عندما دخلتُ المرحلة الثانويّة مِن دراستي، أرسلَني والدايَ إلى جدّتي التي تسكنُ في المدينة، لأتمكّن لاحقًّا مِن دخول الجامعة القريبة منها. حزِنتُ لِترك أصدقائي ومُحيطي الذي لَم أعرِف سواه منذ مجيئي إلى الدنيا. ودّعتُ أخوَتي وكلّ الذين أحببتُهم، واعدة إيّاهم بأنّني سأزورُهم كلّ ما أُتيحَت لي الفرصة. وهذا ما حصَلَ، فكنتُ أقصدُ القرية في نهاية الأسبوع وخلال الفرَص المدرسيّة، وكان الملقى، في كلّ مرّة، حافلاً بالدموع والبهجة.
الحياة عند جدّتي كانت هادئة، وشكرتُ ربّي أنّني استطعتُ تكوين صداقات في مدرستي الجديدة وإلا متُّ ملَلاً. فكلّ شيء تقريبًا كان ممنوعًا في ذلك البيت، وشعرتُ أنّني كالأسيرة هناك، إلا أنّني كنتُ مُدرِكة أنّ تلك العجوز كانت مِن جيل آخَر أكثر تشدّدًا وتزمّتًا. هي كانت تعيشُ لوحدها بعدما سافَرَ آخِر أولادها، بينما تزوّجَ الآخرون بمَن فيهم أمّي. سلوَتها الوحيدة قَبل مجيئي كانت قطة لطيفة أحبَبتُها أنا الأخرى. مِن ناحية ثانية، كانت جدّتي تستقبلُ مِن وقت لآخَر بعض الجيران الذين كانوا يأتون لشرب القهوة والثرثرة على الناس.
لكن بعد أشهر قليلة على دخولي الجامعة، توفّيَت جدّتي وشعرتُ بوطأة غيابها. هي كانت قد تركَت البيت والقطّة لي، ربمّا كتعبير لحبّها الذي لَم تعرِف اظهاره لي أثناء وجودي معها. شكرتُها ضمنيًّا كثيرًا، وذرفتُ دموعًا حارّة قَبل أن أنساها، لأتفرّغ لدراستي وترتيب بيت قديم أكلَه الغبار وروائح عمرها أجيال.
لَم يُعجِب أحد مِن عائلتي أن أكون المالكة لبيت جدّتي، خاصّة الأكبر بين اخوَتي، فبدأ بمضايقتي مِن خلال والدَيّ بحجّة "أنّ الفتاة لا يجدرُ بها العَيش لوحدها، فماذا سيقولُ الناس عنّا؟". قاومتُ كثيرًا، فكنتُ أعلَم أنّ اختباءهم وراء راية الشرَف كان هدفة تجريدي مِن مُلكيّتي، وهدّدتُ الجميع بأنّني سأبيعُ البيت وأشتري آخَر في مكان مجهول ولن يرَوني بعد ذلك. بكَت أمّي وساندَتني، فعلى الأقل كانت تعرفُ أين أنا إن بقيتُ مكاني. وهدأَت الأجواء لكن امتعاضي مِن ذلك الأخ سكَنَ قلبي.
إلى جانب دراستي وجدتُ عمَلاً في أحَد المتاجر المُجاوِرة، وصرتُ أُحسِّنُ بالبيت تدريجيًّا حتى صارَ يروقُ لي أكثر ويُمثِّل ذوق صبيّة مِن جيلي. وعندما زارَني ذويّ ورأوا ما فعلتُ في البيت، لاحظتُ الغيرة على وجوه أخوَتي، وبعض الغضَب أيضًا، خاصّة أنّ جاد الكبير فيهم كان قد وجَدَ عروسًا وليس مسكنًا. لماذا لا يستأجرُ شقّة ويعيشُ فيها مع زوجته المُستقبليّة؟ ربمّا لأنّه كان يُريدُ بيتي أنا وليس آخَر! لَم أرَ في البدء أنّ هناك خطّة تُرسَم لي، فكيف لي أن أتصوّر ذلك مُمكنًا؟
فبعد زيارته الأخيرة لي، طلَبَ جاد منّي الإذن بأن يأتي بعروسه بعد الزفاف ليسكنا عندي لفترة زمنيّة قصيرة، أيّ إلى حين يجِدُ مسكنًا أراده في المدينة أيضًا، بسبب نقله في عمله إلى فرع قرب منزلي. لَم أستطِع الرفض، ففي آخِر المطاف هو كان أخي. لكنّني أصرَّيتُ ألا يطولَ مكوثهما فكنتُ قد تعوّدتُ على الهدوء والاستقلاليّة. وبعد شهر عسَل قضاه أخي وزوجته في أحد الفنادق، وصَلَ إلى بيتي مع زوجته... وعدَد لا يُحصى مِن الحقائب. إستقبلتُهما ببسمة صادقة، وأخذتُهما إلى الغرفة التي حضّرتُها لهما.
