في الحي الذي كنّا نعيش فيه، لم يكن هناك سوى محل بقالة واحد، معتم وضيّق، يملكه العم وليد. كان في حانوت العم وليد شتى أنواع السكاكر التي يتوق إليها جميع الأولاد: مصّاصات، ملبّسات من كل الأصناف ومشروبات غازية ألوانها حمضية. بالنسبة لنا، كان المحل بمثابة مغارة علي بابا. لم نكن نأبه للغبار الذي يملأ المكان ولا للهررة التي تتبختر في كل الأنحاء، بل إنّ جل ما كان يشغل بالنا هو السكاكر المغلّفة بأوراق متعدّدة الألوان. أمّا العم وليد، من جهته، فكان يحلم بملذّات من نوع آخر، لكنّ أحداً من الأهالي لم يعر الأمر أهمية فبالنسبة للجميع، لم يكن إلاّ عجوزاً لطيفاً يحب الصغار. في إحدى الأمسيات، احتاجت أمي إلى القهوة المطحونة فتطوّعت أنا للذهاب لأنّني كنت أرغب في تناول الحلوى. كان المالك في آخر المحل مسترخياً على أريكة فأشار لي بيده كي أقترب وقال:
- هل جئت بمفردك؟
- نعم. تريد أمي القهوة.
- هل أغلقت الباب خلفك؟ فإنّ الهواء قوي في الخارج.
- نعم أيها العم وليد.
أخذني من يدي وشدّني إلى الأريكة. في بداية الأمر، لم أكن أفهم ما يجري لكن حين بدأ يضايقني، تخبّطت بكل قواي بيد أنّني عجزت عن الصراخ إذ أغلق فمي بيده. لحسن حظي، جاءت زوبعة لتضرب بقوة الباب الذي لم أحسن إغلاقه جيداً. استفدت من وقع الصدمة وهربت من بين يدي الوحش وخرجت من المحل.
وبما أنّه لم ينجح في إمساكي، قال لي بصوت أبحّ:
- سأقتل أهلك إن قلت أية كلمة عمّا حصل!
ركضت إلى المنزل وقلبي يخفق بقوة والدمع ينهال من عينيّ كالشلال. بالتأكيد، لم أخبر أحداً عمّا جرى خوفاً من نتائج ذلك ولأنّني شعرت بالخجل فقد كنت في السابعة من عمري.
مرّت السنون ونسيت كل شيء عن تلك الحادثة، كما لو أنّها لم تحصل يوماً، وهذا لأنّنا انتقلنا بعد وقت قصير وبدأت حياتنا من جديد. أصبحتُ أمّاً وصار عندي فتاة جميلة وذكية اسمها ياسمينا، كانت تلفت انتباه الجميع وهي موهوبة فنياً ففي عامها السادس، سجّلتها في دروس بيانو ورقص ورسم. في تلك السنة، لاحظت تبدّلاً في سلوكها. صارت أكثر تحفّظاً وانغلاقاً على ذاتها بالرغم من طبيعتها الاجتماعية المنفتحة. راحت ترفض أن أساعدها في الاستحمام وبدأت نتائجها المدرسية تتدنّى بشكل لافت.
حاولت جاهدةً طرح الأسئلة عليها لكنّني لم أحظ يوماً بأي جواب. في تلك اللحظات، عدت بالذاكرة إلى الوراء واسترجعت المشهد في محل البقالة. فاتّصلت بوالدتي وسألتها عن تلك الفترة من حياتي وقالت لي إنّني كنت السبب الرئيسي في انتقالنا من ذاك الحيّ، إذ إنّني فجأةً، بدأت أبدّل سلوكي وأخشى من الخروج من المنزل وأرفض أن يلمسني أحد. عندئذٍ، وجد أهلي أنّ من الأفضل لي إبعادي عن ذاك المحيط وكان القرار في مكانه.
