختُ به أن يُقفل الخط، ويشرح لي كيف له أن يُبقيني خادمة مذلولة عند هؤلاء الناس. لَم يُجِبني بل فضّل الخروج إلى الحديقة. وفي تلك اللحظة بالذات، أدركتُ أنّني داخل دوامّة لا منفذ لها فبدأتُ بالبكاء كالطفلة.
لكنّ حدثًا غير متوقّع غيَّرَ مجرى الأمور وبشكل جذريّ.
فذات يوم وأنا في الفيلا أقومُ بالتنظيفات الإعتياديّة، طلبَت منّي السيّدة أمَل أن آتي لها بنظّاراتها مِن غرفتها. كانت بصدد قراءة مُستند مهمّ والخادمة الأخرى كانت مُنشغلة في القسم الآخر مِن الفيلا. كانت تلك أوّل مرّة يُسمح لي بدخول تلك الغرفة، ولولا أهميّة المُستند، لَما أذَنَت لي السيّدة بالمرور حتى قرب غرفتها.
دخلتُ الغرفة بشيء مِن الرهبة، فكنتُ سأرى أخيرًا أين تنام وتتبرّج تلك السيّدة القاسية والمُستبدّة. توجّهتُ مُباشرة نحو طاولة السرير، لأنّ السيّدة أمَل كانت قد قالَت لي: "عودي بسرعة ولا تلمسي شيئًا!". تناولتُ النظّارات، وحين كنتُ على وشك الخروج مِن الغرفة، رأيتُ صورة بين صوَر عديدة موضوعة على طاولة مُستديرة، وتجمّدَت الدّماء في عروقي. كانت السيّدة أمَل واقفة مع زوجها... ووالدَيَّ! أخذتُ الصورة معي وركضتُ أقفُ أمام السيّدة أمَل. ثمّ قلتُ وأنا أرتجف: "هذان والدايَ." ضحِكَت المرأة عاليًّا وأجابَت:
ـ أعرفُ ذلك... فنحن أصدقاء قدامى. وأعرفكِ جيّدًا، على الأقل عندما كنتِ صغيرة.
ـ ماذا؟َ!؟ كنتِ تعلمين مِن البداية مَن أكون؟ وعامَلتِني بهذه الطريقة السيّئة؟
ـ إجلسي، هيّا!
جلستُ وأنا أحضنُ الصّورة وكأنّني خائفة مِن أن تختفي مِن بين يديَّ. وتابعَت أمَل:
ـ إنّه درْس أرادَ والداكَ تلقينه لكِ بعد أن سرقتِهما وهربتِ مع الحدائقيّ. هل أدركتِ الآن فظاعة ما اقترَفتِه؟
ـ أنا نادمة على السّرقة ولكن ليس على زواجي، فخليل إنسان رائع!
ـ بل إنسان وصوليّ لا يُحبّ سوى نفسه.
ـ لا أسمحُ لكِ!
ـ وكيف تظنّين إذًا أنّكِ وصلتِ إلى هذا المكان؟ بالصّدفة؟
ـ يا إلهي...
ـ نعم، فلقد اتّصل أبوكِ بخليل حين كنتما لا تزالان في الفندق، أي بعد زواجكما بقليل، وعرَضَ عليه مبلغًا كبيرًا مِن المال ليجلبكِ إلى هنا.
ـ أنتِ تكذبين!
ـ أبدًا... فأنا امرأة صادقة ومُحبّة، على عكس ما رأيتِه منّي. ولكن كان عليّ لعب دور المرأة المُستبدّة لإخافتكِ وجعلكِ تندمين على زواجكِ. وكذلك فعل إبني الذي افتعَلَ اللحاق بكِ. صداقتنا بأهلكِ قويّة وقديمة وقد تجاوبنا مع رغباتهما إلى أن...وجدتِ هذه الصّورة. كنتُ قد نسيتُ أنّها موجودة في غرفتي. على كلّ الأحوال، حان لهذه التمثيليّة أن تنتهي، فأنتِ تعلمين الآن حقيقة خليل.
ـ عليّ التحقق بنفسي مِمّا قلتِه.
تركتُ الصّورة مع أمَل وركضتُ إلى الحديقة حيث كان يعمل خليل بصمت. نظرتُ إليه ورأيتُ رجلاً فارغًا لا طموح له ولا مروءة. فحتى لو كان بريئًا مِن تُهمة بَيعي مُقابل المال، فهو لَم يعرف كيف يُحافظ على كرامتي بأيّة طريقة. إقتربتُ منه وقلتُ له بهدوء:
ـ أعرفُ كلّ شيء.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أعلَم أنّكَ قبضتَ مالاً لتأتي بي إلى هنا.
سكَت خليل مطوّلاً ومِن ثمّ تابَعَ عمله. أمسكتُه مِن ذراعه بقوّة:
ـ قلْ شيئًا! دافع عن نفسكَ!
ـ ماذا تريدين أن أقول؟ فلقد عرفتِ الحقيقة.
ـ أين ذهَبَ حبّكَ لي؟ وهل أحبَبتَني حقًّا؟
ـ أجل... في البدء. لكنّ المال كان أهم. عليّ أن أهتمّ بأبي المسكين الذي طُرِدَ بسببي... وسببكِ. أنتِ لدَيكِ الكثير.
ـ كنتُ سأتقاسمُه معكَ أيّها الغبيّ!
ـ متى؟ حين يموت أبوكِ؟ أنا بحاجة إليه الآن.
ـ لقد بعتَني.
ـ أجل.
عدتُ إلى بيت أهلي مكسورة، ليس لأنّني عدتُ، بل لأنّني اكتشفتُ الحياة ببشاعتها وقساوتها. كان أبوايَ فخورَين بنجاح خطّتهما، لِذا لَم يُوبّخاني كثيرًا. مِن جهّتي، لَم أكن سعيدة باسترجاع مكانتي الإجتماعيّة المرموقة، فلَم أبدّل رأيي بشأن المال والجاه وأفراد مُجتمعي، وبقيتُ مصمّمة على إدارة حياتي كما أريدُ، لكن بحكمة أكبر وتأنٍّ.
بعد طلاقي، عاودتُ الدّراسة، فلقد أدركتُ أنّ العلم هو مفتاح السّعادة والحياة الهنيئة. وحين نلتُ شهادتي، بدأتُ بالعمل وأحبَبتُ الشعور الذي جلبَه لي النجاح. فقد كانت تلك أفضل طريقة لبناء ذاتي كما أريد.
مضى على قصّتي حوالي العشر سنوات، ولَم أجد بعد الحبّ بعدما صرتُ أخافُ على قلبي. هل سأجدُ الرّجل المناسب يومًا؟ لستُ أدري، ولَم يعد يهمّني الأمر كثيرًا. وحتى ذلك الحين، سأواصلُ التّركيز على عمَلي وعلى مساعدة الناس مِن حَولي. فما فعلَه بي خليل لا دخل له بفقره بل بنفسه الصغيرة والجائعة. وتقاسم الثروة مع مَن هم أقل حظًّا منّا ليس فقط مصدر سعادة بل واجب على كلّ منّا.
حاورتها بولا جهشان