نار الإنتقام

كان لا بدَّ لي أن أنتقِمَ مِن هنادي، أخت زوجي، بعد الذي فعلَته بي. فمِن كثرة كرهها لي، أقنعَته بأنّ لي عشيقًا. وهو، مِن دون أن يتحقّقَ فعليًّا مِن الأمر، إكتفى بتطليقي وتوسيخ سُمعتي. مِن ناحيتي، علِمتُ على الفور مَن قام بتدمير زواجي، فكانت هنادي قد أطلعَتني مُسبقًا على ما ستقوله لخالِد، لكنّني لَم أصدّقها بل اعتبرتُ ذلك مُجرّد تهويل.

خلافي مع أخت زوجي يعود إلى ما قبل الزواج، فهي كانت صديقتي وتعرّفتُ إلى خالد مِن خلالها وببركتها... إلى أنّها صارَت تتعاطى بأمورنا الشخصيّة وتطلب مُرافقتنا أينما رحنا. في البدء لَم أرَ مِن مانعٍ لذلك، حتى صارَ الأمر لا يُحتمَل على الإطلاق. تشاورتُ وخالد في الموضوع ووافقَني الرأي بأنّ أخته لن تتراجع. لِذا قلتُ لها في إحدى المرّات إنّني أودّ أن أكون لوحدي مع خطيبي لأتعرّفَ إليه أكثر ونمضي وقتًا خاصًّا بنا. إلا أنّها نظرَت إليّ بشراسة وصرخَت بي:

 

ـ أنا مَن عرَّفتكِ إليه! ومِن حقيّ أن...

 

ـ أنا أشكرُكِ على ذلك يا هنادي لكن عليكِ استيعاب أمر مهمّ: أنتِ لستِ مَن تُقرّرين ما عليّ فعله أو قوله أو أين سألتقي بخالد ومتى. ولا ينبغي علينا اصطحابكِ معنا في كلّ مرّة.

 

ـ بلى! إسمعي يا... صديقتي... كما عرّفتُكِ إليه بإمكاني حمله على ترككِ!

 

ـ ليست الأمور بهذه السهولة. إسمعي، لا أُريدُ افتعال المشاكل معكِ، بل أحبُّكِ كثيرًا. لنُبقِ صداقتنا محصورة بيني وبينكِ واتركي أمور الحبّ لي ولخالد. إتّفقنا؟

 

ومنذ ذلك اليوم، أقسمَت هنادي على إتعاسي.

بعد الزواج بأيّام قليلة، طلَبَ منّي خالد أن أتصالَح نهائيًّا مع هنادي، فالحقيقة أنّ زوجي كان مُتعلّقًا كثيرًا بها كونها أخته الوحيدة. ولأنّني أُدركُ ذلك ولا أُريدُ إتعاس الذي اخترتُه، تصالحتُ معها. كنتُ أعي أنّ تلك المخلوقة قد قبَّلَتني كما قد تفعل أفعى، أي بِخبث، لكنّني لعبتُ اللعبة. لَم أكن أعلَم آنذاك أنّها ستأتي لتعيش معنا بصورة دائمة ولتُنكّد عليّ حياتي.

فذات يوم رأيناها قادمة إلى بيتنا ومعها عدد لا يُحصى مِن الحقائب وهي تذرفُ الدمع بغزارة. ألقَت بنفسها في أحضان زوجي وطلبَت منه اللجوء إليه بذريعة عدَم تمكّنها مِن البقاء عند أهلها لكثرة المشاكل الموجودة بينهم. وهو قَبِلَ بسرعة لَم أتصوّرها ممكِنة ومِن دون أن يستشيرَني. إنتابَني غضبٌ لا يوصَف ورحتُ أبكي في الغرفة. بعد دقائق لحِقَت بي هنادي ووقفَت عند الباب مُبتسمة وقالت:

 

ـ لا أحد يتخلّصُ منّي يا... صديقتي... سأٌعلِّمُكِ معنى الوفاء.

 

ورحلَت قبل أن أٌجيب. كنتُ سأؤكّد لها مُجدّدًا أنّني لَم أخُن صداقتها أو أنكُر جميلها بتعريفي إلى خالد. إلا أنّها فرَضَت نفسها علينا بطريقة مُزعجة للغاية. عاتبتُ زوجي لأنّه لَم يأخذ بإذني قبل استقبال أخته، وهو أجابَني: "هذا بيتي".

لن أدخُل في تفاصيل مكيدة هنادي لي، بل سأكتفي بالنتيجة وهي طرد زوجي لي مِن المنزل وتطليقي بعد أقلّ مِن شهر. بكيتُ كثيرًا لأنّني ظُلِمتُ، فكان مِن الواضح أنّ خالد يحبّ أخته أكثر منّي وأنّ المشاكل كانت ستستمّر إلى ما لا نهاية.