جرَت الأمور بسلاسة بيننا نحن الثلاثة، فعلى كلّ الأحوال، لَم أكن أرى أخي وزوجته كثيرًا بسبب عمَلي وجامعتي، وكان جاد يبحثُ بكدّ عن شقّة للانتقال إليها بسرعة. بدأ امتعاضي منه يزولُ شيئًا فشيئًا إلى حين صِرنا كالسابق، أيّ أخًا وأختًا حقيقيّين وامتلأ قلبي بالفرَح.
وذات يوم، عادَ أخي إلى البيت مع أحَد أصدقائه الذي لَم أرَه مِن قَبل. كان ذلك الشاب وسيمًا وعريض المنكبَين وله ابتسامة ساحرة. تبادَلنا بعض النظرات فاحمرَّ وجهي خجلاً، إذ أنّني لَم أُعجَب بشابّ مِن قَبل. أخبرَني جاد أنّ وئام مُديره في العمَل الجديد وأنّهما صارا صديقَين بسرعة، وأثنى على ذكائه وصدقه في عمَله وهما عاملان ساهما في ترقيَته إلى منصب مُدير فرع بالرغم مِن صغر سنّه لهكذا مهام. إفتحَرتُ به ضمنيًّا بعد أن تصوَّرَ لي على الفور أنّ قصّة حبّ ستولَد بيننا... ولَم أكن مُخطئة. فصارَت زيارات وئام لنا عديدة وطويلة ووُلِدَت بيني وبينه مودّة كبيرة. فيوم طلَبَ منّي وئام أن أقبَل به خطيبًا، أسرعتُ بالقبول. باركَ جاد تلك الخطوبة ودعانا وزوجته إلى المطعم للاحتفال. كَم كنتُ سعيدة!
رحتُ وزوجة أخي إلى شقّة وئام التي يملكُها لأرى أين سأسكنُ بعد زواجنا، وتباحثتُ لاحقًا معه عن التغييرات اللازمة مع أنّ الشقّة كانت جديدة ومُزيّنة بذوق رفيع.
فترة المواعدة كانت جميلة كثيرًا، إلا أنّني لَم أستطِع التعرّف إلى والدَي خطيبي، لأنّهما كانا مُتوفَّيَن، وكَونه إبنًا وحيدًا جعلَه يعتبِر أنّ عائلتي هي عائلته، فأخذني مرارًا إلى قريتي لأرى ذويّ وليقضي هو بعض الوقت في جوّ عائليّ افتقدَه. حسدَني الجميع على وئام ودعوا لي بالتوفيق.
وقَبل الزفاف بفترة قصيرة، طلَبَ منّي جاد التكلّم معي بموضوع هام:
ـ أختي العزيزة، بما أنّكِ ستتزوّجين مِن وئام الذي يملكُ شقّة جميلة، ما رأيكِ لو تتنازلين عن بيتكِ لي؟ فكَما لاحظتِ، لَم أنفكّ عن التفتيش عن مسكن لي ولزوجتي مِن دون جدوى... وباتَ الموضوع مُلِحًّا، فزوجتي حامِل في شهرها الثالث.
