ها أنا صِرتُ رجُلًا عجوزًا ووحيدًا، وكلّما نظرتُ إلى الوراء، إلى حياتي بمُجملها، أرى بوضوح أخطائي، هي نفسها التي اعتبَرتُها آنذاك نجاحات، ومهارة، وذكاء، ودهاء. يا لَيت الإنسان يُدركُ في حينها أين ستأخذه قراراته، حين لا يعودُ ينفعه ماله أو جاهه. وأنا في نهاية مسيرتي في هذه الدنيا، يأكلُني الندَم وما بيَدي حيلة. أنا لا أروي قصّتي لأُحزنَ قلبكم، بل لتأخذوني مثلًا وتتفادوا أخطائي، وتواجهوا ربّكم بقلب خفيف وضمير مُرتاح. خذوني عبرة ولا تأسفوا عليّ، فأنا لا أستحقّ أسفكم.
وُلِدتُ في عائلة قليلة الدَخل وقليلة الطموح. حياتنا كانت عادّيّة لِدرجة أنّ كلّ يوم كان شبيهًا بالآخَر ويدورُ حول شيء واحد: الحصول على القوت. كنتُ الوحيد بين أهلي الذي أرادَ الأكثر مِن حيث المال والإثارة، فرفضتُ واقعي وثرتُ على هؤلاء الذين وصفتُهم بالفاشلين. فقرّرتُ منذ صغري أن أصبَحَ أفضَل منهم مِن كلّ النواحي، وأدركتُ أنّ الوسيلة التي ستُمكّنُني مِن بلوغ أحلامي كانت الدرس ونَيل الشهادات. لِذا إجتهَدتُ وأعطَيتُ كلّ ما لدَيّ بالدرس ليلًا نهارًا. وسرعان ما صِرتُ مِن أوائل صفيّ، ثمّ الأوّل مِن دون مُنازِع. إفتخَرَ بي أهلي واحتقرتُهم، لأنّهم يتغنّون بإنجازات غيرهم بدلًا مِن الاجتهاد.
دخلتُ جامعة حكوميّة وبدأتُ أجني المال مِن رفاقي لأنّني بعتُهم مهارتي، فأنجزتُ فروضهم عنهم وأعطَيتُهم دروسًا خصوصيّة. جمعتُ المال اللازم لشراء سيّارة مُستعملة وبالكاد تعمَل، لكنّني بتُّ مُستقِلًّا بتنقّلاتي وقادِرًا على الذهاب إلى الأسواق وجَلب مُختلف البضائع مِن المصدر لبَيعها لزملائي. تخرّجتُ وفي جَيبي ما يكفي لأبدأ تجارة صغيرة خاصّة بي. لَم أعطِ فلسًا لأهلي وأخفَيتُ عنهم ما أملك، فلقد تعِبتُ كثيرًا ويحقُّ لي أن أنفرِد بمالي. لماذا لَم يفعلوا مثلي بدلًا مِن الاكتفاء بالقليل والعَيش في الخوف مِن المُستقبل؟
وجدتُ محلًًّا يملكه رجُل عجوز بالكاد يستطيع أن يقوم عن كرسيّه، فعرضتُ عليه استثمار محلّه النتِن والقديم، وإعطائه مبلغًا صغيرًا شهريًّا. وهو قبِلَ عرضي، فحوّلتُ المكان إلى محلّ يحتوي على جميع اللوازِم المُختلِفة بسعر مقبول، ليجِد الزبائن عندي كلّ ما يحتاجون إليه.
بدأتُ أنام في إحدى زوايا المحلّ، أوّلًا لأكون موجودًا بالقرب مِن بضاعتي العزيزة وأسهَر عليها حتّى لا يسرقها أحَد، وثانيًا لأنّني أرَدتُ الانفصال عن عائلتي التي لَم تعُد تعني لي شيئًا. حاوَلَ والِدايَ إرغامي على إشراك أخوَتي في المحل بتوظيفهم معي، لكنّني رفضتُ، فلقد تعِبتُ لوحدي ويحقّ لي وحدي الاستفادة مِمّا أجني. عندها، قطعتُ العلاقة بهم نهائيًّا.