سمعتُ كلامًا مُجرّحًا ومُبطّنًا مِن ذويّ لتُهمة الخيانه هذه، إلا أنّني بقيتُ صامدة، شاكرةً ربّي أنّني لَم أُنجِب مِن خالد، وإلا لتربّى أولادي على الإعتقاد بأنّ أمّهم خائنة وفاسدة أخلاقيًّا. عدتُ إلى وظيفتي في المصرف التي تركتُها قبل أشهر لأتزوّج.

وارتسمَت في بالي فكرة واحدة شغلَتني ليلاً نهارًا، وهي الانتقام مِن تلك الأفعى التي دمَّرَت زواجي وشوّهَت سُمعتي إلى الأبد. لكن كيف؟ هذا ما كان عليّ إيجاده.

مرَّت سنة بكاملها وأنا أفكّر وأبحثَ وأُحلِّل، إلى أن وجدتُ الثغرة التي كانت ستُمكّنُني مِن الوصول إلى هنادي.

فلقد وجدتُ عملاً في المصنع نفسه التي تعمَل فيه هنادي كمسؤولة مستودع، لكن بِمنصب إداريّ بفضل شهادتي وخبرتي التي جمعتُها قبل زواجي. فأسرعتُ بِترك منصبي الحاليّ وبِبدء الدوام في قسم المُحاسبة. وهناك، إطّلعَتُ سرًّا على ملَف هنادي وعلِمتُ عنها كل ما كانت تخفيه، أي راتبها وفرَصها ومشاكلها الصحيّة التي تغيّبَت عن العَمل بسببها. بقيتُ ضمن جدران مكتبي كي لا تعلَم هنادي أنّني صرتُ قريبة أمتارًا قليلة منها. لَم يعرف أحدٌ بأنّني كنتُ ذات يوم زوجة أخيها لأنّني عدتُ إلى إسمي ما قبل الزواج.

بدأتُ أتودّدُ للمدير كي يستلطفُني لدرجة عدَم رفض أيّ طلَب لي، مع أنّني لَم أكن أعلَم بعد ما الذي سأفعله بتلك المرأة. وبعد أن صارَ جميع أفراد الإدارة يكنّون لي مودّة خاصّة، قرّرتُ بدء الخطّة التي أردتُها طويلة ومؤلِمة. هدَفي كان زعزعة مصداقيُة أخت زوجي السابق.

أوّل شيء عملتُه، هو انتظار موعد جردة المستودع وتقديم هنادي أرقامها، ثمّ رحتُ خلسة أسحَب ذلك الملفّ مِن مكانه بعد أن أرسلتُ الموظّف إلى مكينة القهوة البعيدة عن مكتبه. بعد عودته، كنتُ قد أخفَيتُ قسمًا مِن الجردة وبذلك صارَ الملفّ ناقصًا وهنادي في ورطة.

نتيجة هذا التحرّك جاءَت بعد أيّام، أيّ حين قامَ قسم المُحاسبة بمقارنة مبيع منتوجات المصنع بالبضاعة الباقية. واتّضَحَ أنّ هناك كمًّا مِن البضائع الناقصة. بمعنى آخر، بان الأمر وكأنّ أحدًا سرقَ البضاعة أو باعَها مِن دون إدخال المال إلى المصنع. ومَن المسؤول عن المستودع وقامَ بالجردة؟ هنادي بالطبع، التي استنكرَت عاليًا وأقسمَت وأنكرَت وبكَت. رأيتُها في تلك الحالة الهستيريّة عن بُعد، مِن خلال نافذة المُدير، وامتلأَ قلبي بالسعادة. لكن فرحَتي كانت قصيرة الأمَد، إذ قامَت هنادي بعد أيّام قليلة بجردة أخرى وتمّ التأكّد أخيرًا مِن وجود كلّ البضائع. إلا أنّ تلك الحادثة جلبَت الأنظار إلى مسؤولة المستودع، واستغلَّيتُ الوضع لأبثَّ شائعة مفادها أنّ هنادي "قد" تكون ردَّت البضاعة التي سرَقتها بعد اتهّامها مُباشرةً لإبعاد الشبهات عنها. وعرِفتُ لِمَن أروي تلك النظريّة، فهناك دائمًا وفي كلّ مكان عنصر يُكثِر الكلام ويهوى نقل الأخبار. وسرعان ما وصلَت الشائعة إلى المُدير الذي أوكلَ أحدًا بمُراقبة هنادي عن كثب.

كان مِن الواضح أنّ حادثة الجردة قد أحدثَت قلقًا شديدًا لدى هنادي وقد علِمتُ ذلك مِن زميلاتها، إذ أنّها صارَت مُنعزلة ودائمة الحزن والتوتّر. هل أثارَ ذلك شفقتي؟ بالعكس تمامًا! فتلك المخلوقة الشرّيرة دمّرَت زواجي، وصِرتُ بسببها إمرأة طلّقَها زوجها بعد فترة قصيرة، الأمر الذي سيولّدُ الريبة والإستغراب لدى أيّ رجل قد ينوي ربط حياته بي.

