يوم طلَبَ منّي لؤي الهروب معه لنتزوّج، لَم أتردّد في جَمع بعض الأغراض في حقيبة المدرسة وموافاته إلى المكان المُتّفَق عليه. فكنتُ أُحبُّه كثيرًا بالرغم مِن مُمانعة أهلي، فهم أرادوني أن أُتابِع دراستي ونَيل على الأقلّ شهادة البكالوريا، وأن أنسى أمور الحبّ خاصّة مع شابّ لا أحَد يعرفُ عنه شيئًا ويكبرُني بعشر سنوات. لكن عندما تكون الفتاة في سنّ السادسة عشرة، لا تأبَه لكلامٍ غير كلام الحبّ والغزَل والوعود الزهريّة اللون. وأنا أحبَبتُ لؤي وحياتي ستكون إلى جانبه وحسب!
أخذَني حبيبي إلى شقّة صغيرة في المدينة المُجاوِرة حيث كانت تنتظرُنا أمّه. كنتُ قد تعرّفتُ إليها سابقًا وهي أحبَّتني كثيرًا، لأنّها لَم تُنجِب سوى لؤي وكانت تتمنّى لو لدَيها إبنة. أنا الأخرى أحبَبتُها لأنّها كانت لطيفة وهادئة، على عكس والدتي التي كان يملأ صراخها البيت طوال اليوم وأحيانًا الليل. أمّا أبي، فهو كان رجُلاً بلا طعم أو لون، يُنفِّذُ أوامر زوجته حرفيًّا ومِن دون مُناقشة، ربّما لتفادي المواجهة معها أو لأنّه، بكلّ بساطة، معدوم الشخصيّة.
عانقَتني أمّ لؤي وأرَتني الفستان الأبيض الذي حضّرَته لي، وسرَّحَت شعري ووضعَت بعض المساحيق على وجهي قائلة:
- يا حبيبتي، تبدين كاللعبة! كَم أنّ ابني محظوظ! سترَين كيف سيُعاملُكِ لؤي، ستكونين ملكته!
إحمرَّ وجهي مِن الخجَل ثمّ انتابَني الهم: ما الذي كان سيحصلُ بعد عقد القران وإقامة الفرَح ليلاً؟ فلَم أكن أدري تمامًا ما يفعله العرسان، بل كانت لدَيّ فكرة مُبهمة لَم تُعجِبني كثيرًا. لكن طالما الكلّ يفعلُ ذلك، فلا بدّ أن يكون الأمر طبيعيًّا. ألَم أكن عروسته؟ ألَم تكن أمّه موافِقة وسعيدة؟ هذا كان كافيًا لإعطائي الشجاعة لمواجهة ما ينتظرُني.
عقَدنا قراننا ورحنا إلى صالة حيث وجَدنا مدعوّين بانتظارنا، ومائدة كبيرة يتوسّطها قالب حلوى ضخم. كنتُ سعيدة للغاية وسط الزغاريد والتهاني، ونسيتُ أنّ لا أحَد مِن عائلتي أو أصدقائي كان موجودًا. على كلّ الأحوال سيرضون بعد أن يعرفوا أنّني صِرتُ سيّدة مُتزوّجة وستعودُ المياه إلى مجاريها. كان قد وصلَهم خبَر هروبي وزواجي لكنّهم لَم يعرفوا مكان وجودي. فلَم أكن أريدُ أن يُعكّروا عليّ أجمَل يوم في حياتي. ففي الوقت الحاضِر، ما كان يهمَّني هو أن أفرَح لنفسي وللحياة الجميلة التي كانت بانتظاري مع زوجي.
جرَت الليلة بأقلّ قدر مِن القلَق، إذ أنّ لؤي كان عريسًا لطيفًا وصبورًا، لكن بعد ذلك النهار الجميل والمساء الرومانسيّ، تغيَّرَ كلّ شيء.
فمنذ الصباح التالي لاحظتُ تغيّرًا في طباع لؤي، أمور طفيفة للغاية لا أهمّيّة لها. ردَدتُ الأمر إلى تعَب اليوم السابق، ففعلتُ جهدي لتلطيف الأجواء. جاءَت عائلته لتُبارك لنا، وجلَسنا جميعًا نأكلُ الحلوى اللذيذة التي جلبَتها حماتي. ثمّ رحلوا وبقيتُ لوحدي مع زوجي. هو لَم يكن ثرّيًّا لأخذي إلى أيّ مكان لقضاء شهر العسل، وكنتُ مُدرِكة لذلك، فالتواجد معه في تلك الشقّة كان كافيًا بالنسبة لي. ألَم تكن الحياة تفتحُ ذراعَيها لنا؟ أو هكذا ظننتُ.
