كانت لينا أختي تكبرُني بسنوات عدّة، لأنّها كانت مِن أمّي ولكن مِن أب آخر، أي زوج أمّي السّابق. وفور ولادتي، إهتمَّت بي لينا وكأنّني لعبتها، وارتاح قلب الجميع لأنّها تقبَّلَت مجيء أخيها إلى الدّنيا.
كانت أختي كلّ ما أعرفُه وأملكُه. هل استحوذَت على حياتي عن قصد بغرض إمتلاكي، أم أنّها فعلاً وهبَتني وقتها وأيّامها؟ لَم أكن أعلم الجواب إلى أن دخلَت إمرأة ثانية حياتي.
كان مِن الواضح أنّ لا شيء يأتي مِن دون مقابل، ولَم تكن أختي مستعدّة للإفلات بلعبتها وسلوَتها. فالجدير بالذكر أنّ لينا لَم تكن تحبّ الإختلاط بالناس بل تفضّل المكوث في البيت حين لَم تكن في المدرسة ولاحقًا في العمل. لكنّني لَم أكن مثلها، بل أحبُّ المناسبات الإجتماعيّة والإلتقاء باستمرار بأصدقائي. صحيح أنّني كنتُ أشعرُ بالذنب كلّما أتركُ لينا لوحدها في البيت وأخرجُ، لكنّها هي التي كانت ترفضُ مرافقتي، بعد أن تحاول إقناعي بالعدول عن مشاريعي.
وحصَلَ أن ماتَ والدي ومِن ثمّ والدتي بسبب ذلك المرض الخبيث والفتّاك، ووجدتُ نفسي لوحدي مع لينا. لَم أكن سوى في التاسعة عشرة مِن عمري، وشعرتُ بضياع شديد وغضب تجاه الحياة التي تأخذ منّا أعزّ الناس. لكنّ أختي عرفَت كيف تواسيني، الأمر الذي خلَقَ في قلبي امتنان لها لا يُقاس. فالحقيقة أنّني، ومنذ نعومة أظافري، كنتُ أشعرُ بالأمان بالقرب مِن لينا، لأنّني كنتُ متأكّدًا مِن أنّ لا شيء بإمكانه أن يُصيبني وأنا معها. وها هي تُعطيني الأمان الداخليّ بلعب دور الأم والأب لي، الأمر الذي يحلمُ به كلّ يتيم.
ومنذ ذلك الوقت، قرّرتُ إكرام لينا بأيّة وسيلة، أوّلاً لأنّها كانت تستحقّ ذلك، وثانية لأنّني لَم أكن أريد فقدان "نَبع الحنان" هذا.
ولأنّها لَم تكن تخرج إلا للذهاب إلى عملها، صِرتُ أجلسُ مع لينا في المساء، حتى لو كان ذلك يعني إغضاب أصدقائي. وتلك الجلسات خلَقَت بيننا رباطاً أقوى بعد مِن السّابق، وشعرتُ بأنّني لا أريدُ شيئًا أكثر مِن ذلك. مع أختي، كانت حياتي كاملة وكنتُ سعيدًا.
يوم بدأتُ بالعمل بفضل شهادتي الجامعيّة، قرّرَت لينا تَرك عملها لتتفرّغ لأمور المنزل ولي. لَم أرَ مانعًا، فهي كانت قد بدأَت بالعمل باكرًا لأنّها لَم تدخل الجامعة، وفكرة أن تحضّر لي أطباقًا شهيّة أعجبَتني للغاية.
لكنّني لَم أحسب حساب الغرام. فبالرّغم مِن حبّ لينا القويّ لي، كان مِن المستحيل لها أن تلمس قلبي كما قد تفعلُ امرأة. ففي آخر المطاف، كنتُ رجلاً طبيعيًّا وأتوق حتمًا إلى لمسة وهمسة حبيبة.
