نظرة حبّ لا مثيل لها

حبّي لِخالتي كان بلا حدود، فهي التي ربَّتني بعد موت أختها وبعد أن رحَلَ أبي إلى قارّة بعيدة بِحجّة تأمين حياة أفضل لي، أنا وحيده. للحقيقة هو هرَبَ مِن المسؤوليّة وأسَّسَ حيث هو عائلة جديدة. أبي لَم ينسَني كليًّا بل بقيَ يُرسِل لي المال كي لا أكرهُه كثيرًا. مِن جهتي، لَم أُعانِ مِن ترك والدي لي، بفضل اهتمام خالتي بي وشعوري حقًّا بأنّها أمّي الحقيقيّة وزوجها هو أبي. إضافة إلى ذلك، قضَيتُ وقتي مع أبنائهما وابنتهما سارة. كانوا جميعًا أخوَتي وأختي، وأذكرُ أنّني شكرتُ ربّي لأنّ أبي جبان وغير مسؤول، فكَم كانت ستكون حياتي مملّة لو عشتُ معه!

مرَّت السنوات بِفرَح وهدوء ودخلتُ الجامعة وحصلتُ على شهادة بالهندسة. كانت حياتي قد اكتملَت بتعرّفي أثناء دراستي إلى صبيّة جميلة وعاقلة اسمها نوال ونويتُ معها الزواج.

إلا أنّ الحياة ضرَبَتني بِيَد لا ترحَم، حين مرضَت خالتي الحبيبة وشخّصوا لها داءً لعينًا ومُميتًا. عانَت المسكينة كثيرًا فأوجاعها كانت رهيبة وهي صلَّت مرارًا ليأخذها الله إليه ويُنهي بذلك عذابها... إلى حين استجابَ لها أخيرًا وقالَ لنا الأطبّاء إنّ أيّامها صارَت معدودة.

أذكرُ المشهد وكأنّه حصَلَ البارحة، وكيف أنساه يومًا؟ فكنتُ سأخسرُ بِلحظة التي أحبَّتني وأحبَبتُها لأقصى درجة، ويتحدَّد مصيري بِبضع كلمات.

كانت خالتي مُمدّدة على سريرها ومُحاطة بأبنائها وابنتها. وحده زوجها كان غائبًا لأنّه سبقَها قبل سنوات قليلة إلى رحمة الله. كانت الغرفة مليئة بسكوت رهيب يقطعُه بين الحين والآخر أنينُ المسكينة التي طلبَت مِن أولادها ترك المكان لأنّها تُريد أن تُكلّمني بشكل خاص. إمتلأ قلبي بالفخر، فقد أكون الشاهد الوحيد على رحيلها مِن هذه الدنيا.

طلبَت منّي خالتي الاقتراب منها، فكان صوتها بالكاد يُسمَع، وقالَت لي وهي تنظرُ إليّ بِرجاء:

 

ـ إسمع يا بنَيّ... أنا راحلة حيث هم أهلي وأمّكَ وزوجي... لا تبكِ عليّ فلقد أعطاني الخالق حياة جميلة وأولادًا صالحين وأهداني إيّاكَ يا حبيبي. لكنّ بالي لن يرتاح أبدًا قبل أن تسدي لي هذه الخدمة... لا أقصدُ بذلك أن تردَّ لي أيّ جميل، بل أن تستمِع لتوصيات امرأة مُحتضِرة.

 

ـ أطلبي أيّ شيء يا خالتي، فلَيس هناك مِن خدمة توازي الذي فعلتِه مِن أجلي. أطلبي قلبي وروحي وحياتي!

 

ـ أُريدُكَ أن تتزوّج سارة ابنتي.

 


تفاجأتُ كثيرًا لِدرجة أنّني لَم أُحسِن الردّ، فخالتي كانت على عِلم بمشاريعي مع نوال. تابعَت خالتي:

 

ـ كما تعلَم فإنّ سارة فتاة هشّة وخجولة، ولِنعترِف بأنّها بسيطة بعض الشيء. ولأنّها جميلة، أخافُ أن يستغلَّ أحدٌ طيبتها بعد موتي. وحدكَ بإمكانكَ الحفاظ عليها ومُعاملتها كما يجب. لا أثِق سوى بكَ يا حبيبي، يا صغيري. عِدني بأنّكَ ستتزوّج مِن سارة، عِدني!

 

إنهمرَت دموعي على خدَّيّ وتمتمتُ لها:

 

ـ أعدُكِ بذلك يا خالتي.

 

علِمتُ في تلك اللحظة أنّ حياتي أخذَت مُنعطفًا آخر بعيدًا عن كلّ الذي أعددَتُه، لكن كيف أرفضُ آخر طلَب للتي حضنَتني وربَّتني؟ أخذتُ نفَسًا عميقًا كمَن ينوي القفز في البحر والغطس إلى أعماقه، وأبتسمَتُ لخالتي الحبيبة وهي تشدُّ على يدي. بعد لحظات، فارقَت أخت أمّي الحياة.