في المساء، أعرَبَ لؤي عن نيّته النوم على أريكة الصالون فأدهشَني الأمر، لكنّني لَم أقُل شيئًا، فلا بّد أنّ له أسبابه. لكنّني استيقظتُ ليلاً على صراخه أثناء نومه فجلستُ بالقرب منه على الأريكة ومرَرتُ أصابعي بشعره قائلة:
- إنّه كابوس مُزعِج، لا تقلَق.
إلا أنّه فتَحَ عَينَيه ونظَرَ إليّ وكأنّني غريبة عنه ثمّ صرَخَ:
ـ إبتعدي عنّي أيّتها الساحرة!
ـ هذا أنا يا حبيبي... لقد رأيتَ حلمًا مُخيفًا... هذا أنا.
ـ لا تلمسيني! لا تلمسيني! يا إلهي... كَم أنّكِ قبيحة! النجدة!!!
رحتُ ألتجئ إلى غرفتي بانتظار أن يصحو زوجي جيّدًا وغرقتُ في النوم في غضون دقائق. في الصباح كان لؤي يتصرّف بشكل طبيعيّ، فلَم أُثِر الموضوع معه، إلا أنّني أخبَرتُ أمّه عن الكابوس حين هي اتّصلَت بي لترى إن كنتُ بحاجة إلى أيّ شيء. عند سماعها ما حصَل، أكّدَت لي المرأة أنّ تلك الأمور تحصل لأيٍّ كان وأنّ عليّ نسيان الموضوع. ثمّ طلبَت أن تتكلّم مع ابنها وسمعتُه يقولُ لها:
- حاضِر يا ماما، سأنامُ في السرير الليلة وسأفعلُ كلّ ما تطلبينَه منّي.
ضحكتُ في سرّي، فبدا لي لؤي وكأنّه طفل صغير يسمعُ كلام أمّه، ووجدتُ الأمر لطيفًا للغاية.
لَم يحصل شيء في الأيّام والليالي التي تلَت، وبدأتُ أفكِّر بكيفيّة إعادة الصلة مع ذويّ، فكنتُ أُريدُ أن يُشاركوني سعادتي ويتعرّفوا أكثر إلى عريسي وعائلته. لكن بعد ليال معدودة، إستيقظتُ ليلاً ولَم أجِد لؤي إلى جانبي في السرير، فرحتُ إلى الصالون. وجدتُه هناك مُتقوقِعًا على نفسه ويشدُّ بشعره مُتمتِمًا:
ـ أنا لستُ هنا... أنا في مكان آخَر... أجل، في مكان آخَر... لن تجدوني أبدًا!
ـ ما بكَ يا حبيبي؟ عُد إلى السرير، تعال.
ـ تستطيعين رؤيتي؟!؟
ـ أجل.
ـ لكنّني مُختبئ! كيف؟... إذًا أنتِ إحداهم! أنتِ هنا لأخذي إليهم!!!
ركضتُ خارج الشقّة لكثرة خوفي آخذةً معي هاتفي، وأسرَعتُ بالاتّصال بحماتي التي أتَت ومعها أولاد أختها، وهم شبّان أقوياء البُنية. دخلوا جميعًا الشقّة ما عداي أنا. بدأتُ أبكي بحرارة فكان مِن الواضح أّنّ شيئًا يجري، شيئًا خطيرًا كنتُ الوحيدة التي تجهلُه.
خرجَت أمّ لؤي وأخذَتني إلى دارها لأبيتَ الليل عندها، لكنّها لَم تُجِب على أسئلتي بل وعدَتني بالتكلّم عند الصباح. لَم أنَم قط لكثرة خوفي وتساؤلاتي، وانتظرتُ طلوع الضوء لمعرفة ما يجري على التمام. وجدتُ حماتي في المطبخ تعُدُّ القهوة، فطلبَت منّي الجلوس على كرسيّ قُبالتها وقالَت:
ـ إبني يُعاني مِن اضطرابات نفسيّة مذ كان صغيرًا.
ـ ماذا؟!؟ والآن تُخبريني بذلك؟!؟ قلتِ لي إنّني بمثابة ابنتكِ... لكنّكِ غشَّيتِني!
ـ إنّه ابني، وحيدي...
ـ هذا ليس عذرًا! لكنّه كان يتصرّف بطريقة طبيعيّة منذ ما تعرّفتُ إليه إلى حين تزوّجنا، كيف حصَلَ ذلك؟
ـ كان يأخذُ دواءه إلا أنّه خالَ نفسه بِغنى عنه فأوقفَه. أنا آسفة يا حبيبتي.
ـ كُفّي عن مُنادتي "حبيبتي"! ماذا تُريدين أن أفعَل برجُل مجنون؟
ـ لا تقولي إنّه مجنون!
ـ الهروب مِن الحقيقة ليس الحلّ!