مرَّت سنة بكاملها وصارَ لدَيّ زبائن كثر، ومنهم تجّار معروفون، وقرّرتُ تملّك المحلّ وتوسيعه. لِذا قدّمتُ عرضًا لصاحِب المكان، ذلك العجوز الفاشِل الذي لَم يفلَح في فعل ربع ما فعلتُه! عرضي كان مُغريًا لهكذا رجُل، لكن غير عادِل على الاطلاق، واستطعتُ حَمله على قبوله، مُستعمِلًا حِججًا رسمَت مُستقبلي المهنيّ، وكيفيّة تعاطيّ مع مَن استفَدتُ منهم لاحِقًا، أيّ طريقة غير شريفة أودَت بالكثير إلى الإفلاس.
وبعد أن صرتُ المالِك الحصريّ لتجارتي، إشترَيت المحلّ الموازيّ والآخَر مِن الجانب الثاني، واضِعًا لافِتة عملاقة تحمل اسمي بأحرف مُضيئة تبرزُ نجاحي. لَم أدعُ أهلي لِحفَل الافتتاح، فكنتُ أخجلُ منهم لأقصى درجة.
وحين بلغتُ الثامنة والعشرين مِن عمري، قرّرتُ الزواج، فاخترتُ صبيّة انتقَيتُها فقط لأنّها ابنة أحَد أكبَر تجّار المدينة وكان اسمها عايدة. دفَعَ والِدها تكاليف الفرَح بعد أن وضّحتُ له أنّني أُسدي له خدمة كبيرة بالزواج مِن ابنته، لأنّها كانت بالنسبة له حِملًا ثقيلًا بسبب إعاقة في رِجلها ولَم يقبَل بها أحَد. وتلك العرجة كانت عذري طوال سنوات لأُسيء معاملتها وتحقيرها. صحيح أنّها أعطَتني ابنًا، أيّ وريثًا ذكَرًا، لكنّ ذلك لَم يكن كافيًا. على كلّ الأحوال، مهما فعلَت عايدة، لَم أكن لأعتبِره كافيًا، ألَم أكن أقوى شابّ في العالم؟!؟ عاشَت زوجتي في ظلّي وخجِلتُ منها أمام الناس، لكنّني لَم أتأخّر عن الاستفادة مِن مال ومعارِف أبيها الذي لَم يستطِع رفض طلَب لي، أوّلًا لأنّني صهره وثانيًا لأنّه وجَدَ فيّ ابنًا حلمَ به طوال حياته.
إتّخذتُ لنفسي عشيقة، فكان يحقّ لي، على الأقلّ في نظري، أن أتمتعّ بجمال امرأة صحيحة القوام، وصرفتُ عليها الكثير وأغرقتُها بالهدايا لأُعزِّز رجولتي. أمّا بالنسبة لإبني، فانتظرتُ أن يكبَر لأهتمّ به، فقَبل ذلك لَم يعنِ لي شيئًا، فما حاجتي لولَد سوى لرؤية امتدادي فيه؟
قد تقولون إنّ أمثالي ليسوا موجودين سوى في الأفلام والقصص، إلّا أنّني واحِد مِن العديدين الذين داسوا على كلّ مَن وقَفَ في طريقهم إلى النجاح والشهرة والمال. لكن ما مِن أحَد يعترِفُ مثلي بأخطائه، وذلك خوفًا مِن المُحاسبة. إلّا أنّني اليوم بلغتُ نهاية عمري، وتذكّرتُ أنّ هناك مَن سيُحاسبُني على مسيرتي ويسألُني ماذا فعلتُ في حياتي. أجل، لقد عدتُ إلى ديني لكن ليس بإرادتي، بل بسبب صحوة ضمير.
