هذه حقيقة زوجي...

في ذلك اليوم كانت فرحتي لا توصف، لأنّ وليد كان قد أتى لِطلب يدي مِن أبي. لم أكن قلقة لأنّ حبيبي كان حتمًا سيُعجِب أهلي، وذلك بسبب علمه وثقافته ومنصبه العالي في تلك الشركة العالميّة. وكنتُ متأكّدة من أنّ والدي الجرّاح وأمّي الكاتبة سيجدان وليد مناسبًا لي.

تعرّفتُ إلى وليد في محطّة للوقود عندما كنتُ أنتظر أن ينهوا غسْل سيّارتي. هو الآخر كان جالساً في غرفة الإنتظار. وبدأنا نتكلم سوياً وأُعجِبنا ببعضنا على الفور. وعندما جاء الموظّف وقال له أنّ سيّارته الفخمة قد جهزَت، أسرع وليد بطلب رقم هاتفي. ولم أتردّد في أعطائه ايّاه، أوّلاً لأنّه أعجَبَني، وثانياً لأنّني اطمأنّيتُ إلى أحواله الماديّة بعد أن رفَضَ أبي شبّانًا أقل شأنًا منّا.

وخرجنا سوياً بضعة مرّات في المساء لكثرة انشغال وليد، ومِن ثم أعَرَب عم رغبته في الزواج منّي. وكنتُ فعلا ًمتأكّدة مِن حبّي لذلك الشاب الوسيم والمستقيم والنزيه.

وجاء وليد لوحده الى بيتنا لأنّ أبوَيه كانا متوفَين. وكما توقّعتُ نال إعجاب أبي وأمي وكنتُ أسعد فتاة في العالم.

وبعد فترة ليسَت بطويلة، أقام لنا أبي فرحاً كبيراً، وأراد وليد دفع جميع المصاريف. لكنّ والدي أصرّ على أن يهتمّ هو بالأمر لأنّني كنتُ ابنته الوحيدة ولأنّ مدعوّينا كانوا أكثر بكثير مِن مدعوّي حبيبي.

للحقيقة لم يأتِ أحد مِن طرف وليد، وأستغربتُ كثيراً هذا الأمر، لكنّه شرحَ لي أنّه ترَكَ بلدته عندما كان صغيراً ثمّ سافر إلى الخارج للدراسة والعمل، ومنذ عودته إلى البلد لم يتعرّف إلى أحد سواي.

وأصبحتُ زوجته، ولم أندم لأنّه كان ألطف شخص عرفتُه على الإطلاق، وكان فعلاً يعمل جهده لإسعادي. ولكنّه كان يعمل كثيراً، وفي غالب الأحيان كان يعود مِن الشركة متأخراً. ولكنّه كان وبالرغم مِن تعبه، يجد دائماً الوقت لي. لم نكن نخرج كثيراً، لأنّ وليد لم يكن يُحبّ الإختلاط بالناس، وكان يطلب منّي أن نبقى معاً في البيت خلال فرصة نهاية الأسبوع. لم يمانع أن ألتقي صديقاتي في المقاهي أو المطاعم لأنّه كان يعلم أنّني أحبّ الحياة الإجتماعيّة.

 


وكان وليد يُغرقني بالهدايا اللطيفة: العطور الثمينة والملابس الشيك التي يختارها بنفسه مِن المحلات المجاورة للشركة أثناء استراحة الظهيرة في عمله. وكان أحياناً يعود ومعه أطباق شهيّة، كسمك السومون المدخّن والجمبري. كانت حياتي هنيئة وجميلة مع ذلك الإنسان.

ومرَّت حوالي السنة على هذا النحو، حتى حصلت حادثة كانت البداية لتساؤلات عديدة.

كنتُ أتسوّق برفقة وليد حين جاءَت سيّدة نحونا وقالت له:

 

ـ وليد! لم أرَكَ منذ فترة! كيف حالك؟ وكيف حال السيّدة منال؟ قل لها مِن فضلكَ إنّني سأمّر لزيارتها بعد غد.

 

عندها أجابها وليد أنّه ليس الشخص الذي تخاله، ولكنّها بقيَت مصّرة فسحبّني مِن ذراعي وأكملنا طريقنا. ولكنّي أوقفتُه وسألتُه عمّا جرى فأعادَ عليّ ما قاله للسيّدة، أيّ أنّها خالته شخصًا آخرًا.

ولكنّي أجبتُه:

 

ـ لقد نادَتكَ بإسمكَ!

 

ـ أجل... لأنّ اسمي شائع ولأنّني أشبه المئات مِن أبناء بلدي! لا أريد التكلّم بهذا الموضوع مِن فضلكِ.

 

ـ حسنًا... لنكمِل التسوّق.

 

ـ لا! أريد العودة الى البيت.

 

ونسيتُ الأمر لأنّ وليد لم يٌعطِني يومًا أيّ سبب لأشكَ بأمره. ولكن منذ لقائنا بتلك السيّدة، لم يعد يخرج زوجي برفقتي إلى أيّ مكان مهما كان، مقدّماً أعذاراً غير مقنعة. وعندما كان يدقّ هاتفه كان يأخذه ويذهب إلى غرفة أخرى ليتكلّم.

حينها فقط بدأتُ أشكّ بأمر زوجي. هل كان على علاقة حميمة بـ" السيّدة منال"؟ عندها قرّرتُ مراقبته. لم أكن فخورة بما كنتُ سأفعله ولكنّ فكرة خيانة زوجي لي كانت لا تُحتمل.