قُمنا بمراسِم الدفن ولَم أقُل لأحد عن الحديث الذي دارَ بيني وبين خالتي، ربمّا لأُعطي لِنفسي فرصة للرجوع عن وعدي. لكنّني كنتُ أعلَم في قرارة نفسي أنّني لن أستطيع عدَم الوفاء بذلك الوعد مهما كلَّفَ الأمر. رحتُ بعد أيّام أقطعُ علاقتي بنوال بعد أن شرحتُ لها السبب مطوّلاً. هي كانت على علم بحبّي المُطلَق لخالتي فلَم تُجادلني بل اكتفَت بالبكاء بصمت. عانقتُها بقوّة واعدًا إيّاها بعدَم نسيانها يومًا. وفي طريق العودة، قدتُ سيّارتي ببطء شديد كي يتسنّى لِدموعي أن تنشَف قبل وصولي إلى البيت.

بعد ذلك حاولتُ النظَر إلى سارة بطريقة مُختلفة، أي ليس كقريب لها بل كرجل غريب، لربّما رأيتُ فيها أيّ شيء يجذبُني إليها. إلا أنّها كانت فقط جميلة ولَم يكن ذلك كافيًا. فبمجرّد بدئها بالكلام، كانت بساطتها تظهرُ على الفور. هي لَم تكن مُتخلّفة عقليًّا بل كانت ترى الأمور والناس بعَينَيّ طفلة. كانت خالتي على حقّ، سيستغلُّها الرجال ويؤذونَها حتمًا. لِذا قرّرتُ أنّ عليّ حمايتها حتى لو كان ذلك على حساب حياتي.

وبعد مرور شهرَين على وفاة أمّها، عرضتُ على سارة الزواج وهي قبِلَت وكذلك أخوَتها الذين اندهشوا كثيرًا لهذه الخطوة. إلا أنّ بالهم ارتاحَ أيضًا على أختهم، فمَن سيُحافظُ عليها أكثر منّي؟

تزوّجنا ورحنا لبضع أيّام إلى فندق جميل قرب الشاطئ. وأعترفُ أنّني وجدتُ صعوبة قصوى للقيام بواجباتي الزوجيّة تجاه سارة، واضطرِرتُ للتفكير بحبيبتي نوال لأتمكّن مِن معاشرة زوجتي. فسارة لطالما كانت بمثابة أخت لي ولَم أنظُر إليها يومًا نظرة شهوة أو إعجاب.

ولدى عودتنا، عمِلَت زوجتي على إسعادي بشتّى الطرق، فخجلتُ مِن نفسي وقرّرتُ أن أكون لها زوجًا صالحًا.

هل اعتقدتُ للحظة أنّني سأُحبُّها حقًّا؟ على الإطلاق. وإن كنتُ اليوم مُغرمًا بسارة إلى أعلى درجة وأسعَد زوج في العالَم، فالفضل يعود إلى تلك الحبيبة التي تركتُها بسبب وصيّة خالتي. كيف لذلك أن يحصل؟؟؟ إليكم التفاصيل:

بعد زواجنا بحوالي السنة، وبعد أن أدركتُ استحالة تقبّل زوجتي، صبَبتُ اهتمامي على عمَلي، وبدأتُ مع الأيّام أنسى نوال التي تحوّلَت إلى سراب بعيد. وصرتُ أبقى في مكتبي حتى ساعات مُتأخّرة وتبقى سارة لوحدها معظم الوقت. ألَم أفي بوَعدي لخالتي بالزواج مِن ابنتها؟ ألَم يكن ذلك كافيًّا؟ لكن بالرغم مِن امتعاضي مِن الذي حصَلَ لي، لَم أُحاوِل رؤية نوال أو حتى الاتّصال بها. فكنتُ ولا أزال رجلاً شريفًا أخافُ الله.

في تلك الفترة بالذات، لاحظتُ تغيّرًا في سارة، أيّ أنّها صارَت حزينة وعيناها دامعتَين على الدوام. سألتُها عمّا يجري، فما ردَّت على سؤالي. لَم أصرّ عليها، فمَن يدري ما يجري في رأس إنسانة بسيطة؟ وبالرغم مِن ذلك، بقيَت سارة تفعلُ جهدها لإسعادي وإبقائي أكثر وقت ممكن في البيت.

 


وذات مساء، حين عدتُ مِن مكتبي إلى البيت، وجدتُ المسكينة سارة فاقدة الوعي على الأرض! حاولتُ إيقاظها إلا أنّني لَم أقدِر، فحملتُها كالمجنون إلى المشفى حيث عملوا على غسيل معدتها بعد أن ابتلعَت كمّيّة مِن الأقراص المنوّمة التي، ولحسن حظّها، كانت قد تجاوزَت تاريخ صلاحيّتها لأنّها كانت لأمّها. إنتظرتُ بفارغ الصّبر أن أستطيع رؤية زوجتي، وأن أسألها عن سبب محاولتها الانتحار مع أنّني كنتُ أعي أنّني كنتُ السبب الرئيسيّ. لكنّني لَم أتخيّل أبدًا أنّني دفعتُها إلى الموت! فلَم أوجِّه لها يومًا كلمة مؤذية أو نظرة غاضبة أو جارحة، بل فعلتُ ما بوسعي للبقاء لطيفًا معها.

