منذ ما أتذكّر، لبسَني خوف لا يوصَف مِن النار، فكنتُ أبدأ بالبكاء حين كنتُ صغيرة كلّما رأيتُ شيئًا مُشتعِلًا، أم بالرجفان عندما صِرتُ أكبَر. حتّى المشاهِد على التلفاز حيث يُعرَض حريق مُلتهِب، كانت تُثيرُ فيّ الخوف والقلَق. لَم أفهَم طبعًا سبب تلك المشاعِر القويّة، وردَدتُها إلى ردّة فعل طبيعيّة نوعًا ما، فمَن يُحِبّ أن يحترِقَ؟ إلّا أنّ زوجي رأى أنّه مِن الأفضل لو أقصد أخصّائيًّا نفسيًّا، بعد أن صِرتُ أتفقّدُ مئة مرّة إن كان الفرن مُطفأً أو إذا كانت سيجارته لا تزال مُشتعِلة في المِنفضة. فهو لاحَظَ أنّ ردّات فعليّ ليست سليمة، وخافَ عليّ مِن أن تستاء حالتي وتؤثِّر على حَملي، فأنا كنتُ في شهري الثامِن، وهي مرحلة صعبة ودقيقة.
زرتُ أخصّائيًّا وشرحَتُ له مِمّا أشكو، وهو بدأ يسألني بعض الأسئلة البديهيّة. ثمّ انتقَلنا إلى مرحلة طفولتي، الأمر الذي شكّلَ لي مُشكلة. فالحقيقة أنّني لَم أكن أذكُر الكثير عن تلك المرحلة مِن حياتي، خاصّة المُتعلِّقة بأبوَيّ، فلقد ماتَت المسكينة أمّي بعد ولادتي بأيّام وتزوّجَ أبي مِن رُبى خالتي لتُربّيني، كَونها امرأة قريبة منّي وليست غريبة عنّي. لكنّ ذكرياتي الفعليّة لَم تكن تبدأ إلّا منذ صِرتُ في الخامسة مِن عمري، أيّ بعد سنتَين مِن سفَر أبي وزوجته وتركهما لي عند جدّتي. هناك عشتُ سعيدة مع العجوز وزينة خالتي الثانية، ولَم أعرِف شيئًا عن الذَين تخلّيا عنّي. لَم أتأثّر كثيرًا، لأنّه قيلَ لي إنّهما سافرا بقصد العمَل، وإنّهما سيعودان يومًا ومعهما هدايا جميلة لي. كنتُ مُحاطة بالحبّ والحنان وكبرتُ بهناء، وحين صرتُ قادِرة على فهم الأمور أكثر، أدركتُ أنّ الهدايا لن تأتي، لأنّ أبي وزوجته لن يعودا بل سيعيشان في الغربة بصورة دائمة.
عرَضَ عليّ الأخصّائيّ أن أخضَعَ لجلسة تنويم مغناطيسيّ، كي يصل إلى تلك الفترة الغامِضة مِن حياتي، أي قَبل سنّ الخامسة، لأنّه كان مُتأكّدًا مِن أن السرّ ولاحقًا العلاج، يكمُنان هناك. خفتُ كثيرًا ومانَعتُ بقوّة، فقد خلتُ أنّ التنويم المغنطيسيّ يجري كما في الأفلام، أيّ أنّني سأكون خاضِعة تمامًا للمُعالِج وأنفِّذُ كلّ ما يأمرني به. إلّا أنّ الحقيقة كانت مُغايرة، فلن أكون نائمة بل مُستلقية وصاحية لكن في وضع مُرتاح جدًّا، بينما هو يقودُني بصوته إلى ذلك السنّ اليافِع حيث بدأ خوفي. شارطتُه أن يكون زوجي حاضِرًا فقبِلَ.
يوم رحتُ وزوجي إلى عيادة المُعالِج كنتُ خائفة لأقصى درجة، لكن حين بدأنا الجلسة شعرتُ بارتياح وانسياق فعليّ ومُطمئن لصوت الأخصّائيّ. ومعرفتي أنّ زوجي معي قد سهَّلَ اندماجي في الجلسة وعودتي تدريجًا إلى الوراء، أيّ إلى مرحلة طفولة منسيّة.
تفاجأنا جميعًا حين تذكّرتُ أنّ في سنّ الثالثة، تعرّضتُ لحريق هائل حدَثَ في البيت الذي كنتُ أعيشُ مع أبي ورُبى. وتذكّرتُ أيضًا أنّ رجُلًا في لباس شبيه بالذي يرتديه رجال الأطفاء، قد حمَلَني مِن بين ألسنة النار وأخرجَني بسرعة مِن المكان. في الواقع، لَم يذكُر أحَد لي أو أمامي مسألة الحريق الذي كان حدَثًّا لا يُنتسى، فاستغربتُ كثيرًا. وأكَّدَ لي الأخصّائي أنّ خوفي مِن النار سببه ذلك الحريق، وأنّ علاجي سيكون سريعًا بعد أن اكتشَفنا المصدَر.
