كم كنتُ سعيدة عندما قال لي يوسف بإنّه يحبّني!
عرفته منذ وقت طويل لأنه قريب زوجة خالي ولكن لم أظنّ يوماً بأننا سنصبح حبيبَين. كان شابّاً لطيفاً له صفات حميدة جدّاً. ذات يوم جاء ودعاني إلى رحلة تنظّمتها الشركة التي يعمل بها. قبلتُ لأنّني اُحبُّ رفقته، وقضينا فعلاً يوماً ممتعاً. عاد ودعاني إلى حفل عشاء وإلى مناسبات أخرى حتى أصبح جزءاً من حياتي. وقعتُ بحبِّهِ واعتقدتُ انني سأكونُ سعيدةً معه.
كان عليَّ أن آخذ بعين الإعتبار ما حصل في عائلته. فالإنسان يتأثّر ومنذ طفولته بما يجري حوله. عندما كان يوسف صغيراً توفيت أمّه في ظروف غامضة وقُدّر بأنها قد انتحرت. ورغم صغر سنّ يوسف فقد حزن جداً لما حصل، وبقي لديه شعور بأنّ أمّه قد تخلّت عنه عندما انتحرت. وهناك أيضاً أخيه الكبير الذي هو أيضاً قتل نفسه في المهجر. لم أكن أعلم بشأن أخيه لأنهم أخفوا الأمر جيّداً.
في البدء لم ألاحظ شيئاً في تصرّفات حبيبي.
كان طبيعياً جداً. ولكن جاء يوم وذهبنا مع أصدقاء لنا لحضور فيلم سينما. وعند انتهاء الفيلم قرّرنا أن نذهب لنأكل شيئاً في أحدى المطاعم المجاورة. ولكن جاءني صداع رهيب وفضّلتُ ألاّ آكل شيئاً.
أصرَّ يوسف على أن آكل، ولكنّي رفضتُ. وهنا، في هذه اللحظة بالذات، حصل أمرٌ غريبٌ جداً: تغيّرت ملامح وجهه، ونظر إليّ بغضب شديد وقال:
- "لا تريدين أن تأكلي شيئاً؟ حسناً!"
وأخذ حقيبتي وهرب بها إلى سيّارته المركونة أمام المطعم. أقفل الأبواب وفتح النافذة بضعة سنتيمترات:
- "حقيبتك معي ولن أعطيكِ إيّاها!"
نظرتُ بتعجّب إليه وإلى أصدقائي. لم نفهم لما هذا التصرّف. ثمّ أدار محرّك السيّارة وذهب. بقينا واقفين على الرصيف، محاولين فهم ما قد حصل للتوّ. عاد بعد بضعة دقائق مبتسماً:
- "كنتُ أمازحكِ حبيبتي. هل اعتقدتِ فعلاً أنني سأخذ الحقيبة وأترككم هنا؟ هيّا اصعدوا!"
صعدنا إلى السيارة وما زلنا مندهشين. أوصلنا إلى بيتنا دون أن يتفوّه بكلمة واحدة.
ومنذ ذلك اليوم بدأ جنون يوسف.
فبعد أسبوع، وصلني إتّصالٌ من أمّي. كنتُ قد ذهبتُ مع صديقتي لأتسوّق:
- "مريم... عودي إلى البيت.... الآن."
- "لماذا يا أمّي؟ ما زلنا في السوق!"
- "عودي الآن... أرجوكِ... يوسف هنا ومعه... مسدّس... يُريدُ قتلَ نفسه..."
- "أنا آتية!"
وصلتُ إلى البيت بعد دقائق قليلة من الإتّصال. وجدتُ أمّي في الصالون لا تتحرّك، تنظر إلى يوسف بخوف وحزن. أمّا هو فابتسم عندما رآني:
- "حبيبتي مريم... كم اشتقتُ لكِ... كنتُ أقول لأمّكِ كم أحبّكِ وكم أنا مشتاقٌ لكِ... لا تغيبي عنّي هكذا... أسمعتِ؟"
- "أجل حبيبي... لن أغيب عنكَ مجدداً... أعدُكَ بذلك."
لم أرَ المسدّس بيده ولكن علمتُ أنّه في جيب معطفه. طلبتُ منه المغادرة لأنني تعبة وأريدُ أن أستريح، إمتثل لرغبتي. عندما رحل ركضتُ إلى أمّي التي كانت ترتجف من الخوف. حضنتها ووعدتها بأنّ أحلّ هذه المشكلة بأسرع وقت.
قرّرتُ طبعاً أن أنهي علاقتي بـيوسف. فكان من الواضح أنه إنسان غير متّزن، وربما خطر أيضاً. وكنتُ على حقّ بما يخصّ خطورة هذا الرجل. ففي عقله المريض أصبحتُ أُمثِّلُ أمّه وكان مصمِّماً على أن يُبقيني معه وألاّ يدعني أتخلّى عنه كما فعلتْ هي عندما قتلتْ نفسها.
قرّرتُ أنْ أتجنّبه معتقدةً أنّه سيفهم بنفسه أنني لم أعدْ أريده. ولكن هذا لم ينجح معه. فبات ينتظرني في السيّارة ويقضي ليالٍ طويلة فيها. وعند الصباح أراه أمامي عند ذهابي إلى العمل.
طلبتُ من خالي وزوجته أن يتكلّموا معه، أن يشرحا له بأنّني لم أعدْ أحبّه بسبب تصرّفه هذا. ولكن ضحك بوجههما وقال:
- "مريم تُحبّني، ولن تكفّ عن حبّي. وإنْ حصل هذا، فأنا أعرف كيف أُغيّر رأيها. إنّها لي إلى الأبد."
بعد سماع هذا الكلام، نصحني خالي أن أذهب عند أقرباء لي في أوروبا لبضعة أيام، ربما يستفيق يوسف من هذه الحالة المرضية. وهكذا فعلت.
قضيتُ أياماً جميلة هناك، بعيدةً عن أيّ تشنّج حتى ان التقيتُ به في إحدى مقاهي اسبانيا. لم أصدِّق عينيّ! لقد تبعني إلى هناك! كيف علمَ أين أنا؟ وهل وصل مرضه إلى هذه الدرجة؟
عندما رأيته صرختُ من الخوف وبدأت بالركض حتى وصلتُ إلى بيت أقاربي. حضّرت حقيبتي ورجعتُ فوراً إلى بلدي.
لحقني يوسف إلى البيت. لم أشأ مقابلته. بقيَ أياماً طويلة وهو يحاول أن يراني، يصرخ اسمي من على الطريق وهو يبكي. وفي ذات يوم انتهى كلّ شيء. رحل يوسف. لم نعد نراه بتاتاً، لم يره أحد بعد ذلك الحين.
علمنا لاحقاً أنّه هاجر إلى كندا حيث وقع بحبّ فتاة أخرى. فرحتُ لسماع هذا، فرغم جنونه كان إنساناً طيّباً، يبحث عن حبّ وحنان إمرأة كبديل لحبّ أمّه. ولكن سرعان ما تركته تلك الفتاة، ربّما لغرابة تصرّفاته. فلقيَ مصير أمِّه وأخيه. عُثِرَ عليه ميّتاً في شقّته وبيده مسدّس. لم يجد يوسف الحب الذي كان يبحث عنه، فقرّر أن يذهب إلى التي أحبّته أكثر من أي شخص آخر.
حاورتها بولا جهشان