ـ سأُقنِعه بأخذ دوائه بانتظام وسأتحقَّق مِن الأمر بنفسي. لا تُحطّمي قلبه، أرجوكِ، فهو سعيد للغاية معكِ.
ـ لكنّه اتهمَني بأنّني ساحرة وأُريدُ أذيّته. أنا خائفة مِن أن يؤذيني هو! لو رأيتِ كيف نظَرَ إليّ! لقد تجمَّدَ الدم في عروقي! أُريدُ العودة إلى أهلي فلا أزالُ يافعة للتعامُل مع هكذا حالة!
ـ إبقي أرجوكِ، حاولي مرّة أخرى وإن حصَلَ أيّ شيء، إرحلي.
حين عدتُ إلى الشقّة كان لؤي نائمًا وبقيَت أمّه معي حتى استفاقَ. تفاجأتُ به يتصرّف طبيعيًّا وعلِمتُ أنّه أخَذَ مُجبرًا دواءه. هو وعدَني بأنّه لن ينسى بعد ذلك تناول الأقراص التي تُعدِّل مزاجه وأفكاره، وتعانَقنا. إلا أنّني لَم أكن مُطمئنّة. تمنّيتُ لو كانت العلاقات بيني وبين عائلتي جيّدة لَسانَدوني ونصَحوني، إلا أنّهم كانوا لا يزالون غاضبين منّي ولا يودّون التكلّم معي. يا إلهي، إبقِ لؤي مُسالِمًا!
جرَت الأمور على التمام لفترة شهر بكامله، وبدأتُ أنسى أنّ زوجي مُضطرِب نفسيًّا وصِرنا نتكلّم سويًّا عن الإنجاب بالرغم مِن سنّي اليافع. فكنتُ أُريدُ ولَدًا مِن الرجُل الذي أُحبُّه أكثر مِن كلّ شيء. اليوم أحمدُ ربّي أنّني لَم أحمَل وإلا لوقعتُ في حيرة كبيرة.
فذات ليلة استيقظتُ وأنا أختنِق. فتحتُ عَينَيّ وبالكاد استطعتُ إدراك ما يحصل بسبب الظلمة. إلا أنّني فهمتُ مذعورة أنّ لؤي ممسِكٌ بِعنقي ويشدُّ عليه بكامل قوّته. حاولتُ التخلّص مِن قبضته لكنّه صرَخَ عاليًا:
ـ أيّتها الشرّيرة! سأقضي عليكِ قَبل أن تُسلّميني لهم! كلّكم شياطين! كلّكم!
شعرتُ حقًّا أنّني سأموتُ في تلك الليلة، إلا أنّ إحساسي بالبقاء كان الأقوى، فركلتُه بما تبقّى لي مِن قوّة، الأمر الذي حملَه على إفلات إحدى يدَيه مِن حول عنقي. عندها أدخلتُ إبهامي في إحدى عَينَيه واستطعتُ النهوض مِن السرير بينما هو أخَذَ يصرخُ مِن الألَم ويقولُ:
- عَيني! عَيني!
فتحتُ باب الشقّة وركضتُ في الرواق أخبطُ على أبواب الجيران كلّهم حتى فتَحَ لي أخيرًا أحدهم. إلتجأتُ إلى الداخل وطلبتُ حماتي باكية. وحين هي قدِمَت مع مُرافقين كما في المرّة السابقة، لَم أتبادَل الكلام معها وهي فهِمَت أنّني لن أعودَ إلى إبنها قط.
في الصباح رحتُ إلى أهلي، وهم طلَبوا مِن أمّ لؤي أن تبعثَ بأغراضي وأن يُطلّقَني ابنها بسرعة وإلا اشتكوا عليه.
بعد فترة قصيرة صِرتُ امرأة مُطلّقة، أو بالأحرى مُراهِقة مُطلّقة. عدتُ إلى المدرسة وتابعتُ دراستي ودخلتُ الجامعة، ولَم أُخاطِب رجُلاً إلا بعدما حصلتُ على إجازتي الجامعيّة وبعد أن نسيتُ الرعب الذي مرَرتُ به.
أمّا بالنسبة للؤي، فهو في مؤسّسة تُعنى بالأمراض العقليّة بعدما حاوَلَ حرق منزل أمّه والانتحار. أعلَم أنّ الذنب ليس ذنبه بل أنّ أمّه هي المسؤولة عمّا حصَلَ لي، فكدتُ أن أموتَ بسببها ونكرانها لحالة ابنها. ففي بلداننا نُفضّل التستّر على الحقيقة البشعة لأسباب اجتماعيّة، حتى لو عنى ذلك التعرّض للخطر أو الإيقاع بأحد ما كما جرى لي. الله يُسامح التي كانت السبب!
حاورتها بولا جهشان