ـ ألف مبروك! معكَ حقّ يا جاد، ما حاجتي لِمسكنَين؟
ـ إن أردتِ مالاً...
ـ ما هذا الكلام؟ نحن أخوة يا جاد! إضافة إلى ذلك، لَم أدفَع ثمَن بيتي بل وصلَني مِن دون تعَب. ولكن سآخذُ القطّة معي!
أنا مُتأكّدة مِن أنّ القارئ فهِمَ بوضوح كيف تمّ التلاعُب بي، لكن حين يكون المرء وسط الأحداث لا يرى كامل الصورة. إضافة إلى ذلك، كيف لي أن أعرف كلّ مُلابسات تلك الخدعة الدنيئة، في حين كان كلّ شيء يسيرُ بطريقة أكثر مِن مُرْضية؟ ألَم يكن وئام مُدير فرع ناجِح وصاحب شقّة جميلة؟ ألَم يكن يغارُ على صحّتي وسعادتي ويهتمّ بكلّ صغيرة وكبيرة لإراحتي؟
هل كان الله يُحبُّني لهذه الدرجة ليفضَح اللعبة قَبل وقوعي بالفخ؟ أجل، ولن أشكره كفاية. فأوّل كذبة كشفتُها كانت أنّ زوجة أخي لَم تكن بحامِل. كيف علِمتُ ذلك؟ مِن دلائل صغيرة في تصرّفاتها التي كانت بعيدة كلّ البُعد عمّا قد تفعله أيّة إمرأة أخرى في حالتها. وخاصّة عندما أخذَنا جاد إلى مدينة الملاهي وركِبنا جميعًا تلك المقطورات التي تلفّ بنا بسرعة هائلة يمينًا وشمالاً وصعودًا ونزولاً. فأيّة إمرأة حامل تُخاطرُ هكذا بفقدان جنينها؟ وذلك كان كافيًا لأن أطرَح على نفسي الأسئلة اللازمة. فقد يكون جاد قد اختلقَ قصّة الحَمل للضغط عليّ بشان البيت وليس أكثر... لكن... هل كانت تلك كذبته الوحيدة؟ عندها أخذتُ أُراجعُ كلّ الذي قالَه لي أخي، وإتّضحَ لي ما يلي: يقولُ إنّه بحثَ عن مسكن، لكنّني لَم أكُن أملكُ دليلاً على ذلك. يقول إنّ وئام شاب ناجِح ويشغلُ منصِب مُدير فرع، وأيضًا لَم يكن لدَيّ دليل على ذلك، فلَم يدعُني وئام يومًا لزيارته في الشركة. قيلَ لي إنّ وئام يتيم الأبوَين وإبنٌ وحيد، لكن أين خالاته وعمّاته وباقي العائلة؟
قد أكون مُخطئة بطرح كلّ تلك التساؤلات لكن ما الضرَر في التأكّد؟ لِذا قرّرتُ أن أُفاجئ خطيبي بالذهاب إلى الشركة. طلبتُ مِن موظّفة الاستقبال مُقابلة مُدير الفرع لأنّني خطيبته. نظَرَت إلى الموظّفة باستغراب وغابَت عن نظري. وبينما كنتُ أنتظِر الدخول، رأيتُ أخي في أحد المكاتب، وفكّرتُ بأن أُلقيَ التحيّة عليه لكنّ الموظّفة دعَتني لدخول مكتب المُدير... الذي لَم يكن وئام! تلبَّكتُ كثيرًا وأنا واقفة أمامه، خاصّة بعدما قال لي: "قالَت لي السكرتيرة إنّكِ خطيبتي... أنا رجُل مُتزوّج يا آنسة... لا بدّ انّ هناك لغطًا ما." لَم أعرِف كيف خرجتُ مِن مكتبه لكثرة حرَجي، وشرحتُ للموظّفة أنّني خلتُ أنّ وئام هو مُدير الفرع. عندها هي قالَت لي: "مَن يكون وئام؟". وإتّضَحَ أنّ خطيبي لا يعمَل في الشركة على الاطلاق، ليس كمُدير أو حتى كموظّف. وهكذا بانَت اللعبة وبانَ أخي على حقيقته! أيّ أخ يفعلُ ذلك بأخته؟ ومَن كان وئام حقًّا؟؟؟