كبُرَ ابني وبدأتُ أُلقِّنه أسُس حياتي، مع أنّ عايدة حاولَت أن تُبقيه طاهر القلب وتُبعده ولو معنويًّا عن تأثيري. لَم أسمَح لها بأن تستميل وحيدي، فطلّقتُها بعد أن اتّهمتُها بالخيانة. لَم يُصدّقني أحَد، لكنّ الطلاق حصَل واحتفظتُ بالحضانة الحصريّة وحرَمتُ ابني مِن أمّه، فهو كان لي، ولي وحدي!
ماتَ أبوايَ بفارِق أشهر عن بعضهما، ولَم أذهب إلى الدفن في المرّتَين، بل أرسلتُ الزهور إلى قبرهما لأتفادى كلام الناس مدّعَيًا السفَر، فكنتُ أعلَم أن أخوَتي سيفتعلون المشاكل إن ذهبتُ إلى الدفن، ولَم أرِد توسيخ سمعتي البرّاقة.
بدأتُ أتعلّق بإبني لأنّه كان بالفعل ذكيّ مثلي. لَم أحِبُّه فعليًّا، بل أحبَبتُ نفسي مِن خلاله لأنّه كان أجمَل نجاحاتي. لَم أرَ حزنه على بعده عن أمّه، أو وحدته مِن دون اخوة وأصدقاء، فأردتُه "صافيًا" مِن أيّ تأثير خارجيّ قد يُشوِّه صورته المُطابقة لي.
مع الزمَن، زدتُ ثراءً وجاهًا، فتزوّجتُ مُجدّدًا، لكنّني أبقَيتُ زوجتي الجديدة في شقّة مُنفصِلة عن ابني الذي وضعتُ له مُربيّة لتهتمّ به، حسب تعليماتي طبعًا. رفضتُ الانجاب مِن جديد، خوفًا مِن أن تأتي لي زوجتي بولَد أقلّ كمالًا مِن الأوّل. أعطَيتُها كلّ ما أرادَته إلّا الذرّيّة، وهي قبِلَت، إلى حين فضّلَت حرّيّتها على كلّ ما قدّمتُه لها. فلتذهب إلى الجحيم! فما حاجتي لها؟!؟ كنتُ قادِرًا على الحصول على أفضل نساء العالَم!
وحين بلَغَ إبني الثامنة عشرة، أوقفتُه عن التعلّم، فلِما يحتَاج إلى شهادة جامعيّة، وهي ورقة لا معنى لها في عالَم التجارة. هو أرادَ أن يُصبح محاميًّا فدمّرتُ أحلامه بلحظة. أوكلتُ إليه إحدى محلّاتي التي انتشرَت في البلاد واهتمَمتُ بباقي الأعمال.
بعد حوالي الخمس سنوات، قتَلَ ابني نفسه بعد أن تناوَل عدَدًا كبيرًا مِن الأقراص المنوّمة. وأوّل شيء شعرتُ به لَم يكن الحزن، بل الخذلان. إعتبرتُه إنسانًا ضعيفًا بعد أن اتّضَحَ لي أنّه يُشبه أمّه ولا يُشبهُني كما إعتقدتُ. دفنتُه ونسيتُه، وأكملتُ حياتي وبحثي عن زوجة تُعطيني أفضل منه. أجل، كنتُ رجُلًا قبيحًا لِدرجة لا توصَف! لكنّني انشغلتُ بأعمالي لِدرجة أنّني نسيتُ الانجاب، فمرّ العُمر مِن دون أن أدري. على كلّ الأحوال، مالي كان يكفيني، ولَم أعُد بحاجة إلى مَن يأخذ الشعلة عنّي بعد أن اعتقَدتُ أنّني خالِد!
... إلى حين رأيتُ ذلك الحلم... حلم غريب عجيب سكَنَ عقلي وقلبي حتّى اليوم.