تعرّفتُ إلى ليلى في السوبرماركت حين ساعدتُها على جمع محتوى سلتّها التي وقعَت منها. هي شكرَتني وانتهى الموضوع... إلى أن التقَينا مرّة أخرى في المكان نفسه وتبادلنا التّحيّات. ومِن ثمّ صرنا نقصد السوبرماركت لنرى بعضنا، إلى حين دعوتُها للخروج وهي قبِلَت.
مع ليلى كانت حياتي قد اكتملَت فعلاً، وركضتُ أزفّ الخبر السّار للينا، الا أنّها لَم تعرِه أهميّة قائلة: "كلّ النساء ساقطات"، وأكملَت ما كانت تفعلُه. كنتُ على وشك تذكيرها بأنّها امرأة هي الأخرى، إلا أنّني فضّلتُ السكوت كي لا أجرح شعورها. لكنّني كنتُ واثقًا مِن أنّها ستحبّ ليلى التي كانت إنسانة هادئة ومُسالمة.
تفاجأتُ كثيرًا عندما أخذتُ ليلى ولينا إلى العشاء، فكنتُ قد توقّعتُ أن تُبدي أختي استياءها مِن خلال تلميحات مؤذية لليلى، إلا أنّها كانت لطيفة للغاية معها. وأخذَت المرأتان بالتحدّث بمواضيع شتى، الأمر الذي أسعدَني كثيرًا وأراحَ قلبي.
في تلك الليلة، خلدَتُ إلى النوم والبسمة على وجهي وحلِمتُ أحلامًا لطيفة. لكن عندما أخبرتُ لينا أنّني سأعيشُ مع زوجتي معها في البيت، بدأَت أختي بالمُمانعة، وتوصّلَت إلى أن تقرّر الرحيل إن كنتُ حقًّا مُصرًّا. فهي كانت ترفضُ أن تصبح "خادمة" في البيت الذي كبرَت فيه. عندها قرَّرتُ تأجيل الموضوع إلى حين تكون أختي أكثر تعاونًا. للحقيقة، لَم أشأ الزواج وتركها لوحدها، كي لا أكون ناكرًا لجميلها. فمنذ سنوات طويلة، وعدتُ نفسي بأن أهتمّ بِلينا تمامًا كما هي اهتمَّت بي وألا أتخلّى عنها يومًا.
حبيبتي لَم تكن، هي الأخرى، مُتحمّسةً للعيش مع أختي. فبالرّغم مِن لطافة هذه الأخيرة معها خلال العشاء، شعَرَت ليلى بعدائيّة صادرة مِنها. لَم أحسم الأمر مع كلتَي المرأتَين، بل أخذتُ بعض الوقت لأصل إلى نتيجة... إيجابيّة.
إقترَبَ موعد الزفاف، ولَم أكن بعد قد وجدتُ طريقة مناسبة لحلّ مشكلتي، فتركَتُ الأمر يحلّ نفسه. وعندما تزوّجنا، إنتقلَنا للعَيش مع لينا التي لَم تُبدِ لا انزعاجًا ولا ترحيبًا بنا. إستبشرَتُ بالخير وتأمّلتُ أن تسير الأمور كما يجب.
إلا أنّ زوجتي بدأت تشتكي مِن أختي، فقد كانت المرأتان تبقيان مع بعضهما طوال النهار أثناء تواجدي في العمل، وكان مِن الواضح أنّ لينا قرَّرَت تنكيد حياة ليلى. في البدء لَم تُفاتحني زوجتي بالذي كان يحصل فعلاً، بل تكتفي بالقول: "لا أدري إن كنتُ سأقدر على التحمّل." كنتُ أهدّئ مِن غضبها واستيائها، واعدًا بأنّني سأكلّم أختي. لكنّني لَم أفعل، ربّما لأنّني لَم أرِد توبيخها، فكان لدَيّ احترام شديد لها.