أدخلوني غرفة سارة أخيرًا، فركضتُ أمسكُ بِيَدها طالبًا منها السماح إن كنتُ قد زرعتُ اليأس في قلبها. لكنّها أدارَت وجهها عنّي وبدأَت بالبكاء مُتمتمة:

 

- عُد إليها، فهذا ما تُريدُه... هي نصحَتني بالموت.

 

لدى سماعي ذلك، صرختُ بها:

 

ـ مَن؟ مَن دفَعَ بكِ إلى الانتحار؟!؟

 

ـ حبيبتكَ نوال... هي اتّصلَت بي مرَّات عديدة وفي المرّة الأخيرة قالَت لي أشياءً كثيرة.

 

ـ أكملي، لن أقاطعكِ.

 

ـ هي اخبرَتني عنكما... كيف أنّكما تتواعدان في المساء حين تقولُ لي إنّكَ في المكتب، وأنّكما تستمتعان في... في ممارسة الجنس إلى أقصى درجة.

 

ـ أقسمُ...

 

ـ قُلتَ إنّكَ لن تُقاطعني! أعلَم أنّكَ لا تُحبُّني ولا أدري لماذا قرّرتَ الزواج منّي. أمّا أنا، فلقد أحبَبتُكَ منذ اليوم الذي جئتَ فيه إلى بيتنا. وحين طلبتَ منّي أن أصبَحَ زوجتكَ، كان ذلك أجمَل يوم في حياتي، فلقد استمَعَ الله أخيرًا إلى صلواتي. أعلَم أنّني لستُ بذكائكَ لكنّني لستُ غبيّة. حاولتُ التعويض لكَ عن ذلك بِخلق مناخ حبّ في البيت وتلبية طلباتكَ لا بل استباقها. وحين قالَت لي نوال عن لقاءاتكما، وأضافَت أنّ لا معنى لحياتي وعليّ الموت لأريح الجميع منّي، فضلتُ حقًّا الموت على فقدانكَ. فأنا أحبُّكَ بهذا القدر. وبما أنّ الله لا يُريدُني الآن وأبقاني حيّةً، فذلك يعني أنّ عليّ إعطاؤكَ حرّيّتكَ. هيّا، إذهب إليها!

 

ـ أنا لَم أرَ تلك المرأة منذ يوم انفصالي عنها ولَم أسمَع صوتها حتى، وقضيتُ أمسياتي بالفعل في المكتب وسأثبتُ لكِ صدقي على الفور! 

 

أخذتُ هاتفي وطلبتُ رقم حبيبتي القديمة وشغلتُ مُكبّر الصوت قائلاً لها:

 

ـ لماذا تُحاولين تدمير زواجي؟!؟ بسببكِ حاولَت زوجتي الانتحار!

 

ـ هكذا أفضل... لو ماتَت لَعُدنا إلى بعضنا.

 

ـ مَن قال لكِ إنّني أُريدُ ذلك؟!؟ أنا لَم أعُد أحبُّكِ، قد أشعرُ ببعض الحنين لكِ لكنّه سيختفي مع الوقت. ومَن أذَنَ لكِ بأخذ الزمام الأمور بِيَدكِ؟ ألَم يكن يجدرُ بكِ استشارتي على الأقل؟ وكيف تختلقين القصص عن لقاءات بيننا وممارسة الجنس المليء بالشغَف؟

 

ـ وكيف تُريدُني أن أتخلّص مِن تلك البلهاء إذًا؟

 

ـ إيّاكِ أن تُسيئي إلى زوجتي! وما نَفع الذكاء والدّهاء إن كانا في خدمة الشرّ والأذى؟ كدتِ أن تتسبّبي بموت إنسانة شريفة وبريئة، يا فاقدة الضمير! أتركينا وشأننا وإيّاكِ أن تتّصلي بي أو بسارة مجدّدًا!

 

إبتسمَت لي زوجتي واستنارَ وجهها، وحين نظرتُ إلى عَينَيها رأيتُ كمّيّة حبّ لَم أتصوّرها مُمكنة. رحمكِ الله يا خالتي! فطلبُكِ كان في محلّه إذ جمعتِ بين شخصَين فعلاً مُتطابقَين.

أحبُّ زوجتي سارة مِن كلّ قلبي وكذلك ولدَينا الذَين ولِدا بعد فترة قصيرة مِن تلك الحادثة. تفاجأنا بإنجاب توأمَين لكنّنا اعتبرنا مجيئهما بمثابة هديّة مُزدوجة مِن الله. وفهمتُ أنّ المرء يُقاس حسب طيبته وإنسانيّته لا حسب ذكائه وحنكته، وأنّ الخير لا بدّ له أن يظهَر أمام بشاعة وسواد الشرّ.

لا تزال نوال عزباء، ليس بسبب عدم تمكّنها مِن نسيان حبّنا، بل حتمًا لأنّ عقلها وقلبها مليئان بالغضب والكره والمرارة. ليكن الله في عونها، فكم يتعذَّب أمثالها!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button