كنتُ غارقًا في النوم، وإذ بي أسمَع صوتًا يُنادي: "بابا! بابا!"، فنظرتُ بعيدًا لأرى ابني وهو يغرقُ في بركة ماء سوداء. إقترَبتُ منه ورأيتُه يحمل في يدَيه مرآة مُرصّعة بالذهب والأحجار الكريمة. إقتربتُ أكثر منه، غير آبِه لخوفه وهو يغرَق، بل لأتفحّص تلك المرآة الجميلة والثمينة، وإذ بي أرى صورتي فيها، صورة قبيحة ومُشوّهة، صورة شيطان رهيب. ولشدّة خوفي، تراجَعتُ بضع خطوات إلى الوراء، لكنّ المرآة لحِقَت بي وهي لا تزال بين يدَي ابني. ثمّ نظرتُ إلى وجه وحيدي، ووجدتُ نورًا ساطِعًا ونقيًّا ينبعِث منه، ودموعًا كحبّات الماس تتدحرَج مِن عَينَيه. عدتُ ونظرتُ إلى المرآة، وبقيتُ أرى وجهي الفظيع بقباحته. وآخِر شيء قالَه لي ابني قَبل أن يغرقَ تمامًا في تلك المياه السوداء، كان: "هذه صورتكَ الحقيقيّة... تُبْ إلى الله قَبل فوات الأوان!".
صحَوتُ مِن النوم وأنا أتصبَّب عرَقًا، وركضتُ أشرَب بعض الماء، لأنّ جسدي كان يحترِق مِن الحرّ مع أنّنا كنّا وسط فصل الشتاء. طردتُ مِن عقلي ذلك الحلم البغيض وهزئتُ مِن خوفي لرؤيته. لكن استحالَ عليّ العودة إلى النوم في تلك الليلة... وفي الليالي التالية. قصدتُ الأطبّاء وخسِرتُ صحّتي وصوابي، فلَم أكن قاِدرًا على النوم سوى ساعات قليلة أثناء النهار، ولكن أبدًا خلال الليل.
وفي آخِر المطاف، إستشَرتُ رجُل دين. تفاجأتُ بنفسي، فحتّى ذلك الحين لَم أعِر أيّ أهمّيّة للدين، بل اعتبَرتُه لِصغار العقول. وبدأتُ أقرأ في كتابنا الكريم مُكتشِفًا أخيرًا الحبّ ومعناه. ومع كلّ صفحة قرأتها، كانت دموعي تملأ عَينَيّ وقلبي يشِعّ بنور لَم أشعرُ به مِن قَبل. وفهمتُ فظاعة ما فعلتُه، لكن أيضًا إستحالة العودة إلى الوراء لإصلاح أخطائي. وكلّ ما تبقّى لي كان مواجهة نفسي الفظيعة، ومُناجاة ربّي ليلًا نهارًا. قصَدتُ عايدة لأقولَ لها إنّني تغيّرتُ، لكنّني علِمتُ أنّها ماتَت حزنًا على ابننا، وأدركتُ أنّني لن أحصل أبدًا على مُسامحتها. رحتُ إلى أخوَتي الذين طرَدوني وأولادهم وشتَموني. هم لَم يسمحوا لي حتّى أن أشرحَ لهم عن سبب مجيئي إليهم. ثمّ بعتُ محلّاتي وأعطَيتُ ثمنها للمؤسّسات الخيريّة وكلّ مَن اعتبَرتُه مُحتاجًا، مُبقيًا لنفسي ما قد أحتاجُ إليه لأعيش.
أعمالي الخيريّة أعطَتني بعض الفرَح والرجاء، لكنّني أعلَم أنّ ذلك غير كافٍ لأمحوَ أخطائي الفظيعة. كلّ ما آملُه، هو أن يكون الله رحومًا معي ولو بعض الشيء، ويُبعِد عنّي نار جهنَّم.
حاورته بولا جهشان