لكن في أحد الأيّام، وصلتُ البيت لأجد زوجتي تبكي بمرارة في غرفتنا، ممسكة فستانًا مُقطّعًا بيدها. قالت لي إنّها وجدَته هكذا مرميًّا على سريرها، أي رسالة واضحة مِن أختي لها. غضبتُ كثيرًا لهذا التصرّف العدائيّ، وركضتُ إلى لينا لأطلب منها تفسيرًا. وكلّ ما استطعتُ فهمه منها كان: "إنّها كاذبة". في اليوم التالي، أخذتُ ليلى للتسوّق واشترَيتُ لها فستانًا جميلاً، الأمر الذي أعادَ لها بسمتها.
ومنذ ذلك الوقت، صِرتُ أحترسُ من أقوال وأفعال أختي، وانتابَني تعَب شديد. فلَم تكن هذه الحياة التي حمِلتُ بها، ووجدتُ صعوبة بتقبّل موقف أختي حيال زوجتي وزواجي.
وبعد أقلّ مِن أسبوعَين، تلقَيتُ اتّصالاً مِن ليلى وهي تصرخ:
ـ تعال إلى البيت بسرعة!
ـ ما الذي حصل؟ تكلّمي!
ـ كنتُ آخذ قيلولة كما اعتدتُ أن أفعل في فترة بعد الظهر، وحين استيقظتُ وجدت أنّها قصَّت خصلاً مِن شعري! أتسمعُني؟!؟ المجنونة قصّت مِن شعري وأنا نائمة! تعال الآن وإلا...
أسرَعتُ إلى البيت لأجد ليلى مُنهارة كليًّا وهي تبكي وفي يدها خصل مِن شعرها. هل يُعقل أن تكون قد وصلَت الأمور إلى ذلك الحدّ؟ دقَّيتُ باب غرفة أختي وسألتُها صارخًا إن كانت قد فقدَت عقلها، وكيف لها أن تفعل ذلك بامرأة مُسالمة. وهي أجابَتني: "إنّها كاذبة".
عدتُ إلى زوجتي لأواسيها وأعدُها بأنّ الأمور ستصطلح، لكنّها أصرَّت على أن أتّخذ موقفًا صارمًا مِن أختي.
ومنذ ذلك المساء، لَم نعد نجلس مع لينا لتناول الطعام أو في الليل أمام التلفاز. صِرنا نتجنّبُها قدر المُستطاع، وبتُّ أقِلُّ زوجتي في الصباح إلى أهلها، وأمرُّ بها بعد انتهاء عملي لآخذها معي إلى البيت.
وحين علِمنا أنّ ليلى حامل، وجَبَ عليّ اتّخاذ قرار مؤلم. فكان مِن المستحيل أن تستمرّ حياتنا هكذا، خاصّة بعد مجيء المولود.
لِذا فاتحتُ لينا بنيّتي الإنتقال مِن البيت لأعيش مع زوجتي بسلام بعدما نكّدَت حياتنا. نظَرت أختي إليّ بحزن وقالت:
ـ تصدّق غريبة على تصديقي؟
ـ هي ليست غريبة بل زوجتي.
ـ والسنوات التي قضيناها سويًّا؟ هل تبخّرَت فجأة يا أخي؟
ـ ليلى ستكون أمّ إبني ومعها سنؤلّف عائلة.
ـ أنا عائلتكَ... سترى ذلك بنفسكَ... يومًا ما. وحتى ذلك الحين، سأختفي مِن حياتكَ وأتركَ لكَ البيت، هنيئًا لكما به.
رحلَت لينا وسط الليل، وتفاجأتُ بعدَم وجودها في الصباح في المطبخ كعادتها. جزء منّي ارتاحَ، لكنّ الجزء الأكبر أسِفَ جدًّا على ما آلَت إليه الظروف. لماذا لَم تستطع لينا العَيش معنا بسلام؟ هل كان مِن الضروريّ لها أن تبسطَ سلطتها على زوجتي هكذا؟
بقيتُ على اتصال مُتقطّع مع أختي عبر الهاتف، وتابعتُ حياتي مع ليلى والطفل الذي لَم يتعرّف إلى عمّته.
