نبذَتني أمّي لحظة ما تركنا أبي

أظنّ أنّني كنتُ سأعيش حياة هنيئة وطبيعيّة لو لم يقرّر أبي أن يتركنا ويرحل مع إمرأة كان على علاقة بها منذ فترة. هل فعَلَ ذلك لأنّه يفتقر إلى الشعور بالمسؤوليّة أم أنّه لم يعد يتحمّل مشاكل أمّي النفسيّة؟ لم أعرف الجواب يوماً لأنّني لم أرَ ذلك الرجل حتى اليوم. ولحظة ما فقدَت أمّي زوجها تحوّلَت إلى إنسانة معدومة العاطفة والإحساس ولم تجد سوايَ لتصبّ عليَّ كل كرهها وإمتعاضها. ولأنّني كنتُ لا أزال صغيرة لم أحسن منعها مِن إيذائي.

 

وأوّل شيء فَعَلَته بي هو إخراجي مِن مدرستي لأنّ برأيها كان ذلك ضروريّاً لأتمكّن مِن مساعدتها على إيجاد لقمة العيش. ولأنّني كنتُ لا أزال في السابعة مِن عمري ولن يقبل أحد بتوظيفي قرّرَت والدتي أنّني سأنظّف منازل سكّان المبنى بينما تذهب هي إلى عملها في المقهى.

بكيتُ كثيراً لأنّني لم أعد أرى زميلاتي ومعلمّاتي في المدرسة وظننتُ فعلاً أنّ السبب كانت علاماتي، فرجوتُ أمّي أن تعيدني إلى هناك ووعدتُها أنّني سأتحسنّ ولكنّها ضحِكَت وقالَت: "إن كنتِ تظنين أنّني سأصرف قرشاً عليكِ بعد الآن فأنتِ مُخطئة... تريدين أن تأكلي وتشربي؟ إجني مالكِ الخاص! وإن كان لديكِ إعتراض يمكنكِ الرحيل أو الشكوى عند الذي أنجَبكِ وتركَكِ! 

عندها ورغم سنّي اليافع فهمتُ أنّ عليّ الإتّكال على نفسي ونسيان ما يسمّى"الرعاية الأبويّة." وبدأتُ العمل فوراً عند الجيران ولأوّل مرّة في حياتي شعرتُ بالتعب الفعليّ. ولحسن حظيّ كان هؤلاء الناس يحسنون معاملتي لأنّهم كانوا يعرفونني ولأنّهم قصدوا مساعدتي بعد أن علِموا أنّ ذلك كان السبيل الوحيد لكي أحظى بحياة شبه كريمة.

 


وكانت هناك جارة أحببتُها أكثر مِن الباقين وإسمها سميرة لأنّها كانت تجبرني على تناول الوجبات عندها وتقول لي: "ستأكلين هنا لِتضعي ما ستجنيه جانباً." وهكذا بدأتُ أنتظر لحظة الغداء لأنّ تلك السيّدة الطيبّة كانت تحضرّ لي المأكولات الشهيّة وتجلس معي وتتكلّم معي. وأخبَرَتني كيف ماتَ أهلها ووجَدَت نفسها وحيدة وتدبّرَت أمرها بنفسها وأظنّ أنّها رأَت بي صورة عنها لذا قرّرَت مساعدتي وإعطائي النصائح:

 

ـ إسمعي يا صغيرتي... المال هو للأسف كل شيء... مِن دونه حياتكِ ستكون تعيسة وستتحمّلين طغيان الآخرين... وبالعمل الشاق ستصلين إلى تحسين حالتكِ... إعملي دون توقّف وضعي المال جانباً... لا تصرفي منه إلاّ حاجتكِ... ولا تخبري احداً بذلك... سأؤمّن لكِ المأكل وسأجد لكِ الثياب... لديّ صديقة تعمل في مؤسّسة خيريّة... لن تحتاجي لصرف المال بعد الآن... ضعي كل ما تجنيه في مكان سرّي وسيأتي يوم وتجدين نفسكِ قادرة على شراء ما تريدينه.

 

ـ إريد الرحيل بعيداً...

 

ـ حسناً... وأين ستذهبين؟

 

ـ لا أدري... ليس لديّ أحداً...

 

ـ سيلزمكِ مكاناً لتعيشي فيه أليس كذلك؟

 

ـ أجل...

 

ـ حسناً... إعملي إذاً على شراء مكان خاص بك.

 

وأظنّ أنّ تلك النصائح هي أفضل ما حصل لي بحياتي فأصبح لي هدفاً بعدما صِرتُ وحديدة مع أمّ لا تعترف بوجودي.

ومرَّت السنين وسط تجاهل والدتي لي وغضبها المجّاني الذي تسبّبَ لي بِكدمات عديدة. ولكنّني كنتُ دائماً أصبر ليس خوفاً منها أو شفقة بها لأنّها كانت بالتأكيد مريضة نفسيّاً، بل لأنّني كنتُ أعلم أنّ وضعي سيتغيّر يوماً.

وفي ذاك يوم طُرِدَت والدتي مِن عملها بسبب معاملتها السيّئة للزبائن ولم تعد تجد مكاناً آخراً يستقبلها فلم ترى حلاً سوى أن تبيع جسدها لِمَن يقبل بها. حاولتُ منعها مِن ذلك وعَرَضتُ حتى عليها أن أعمل الضعف لأغطّي مصاريفها ولكنّها رفضَت قائلة:"لا! لن أكون مدينة لكِ بشيء! أستطيع تدبّر أمري بنفسي!".