للحقيقة لَم يعُد يهمّني وزوجي موضوع خوفي مِن النار، بل شغَلَ بالنا أمر التكتّم الذي لفَّ تلك الحادثة. وكان عليّ فتح الموضوع مع خالتي زينة، بعد أن رحلَت جدّتي مِن هذه الدنيا منذ سنوات. ولَم أكن قادِرة على سؤال أيّ مِن عائلة أبي، فهو كان ولَدًا وحيدًا ويتيم الأبوَين منذ زمَن بعيد.
رحتُ وزوجي لزيارة خالتي التي ربَّتني والتي بقيَت عزباء ربّما مِن أجلي، وهي رحبَّت بنا كعادتها عندما نقصدها. وبعد أن اطمأنَّت على مسار حَملي وصحّة الجنين، قدّمَت لنا العصير والحلوى. لكنّها تفاجأت بي كثيرًا عندما سالتُها:
ـ خالتي... لماذا لَم أعرِفُ بمسألة الحريق الذي شبّ في بيت أهلي حين كنتُ صغيرة؟
ـ ماذا؟ حريق؟ لا أدري... لا أعرِف شيئًا عن... حريق، تقولين؟ لا أتذكّر تمامًا... آه... ربّما... أجل، أجل... حريق بسيط.
ـ لا يا خالتي، بل حريق كبير. فلقد أتى رجال الإطفاء وأحدَهم خلصَّني مِن الموت.
ـ مَن قال لكِ ذلك؟ فلَم يتبقَّ...
ـ لَم يتبقَّ ماذا أو مَن؟ أُريدُ جوابًا على سؤالي الأساسيّ: لماذا لَم أعرِف به؟
ـ لقد نسيتُ أن أُخبركِ، وليس أكثر.
ـ أُريدُ عنوان بيتنا القديم.
ـ لا!
ـ ماذا تخفين عنّي؟!؟ إسمَعي يا خالتي، هناك أمور حجبَها عقلي عنّي، وصحّتي العقليّة على المحكّ. هل تُحبّيني؟
ـ أنتِ بمثابة ابنتي! فلقد ربَّيتُكِ وجدّتكِ!
ـ إذًا عليكِ الخوف على صحّتي العقليّة، خاصّة أنّني سأصبحُ أمًّا بعد شهر. أُريدُ رؤية المكان الذي وُلِدتُ فيه وسكنتُه في سنواتي الأولى.
وصلتُ وزوجي إلى العنوان الذي أعطَته لنا خالتي، وتفاجأنا بالمنظر التي كان أمامنا. فالبيت كان مُغطىً بكمّيّة مِن العشب البرّيّ اليابِس، وحيطانه سوداء مِمّا بدا لنا كأنّه حريق ضخم. إسترجعتُ الصوَر التي عادَت إلى رأسي عند المُعالج، فتأكّدتُ مِن أنّ تلك الذكريات المُخيفة حصلَت حقًّا. لكنّ المُشكلة كانت تكمُن في أنّني لَم أرَ أيًّا مِن أبي أو زوجته في تلك الذكريات بل فقط رجُل الأطفاء. أين كانا في تلك الأثناء ولِما لَم يُخلّصني أحدهما؟ بكيتُ بعد أن أدركتُ أنّ أبي وزوجته هما بالفعل غريبَين عنّي وأنّهما بعد سفَرهما إلى الخارج نسيا أمري تمامًا. إلى ذلك الحين لَم يهمّني الأمر، فاعتبرتُ نفسي ابنة جدّتي وخالتي زينة، لكنّ الآن تغيّرت كلّ المُعطيات.
كنتُ قد ترّجلتُ وزوجي مِن السيّارة وجُبنا في الحديقة المتروكة منذ أكثر مِن عشرين سنة، حين سألَتنا إمرأة مِن بعيد ماذا نريد ومَن نكون. لَم أشأ إطلاعها على هوّيتي، فما النفع؟ بل قلتُ لها إنّنا نبحث عن بيت نشتريه حين يولَد جنيننا. وأجابَت المرأة بعد أن اقتربَت منّا:
ـ أعيشُ في البيت المُجاوِر ورأيتُكما هنا... إنشغَلَ بالي للحقيقة، فلا أحَد يأتي إلى البيت منذ ذلك الحريق الهائل. لا أدري إن كان مِن الحكمة شراؤه، فهو بحاجة إلى ترميم مِن الداخل والخارج.
ـ حريق؟ متى حصَلَ ذلك؟ وهل تأذّى أحد؟
ـ منذ أكثر مِن عشرين سنة... كان يسكن فيه رجُل وزوجته وابنتهما الصغيرة... بالفعل، كانت الصغيرة ابنة الرجُل والمرأة خالتها، أخت أمّها، فالمسكينة...