وبعد حوالي الأربع سنوات، مرضَت لينا فركضتُ إليها. هي لَم تُخبرني بما أصابَها، بل جارتها فعلَت بعدما وجدَت رقمي في قائمة جوّالها.
كانت لينا في وضع حرج، ما استلزَمَ أخذها إلى المشفى، وتبّينَ أنّها ورثَت مرض أمّنا. إمتلأَت عينايَ بالدّموع، فلَم أكن أستطيع تصوّر الحياة مِن دون أختي. وعلِمتُ حينها أنّها كانت فعلًا عالمي بأسره.
صِرتُ أذهب إلى المشفى يوميًّا لأزور أختي، لكنّ زوجتي بقيَت ترفضُ مرافقتي. وجدتُ الأمر قاسيًّا نظرًا للوضع، لكن ما عانَته مِن قِبَل لينا يُبرّرُ بعض الشيء موقفها.
في أحد الأيّام، وأنا جالس بالقرب مِن أختي وممسكًا بيَدها، سألتُها:
ـ لماذا لَم تطيقي زوجتي؟ ما الذي فعلَته لكِ؟ ألا تريدين رؤية إبني ومداعبته؟
ـ زوجتكَ كاذبة، فأنا لَم أقترِف شيئًا مِن الذي ادّعَته، صدّقني يا أخي. هل كذبتُ عليكَ يومًا؟
ـ أبدًا يا أختي.
ـ هل خذلتُكَ يومًا؟
ـ ولا يوم.
ـ هل أبدَيتُ ولو مرّة نيّة في إيذائكَ أو حتى مضايقتكَ؟
ـ ولا مرّة.
ـ إذًا كيف تصدّق أن أكون قد تحوّلتُ فجأة إلى مخلوقة كاذبة وشرّيرة وعدائيّة ومؤذية؟ كيف؟ أيُعقَل أن أتبدّل لهذه الدرجة؟ فكّر برأسكَ وليس بقلبكَ! زوجتكَ هي التي اختلقَت قصّة مضايقتي لها، وهي التي قصَّت فستانها ومِن ثمّ شعرها وليس أنا!
ـ يا إلهي... لماذا تفعل أشياءً كهذه؟!؟
ـ لستُ أدري... ربّما هي غارَت مِن تقرّبنا مِن بعضنا، وشعرَت أنّها لن تكون يومًا جزءًا مِن تحالفنا، وأنّ عليها تفريقنا.
ـ المهمّ هو أن تتحسّني الآن... وأعدكِ بأنّني سأعالج الوضع كما يجب.
حين واجهتُ ليلى بالحقيقة، أقسمُ أنّني خلتُ أنّني أرى وحشًا أمامي. فهي بدأَت بالصّراخ والشتم والتهديد، وصارَت تردّد: "سئمتُ مِن حبّكما لبعضكما!" ... وعندها تأكّدتُ مِن أقوال لينا.
أعطَيتُ زوجتي بعض الوقت لتفكّر بما فعلَته وتعتذر مِن لينا ونعاود العَيش سويًّا، إلا أنّها رفضَت ذلك، وفضّلَت أن نفترق إن كنتُ مصرًّا على السّكَن مع أختي. وافقتُ شرط أن تتركَ لي إبننا. لَم تمانع ليلى التخلّي عن الولد لكثرة كرهها لأختي ولي، كما توضّح لي لاحقًا.
لقد شفيَت لينا مِن مرضها بعد علاج طويل ومؤلم، ونحن اليوم نعيش بهناء، أي كما كان يجب أن يحصل منذ البدء. يا ليتَ كانت زوجتي إنسانة فعلاً طيّبة، لكانت الآن معنا.
لَم ينقص شيئًا على إبني، لأنّنا عرفنا كيف نُعطيه الحبّ والإهتمام، خاصّة لينا التي كانت فعلاً "نَبع الحنان"، لي ولإبني معًا.
حاورته بولا جهشان