وهكذا بدأ الرجال يتوافدون إلى بيتنا وشكرتُ ربّي أنّها لم تقرّر أن أكون جزءً مِن هذه الحياة المنحلّة خاصّة بعدما أصبحتُ مراهقة حسنة المظهر. وأظنّ أنّ السبب الوحيد الذي منعَها مِن ذلك ليس شعورها بالأمومة بل خوفها مِن المنافسة.

 


وفي هذه الأثناء بقيتُ أدّخِر المال وأقصد سميرة للأكل والشرب واللباس وحتى لِقراءة بعض الكتب عندها لكي لا أنسى القليل الذي تعلّمتُه في المدرسة. وبسبب إستياء سكّان المبنى مِن الذي كانت تفعله أمّي مع عشّاقها لم يعودوا يقبلون أن أعمل عندهم لذا إضطررتُ للبحث عن أماكن أخرى. ولحسن حظّي وجدتُ عملاً عند عائلة تحتاج إلى مَن ينظّف منزلها ويهتمّ بترفيه أولادها. وكانت تلك العائلة ستؤمّن لي المسكن والمأكل وكل مستلزمات الحياة. ولم أكن لأحظى بهذه الوظيفة لولا سميرة ومعارفها وتوصيّاتها بي.

وعندما أخبرتُ والدتي بالأمر تأمّلتُ أن تقول لي شيئاً جميلاً أو مؤثّراً أحمله معي وأستمدّ منه بعض الرجاء ولكنّ جوابها لي كان: "هكذا أفضل... سيكون المكان خالياً ليأتي أصدقائي دون أن ينزعجوا مِن وجودكِ هنا...". وبكيتُ بصمت وأنا أوضبّ أمتعتي القليلة فما مِن شيء أصعب مِن أن يدرك المرء أنّ أهله لا يريدونه بل ينزعجون منه.

وقضيتُ سنين هادئة عند أرباب عملي ولم يبخلوا عليّ بشيء بل إعتبروني واحدة منهم بسبب صغر سنّي والتفاني الذي أبدّيتُه في عملي عندهم. وبعد كل تلك الفترة كنتُ قد أصبحتُ كبيرة كفاية لأستقلّ عنهم فإنتقلتُ إلى شقّة كنتُ قد دفعتُ قسماً منها مِن مدخرّاتي لأكمل دفعاتها مِن الذي أجنيه شهريّاً. ولأوّل مرّة في حياتي شعرتُ بالإستقلاليّة وأنّني حقّقتُ شيئاً بنفسي ولِنفسي وزاد شعوري بالقوّة والقدرة على فعل المزيد. ولم أقطع يوماً علاقتي بسميرة التي كنتُ أزورها كل أسبوع وبالرغم أنّني كنتُ أقصد المبنى التي تعيش فيه أمّي فلم أمرّ بها يوماً. ولكنّني علِمتُ مِن سميرة أنّ والدتي أصبحَت في حال ضياع كامل وإنحلال خلقي لا مثيل له وأنّ الشرطة داهَمت منزلها مراراً وأخذَتها إلى القسم للتحقيق. ولأنّها أصبحَت كبيرة في السنّ وفي حالة مزرية خفَّ عملها وباتَ زبائنها مِن العجزة والفقراء. حزنتُ لِسماع ذلك وقرّرتُ في إحدى المرّات أن أذهب لرؤية التي رفَضَتني دون سبب. وعندما فتحَت لي الباب قالت لي:

 

ـ ماذا تريدين؟

 

ـ جئتُ ألقي التحيّة عليكِ وأرى كيف أحوالكِ.

 

ـ أنا بخير.

 

ـ ألن تدعيني للدخول؟

 

ـ لا! هذا بيتي!

 

ـ لماذا تكرهيني يا أمّي؟ ما الذي فعلتُه لكِ؟

 

ـ لا شيء... ولكنّني لا أحبّكِ! وهل مِن المفروض أن يكون هناك سبباً لذلك؟

 

ـ أنتِ أمّي! أنتِ مجبرة على حبّي!

 

ـ لا... أنتِ مخطئة... لا تحب كل الأمّهات أولادها بل تفعلنَ ذلك أرضاءً للمجتمع ولأزواجهنّ... وعندما يرحل الزوج مع إمرأة أخرى لا يعود هناك سبب للإدّعاء بهذه البدعة التي تسمّى أمومة.

 

ـ أنتِ مريضة... حتى الحيوانات لا تترك صغارها... على كل حال جئتُ أعرض عليكِ أن تأتي وتعيشي معي في بيتي.

 

ـ أصبح لديكِ بيتاً الآن؟ ومِن أين؟ هل فعلتِ مثلي؟

 

ـ لا... بل بالعمل الشريف وبعرق جبيني وبفضل إمرأة لا تمتّ لي بأيّ صلة عاملَتني وأحبَّتني أكثر منكِ... الوداع!

 

ورحلتُ ولكن دون أن أشعر بأيّ أسف على تلك المرأة. وعندما ماتَت بعد بضعة سنوات لم يكن هناك سوايَ في دفنها. ماتَت وفي تلك اللحظة بالذات بدأَت فعليّاً حياتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button