بقيتُ أخترِع الحجج لتأجيل مسألة الزواج، والتنازل عن البيت لجاد، قدر المُستطاع إلى حين يتسنّى لي معرفة كلّ تفاصيل الخطّة الدنيئة التي وقعتُ ضحيّتها. فعليّ أن أعترفُ أنّني أحبَبتُ وئام، أو على الأقلّ الصورة التي أعطاها عن نفسه. وأخذتُ أُفكّر بما كان سيحصلُ إن لَم أكتشِف شيئًا ومضَيتُ بموضوع الزواج. ولمعرفة الحقيقة، تقابلتُ مع "خطيبي" لمُناقشة بعض تفاصيل الزفاف، لكنّني سألتُه:
ـ مَن أنتَ في الحقيقة؟ إسمَع، أعلَم أنّكَ لست مدير الفرع ولا تعمَل حتّى مع جاد، قُل لي... هل تلك الشقّة لكَ على الأقل؟ هل أحبَبتَني؟ ماذا كنتَ تنوي فعله بي بعد الزواج وبعد أن يحصل أخي على بيتي؟ تكلّم أو اشتكَيتُ عليكَ لدى الشرطة! فليس هناك أشرَس مِن صبيّة مغشوشة! تكلّم!
ـ مهلاً مهلاً! إهدّئي ولا داعٍ لإعلام الشرطة! قبلَ أن أتكلّم، إعلمي أنّكِ إنسانة رائعة بالفعل وقد اسِفتُ مرارًا على أذيّتكِ هكذا. حسنًا... أنا مُتزوّج ولدَيّ أولاد... كنتُ سأُطلّقُكِ بعد زواجنا بفترة قصيرة وحجّتي سفرة طارئة، فلدَيّ عائلة عليّ التواجد معها. للحقيقة أنا قريب زوجة أخيكِ، وهي تعلَم أنّني في مأزق ماليّ إذ لدَيّ ولَع بلعب المَيسَر، الأمر الذي تجهلُه زوجتي طبعًا. لهذا عرضَت عليّ أن ألعب دور مُدير فرع جاد، وأن أقنعكِ بي بشتّى الطرق لتقبلي بالزواج منّي. المبلغ كان جذّابًا وكان عليّ تسديد ديوني قبل أن يُفضَح أمري.
ـ أيّها الماكر والنصّاب! لقد عشتُ معكَ كذبة وكدتُ أن أفقِدَ رزقي الوحيد! أرجو الله أن يُلقي بكِ في نار جهنّم وكذلك أخي والعقربة زوجته! إسمَع، ستّتصِل الآن بجاد وتقول له أن يجمَع أمتعته على الفور ويُخلي المكان هو وزوجته، فإن عدتُ مساءً إلى البيت ووجدتُهما، سأتّصلُ بالشرطة وأفضَحَ أمركم جميعًا. هيّا، أطلبه الآن!
أخلى جاد المكان ولَم أجِد أحدًا في البيت عند رجوعي. كنتُ قد اتّصلتُ بعائلتي لأخبرهم جميعًا بتفاصيل ما حصَلَ لي. أدارَت عائلتي ظهرها لجاد وتمّ عزله وزوجته. لَم يتكبَّد أخي عناء الاعتذار منّي، فحتّى اليوم لَم أسمَع منه خبَر.
تخرّجتُ وبدأتُ بالعمَل بإختصاصي، وتطلّبَ منّي الكثير مِن الوقت للوثوق بالرجال، لكن في آخِر المطاف وجدتُ شابًّا رصينًا ومُحبًّا وتزوّجنا... بعد أن سألتُ عنه في كلّ مكان وتأكّدتُ مِن كلّ الذي أخبرَني به، فالكاذبون كثيرون، للأسف. نعيشُ اليوم في البيت الذي ورثتُه مِن جدّتي، وليس هناك مِن قوّة تحملُني على تركه، فهذا بيتي!
حاورتها بولا جهشان