 

ذات ليلة إدّعيتُ أنّني ذاهبة لِقضاء الليل عند أهلي بسبب وعكة صحيّة أصيبَت بها أمّي. ذهبتُ فعلاً عند أبوَيَّ ونمت هناك، ولكن في الصباح الباكر أخذتُ سيّارة أجرة وطلبتُ مِن السائق أن يقف عند مفرق مسكننا. وانتظرتُ خروج وليد وصعوده في سيّارته ثمّ بدأنا اللحاق به. ولكنّه لم يأخذ طريق الشركة بل أتّجه نحو حيّ سكني فخم مليء بالفيلات والحدائق الجميلة. واستنتجتُ أنّ "السيّدة منال" مِن مستوى إجتماعي رفيع.

 


أوقف زوجي سيّارته أمام بوابة إحدى الفيلات، وتكلّم مع أحد عبر الإنترفون وفُتِحَت البوّابة الضخمة. ولم يكن في بالي سوى فكرة واحدة: أن أرى التي سرقَت قلب رجل حياتي وما كانت تملكه أكثر منّي ليُفضّلها عليّ.
نزلتُ مِن سيّارة الأجرة بعد أن طلبتُ مِن السائق أن يوقف مركبته بعيداً عن الأنظار، ومشيتُ حتى البوّابة وأخذتُ أنظر مِن وراء الحديد إلى ما سيحدث.

رأيتُ وليد يوقف السيّارة أمام مدخل الفيلا، ويترجّل ليفتح صندوق السيّارة ويُخرج منه سترة وقبّعة لَبِسَهما بسرعة. ثمّ فتَحَ الباب الخلفيّ للسيّارة ووقَفَ مسمّرًا. عندها فُتِحَ باب الفيلا، وخرجَت منها سيّدة عجوز جلست في المقعد الخلفيّ بعد أن ألقَت التحيّة على زوجي.

ووقفتُ مكاني مندهشة لا أعلم كيف أحلّل ما رأيت. ولكنّ المشهد كان جدّ واضح: زوجي كان يعمل سائقاً وليس في شركة عالميّة. وهذا كان السرّ الذي حاوَلَ إخفاءه عنّي لمدّة سنة. وفهمتُ سبب تأخرّه ليلاً وعدم رغبته في الخروج معي خوفاً مِن أن يُفضح أمره، مثلما حصل عندما كنا نتسوّق. وعرفتُ مصدر هداياه، فقد كانت تلك السيّدة تعطيه على الأرجح العطور وفضلات حقلات العشاء التي كانت تقيمها. وكانت السيّدة منال تملك طبعاً سيّارتنا الفخمة. وهرعتُ إلى سيّارة الأجرة التي انطلقت كالرّيح إلى منزل أهلي حيث حبستُ نفسي لأبكي مِن الغضب والحزن على علاقة خلتُها مثاليّة ورجل ظننتُه نزيهاً. لم أكن غاضبة لأنّه كان سائقًاً، ولكن لأنّه غشّني وانتحلَ شخصيّة أخرى.

وقلتُ لأهلي إنّ وليد أضطّر للسفر لِبضعة أيّام، فيما قلتُ لِزوجي إنّ أمّي لا تزال مريضة. كنتُ بحاجة إلى التفكير بما كنتُ سأفعله بزواجي كي لا أتسرّع وآخذ قراراً قد أندم عليه. وبدأتُ أسأل نفسي عن موقفي أمام أهلي وأقربائي ومحيطي، عندما يعلمون أنّ زوج ابنة الجرّاح والكاتبة مجرّد سائق خاص. ولم أعد قادرة على إغماض عينيّ، فكلّما حاولتُ النوم قليلاً كنتُ أستعيد صورة وليد وهو بزَيّ السائق ينحني أمام سيّدته.

ولكن بعد ثلاثة أيّام قضيتُها أكذب على أهلي وعلى وليد، ضاقَت بي الدنيا لأنّني أدركتُ أنّني أشتقتُ لزوجي كثيراً. وتبّين لي أنّ ذلك الرجل فعلَ المستحيل ليُخفي عنّي وظيفته الحقيقيّة كي لا أخجل منه، وأنّه بالرغم مِن تعبه كان يجد دائماً الوقت لي ولتلبية حاجاتي وطلباتي. كان سرّه أكبر مِن أن يتحمّله، وكان لابدّ له أن يرزح تحت ثقله. كان المسكين يعيش في خوف دائم مِن أن أفتضح أمره وأكتشفتُ أنّه مرّ بكلّ ذلك مِن أجلي ومِن أجل حبّه لي.

عندها قرّرتُ العودة إلى البيت. وعندما عاد وليد في المساء ركضتُ إلى الباب وعانقتُه بقوّة وهمستُ في أذنه:

 

ـ أعرف كلّ شيء.

 

وامتلأت عينَاه بالدّموع، وحاول الإفلات مِن عناقي. ولكنّني بقيتُ ممسكة به:

 

ـ أعرف كلّ شيء ولا أزال أحبّكَ كما في السابق... لا بلْ أكثر.

 

وبقينا هكذا لفترة طويلة وبكينا سوياً.

وبالطبع واجهتُ انتقادات محيطي وتهكّمهم، ولكن أمام قوّة حبّي لزوجي ودعمي له إضطّروا جميعاً أن يقبلوا بالوضع. لم أندم على قراري، واليوم، بعد أكثر مِن عشر سنين على زواجنا وقدوم أولادنا الثلاثة، لا نزال نعيش أجمل قصّة حبّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button