ـ وليلة الحريق؟
ـ كان الرجُل يحضُر اجتماعًا في مكان عمله، بينما كانت زوجته تزورُ جيراننا في الحَيّ، أمّا الصغيرة فكانت نائمة لوحدها في البيت. يُقال إنّ رائحة الدخان بدأت تصل إلى بيت الجيران بعد فترة قصيرة مِن وصول الخالة إليهم، فهم لفتوا إنتباهها إلى الأمر لكنّها لَم تبدُ مشغولة البال على الاطلاق، بل عرضَت عليهم اللعِب بالورق. ثمّ بدأ الدخان يتصاعَد، فأرادَ الجيران طلَب الدفاع المدنيّ إلّا أنّ الخالة هزِئَت منهم وألحَّت على اللعِبَ بالورق. وأفتخِر بأن أكون التي طلبَت رجال الأطفاء، لأنّني رأيتُ مِن شبّاكي ألسنة النار تتعالى في السماء. تمّ إخراج الصغيرة مِن البيت وتسليمها إلى خالتها التي بقيَت عند جيرانها، بينما تهافَتَ الكلّ لمعرفة ما يحصل. أمر غريب للغاية.
ـ وماذا عن الأب؟
ـ حين اتّصَلَ به رجال الاطفاء، ترَكَ طبعًا اجتماعه وركَضَ ليرى إن كانت عائلته وبيته بخير، وقال له الجيران ما جرى بالتفاصيل. ثمّ أخَذَ زوجته وابنته في سيّارته، وكانت تلك آخِر مرّة نرى أيًّا منهم.
عانقتُ المرأة التي كانت السبب بنجاتي، وهي تفاجأت بي كثيرًا لأنّها لَم تفهَم لماذا عانقتُها، ثمّ رحَلنا. وقال لي زوجي ونحن في السيّارة: "خالتكِ هي التي أضرمَت النار... وهي عالِمة تمام العلم بأنّكِ قد تموتين في البيت... أنا آسِف حبيبتي". لَم أجِب، فكان مِن الواضح أنّ رُبى لَم تكترِث لمصيري، حتّى بعدما علِمَت أنّ البيت الذي أنا موجودة فيه يحترِق. لكن هل هي حقًّا مَن افتعلَت الحريق؟ ولماذا؟ لِتقتلُني؟!؟ هذا لا يُعقَل، فهي في آخِر المطاف خالتي، أخت أمّي!
عُدنا إلى خالتي زينة، وهي كانت تعلَم تمام العلم أنّ ذهابنا إلى البيت المحروق سيُولِّد في قلبي أسئلة كثيرة. فبعد أن أطلعتُها عمّا قالَت لنا الجارة، بدأَت خالتي أخيرًا بالكلام:
ـ كلّنا عرَفنا أنّ أختي هي التي تسبّبَت بالحريق، فتصرّفاتها دلَّت على ذلك بوضوح. وذُهِلنا لهذا الكمّ مِن الأذيّة تجاه فتاة في الثالثة مِن عمرها وهي ابنة أختها المتوفّاة! لكنّ أختي كانت منذ البدء مولَعة بأبيكِ وتغارُ مِن أمّكِ، لأنّ والدكِ جاء ليخطب إحداهما، إلّا أنّه وقَعَ تحت تأثير والدتكِ، فطلَبَ يدَها. حاولَت رُبى إخفاء امتعاضها قدر المُستطاع، واغتنمَت فرصة موت أختها وهي تولدُكِ لتعرض أخذ مكانها، الأمر الذي طمأنَ بال الجميع عليكِ. إلّا أنّ حبّ أبوكِ لكِ كان كبيرًا، وأتصوّر أنّه رأى فيكِ صورة عن أمّكِ، صورة أرادَت رُبى محوها إلى الأبد. هذا تفسيري الشخصيّ، طبعًا. على كلّ الأحوال، وضَعَكِ أبوكِ عندنا وأخَذَ زوجته بعيدًا وانتهى الموضوع.
ـ أين أبي، أُريدُ أن أراه! أريدُ أن أعرف منه كلّ شيء!
ـ أبوكِ فعَلَ ذلك مِن أجلكِ، فهو سلّمكِ لِمَن يرعاكِ ويحميكِ مِن كلّ أذى.
ـ أين هو؟ أين خالتي رُبى؟
ـ لا أحَد يعلمُ شيئًا عنهما، صدّقيني، فلقد اختفيا كحبَّتَي ملح في المُحيط، فالبلَد الذي قصداه كبير للغاية.
ـ كان بإمكانه أن يسأل عنّي عن بُعد! فهناك وسائل تواصل مُتطوّرة وعديدة الآن.
ـ لدَيّ تصوّر... سمَيه إحساسًا لا يرتكِز على أيّ دليل حسّيّ.
ـ ما هو؟
ـ أظنّ أنّ أباكِ أخَذَ العدالة بين يدَيه في ما يخصّ رُبى.
ـ لن آسَف عليها، فهي تستحقّ أقصى عقاب! لكنّه لَم يتّصل بأحَد بعد ذلك!
ـ ... وربّما هو فضّلَ عدَم دفع ثمَن عقابه لزوجته بدخول السجن وتلطيخ سمعتكِ إلى الأبد... فليس هناك مِن تفسير آخَر.
ـ أتعنين أنّه... رحَلَ هو الآخَر؟
ـ الله وحده يعلَم!
حاورتها بولا جهشان