إذاً، الأمر صحيح! والآن جاء دور صغيرتي الغالية! عزمت على معرفة ما يجري وقررت البدء بالتحري. قد يكون أحداً من محيطنا، من الأهل أو من أصدقاء العائلة أو تاجراً أو أستاذاً. كان عليّ أخذ الحيطة فمن غير المعقول اتّهام أحد بلا دليل. للأسف، لم تساعدني ياسمينا أبداً! بل إنّ كل سؤال كنت أطرحه عليها كان يزيدها غضباً، فاضطررت إلى التوقف عن الإلحاح. من الضروري إيقاف المسألة في أسرع وقت. أردت إطلاع زوجي على الأمر لكنّني خشيت من ردة فعله العنيفة، كما راودتني فكرة مخيفة إذ وضعته على لائحة المشتبه فيهم.
لم يكن باستطاعتي إزالة أية فرضية! راقبته عن كثب إلى أن اقتنعت بأنّه بعيد كل البعد عن المأساة التي تعيشها ابنتي. عندئذٍ، رحت أتبع مبدأ الاستبعاد: في أي وقت بالتحديد تبدو ياسمينا مضطربة جداً وخائفة؟ في أي يوم من الأسبوع وفي أية ساعة، وبرفقة من؟ لاحظت أنّ ياسمينا تنهض بصعوبة من سريرها يوم السبت، وفي فترة بعد الظهر، مع اقتراب موعد درس البيانو، كانت تتوتّر. عادةً، كنت أوصلها لعند أستاذها وأذهب للتبضّع. لكن في ذاك اليوم، قرّرت البقاء معها. لدى وصولنا، جلست على أريكة قبالة البيانو، بطريقة لا توحي البتة بالنيّة التي أضمرها.
قال لي الأستاذ بكل لطف:
- إن كنت مضطرة للذهاب سيدتي فلا تتردّدي. لا حاجة لأن تضيّعي وقتك في الانتظار.
نظرت في عينيْ ياسمينا وقلت لها:
- عزيزتي، هل تريدين أن أبقى معك؟ لا تخافي، انظري إليّ وأجيبيني.
ارتعدت وأردفت:
- أريد الرحيل، خذيني معك بعيداً من هنا، أرجوك...
أعطيتها مفاتيح السيارة وطلبت منها انتظاري فيها. تظاهر الأستاذ بأنّه لم يفهم. في تلك الأثناء، كنت قادرة على قتله وتقطيعه إرباً لكنّني حافظت على هدوئي وقلت له:
- اسمعني جيداً أيها الحقير الوضيع. أعرف ما فعلته بابنتي وأنت تستحقّ أن تعلّق على حبل المشنقة. ستحزم أمتعتك وتذهب من هنا وتكفّ عن إعطاء الدروس. أمّا أنا فسألحق بك أينما ذهبت وإذا علمت يوماً ما أنّك اقتربت من ولد ما، أعدك بأنّها ستكون آخر لحظة في حياتك. أقسم بحياة ياسمينا.
لم ينطق بكلمة وشحب لونه كما لو أنّه سيفقد الوعي. تركته ورحلت ولم أخبر الشرطة كي أُجنِّب ابنتي الإجابة عن أسئلتهم وكي لا تكون مضطرة لوصف العنف الذي مارسه المجرم عليها. لكنّني في المقابل، أعلمت لجنة الأهل في المدرسة أنّني سمعت عن انحراف هذا الرجل نحو الأولاد وأنّني حسناً فعلت يوم توقفت عن اصطحاب ابنتي لعنده. كنت واثقة من أنّ الخبر سينتشر في كل أنحاء المدينة. قامت ياسمينا لعدة أشهر بجلسات مع طبيبة نفسية خاصة للأولاد ومع الوقت عادت المياه إلى مجاريها. لست أدري، هل يجب عليّ لعن العم وليد أم شكره؟ لولاه لما شككت للحظة بما كان يجري ولبقيت ابنتي ضحية رجل فاسد مجنون.
حاورتها بولا جهشان