تلذّذتُ بكآبة هنادي لفترة مِن الزمَن، وقَبل أن ينسى الجميع أنّها قد تكون سارقة ونصّابة، قرّرتٌ ضربها ضربةً قاضية. للحقيقة، كنتُ أخشى ضمنًا اليوم الذي ستقَع فيه هنادي، ليس بسبب صحوة ضميري، بل لأنّني سأفقدُ معه الهدَف الذي يُغذّي نار حقدي وأعودُ إلى حياتي ما قَبل توظيفي في المعَمل. لكن ما مِن مفرّ لِما كنتُ أنوي القيام به إن كنتُ أُريدُ الإنتقام.

فكتبتُ بضع كلمات على ورقة بعد أن انتبهتُ طبعًا إلى تغيير خطّي، وحملتُها بجيبي بإنتظار إيجاد طريقة لوضعها في خزانة هنادي الموجودة في غرفة قرب المستودع. وكان مفادها أنّ "أحدًا" يُملي على هنادي سرقة كميّة مِن البضائع مُقابل مبلغ كببر مِن المال. وبهذه الطريقة ستثبتُ التهمة عليها كليًّا.

إنتظرتُ أن تكون صديقتي السابقة مُنهمكة في المستودع، ونزلتُ إلى الخزانات حيث كلّ عامل وعاملة لدَيهم مكانهم الخاص لوضع أمتعتهم. والذي كنتُ علِمته مُسبقًا، هو أنّ أحدًا لا يُقفلُ خزانته، أوّلاً لكثرة الأمان في المصنع، وثانيًا لقلّة قيمة الموجودات في تلك الخزائن التي كانت تقتصرُ على الملابس والأحذية.

وجدتُ خزانة هنادي، فكان إسمها مكتوبًا عليها، ولحظة ما فتحتُها، ظهَرَت الأفعى أمامي صارخةً:

 

ـ ما الذي تفعلينَه بخزانتي؟!؟ وما الذي تفعلينَه في المصنع؟!؟

 

ـ أعمَلُ هنا يا عزيزتي... وهل لدَيكِ مانع؟

 

ـ لا... وماذا بشأن وجودكِ قرب خزانتي وفتحها؟!؟ هل ذلك مِن مهام وظيفتكِ!

 

ـ جئتُ أُنهي ما بدأتُه، أي رؤيتكِ وأنتِ تُطرَدين كما طُرِدتُ مِن قِبَل زوجي بسببكِ، فأنا التي تلاعِبَت بملفّ جردتكِ!

 

ـ وتُخبريني ذلك بكلّ بساطة؟ ألا تخافين أن أشي بكِ عند المدير؟!؟

 

ـ لن يُصدّقكِ فهو يؤمِنُ بي كلّيًّا... فسيرتي نظيفة على خلاف سيرتكِ... لا تخافي، فلقد فكّرتُ بكلّ شيء.

 

ـ كَم تغيّرتِ... كنتِ إنسانة هادئة ومُحبّة وبريئة.

 

ـ الفضل يعود إليكِ يا هنادي... لقد تعلّمتُ منكِ التخطيط والمكر والأذيّة.

 

ـ إذًا تعترفين بأنّكِ صرتِ ماكرة ومؤذية... وأنّ قلبكِ صارَ مليئًا بالحقد والغضب.

 

ـ أجل!

 

ـ وأنّكِ صِرتِ مثلي تمامًا.

 

وفي تلك اللحظة رأيتُ سواد قلبي، وفوجئتُ بالأمر لدرجة أنّني لَم أعُد قادرة على الكلام. إبتعدتُ ببطء عن الخزانة وعن هنادي التي أصبحَت بالنسبة لي وكأنّها تحملُ وباءً مُعديًا، وعدتُ أدراجي. جلستُ في مكتبي لوهلة أفكّرُ بالذي حدَثَ وقيلَ، ومِن ثمّ دخلتُ مكتب المدير لأُقدّمَ استقالتي لسبب إخترعتُه. جمعتُ أغراضي بسرعة وتركتُ المصنع مِن دون أن أودّعَ أحدًا.

بكيتُ لأيّام على الذي فعلتُه وعلى الذي تحوّلتُ إليه. فعلى خلاف ما اعتقدتُه، نار الإنتقام لَم تكن لذيذة على الإطلاق بل مُدمِّرة للروح. كيف حصَلَ أن تبدَّلتُ لهذه الدرجة؟ هل لأنّ رجلاً تافه تركَني؟ ربمّا كان عليّ أن أشكرَ هنادي على الذي فعلَته بي، لأعرف أنّ خالد ليس ولن يكون الإنسان الذي أودّ تمضية باقي حياتي معه.

أمضَيتُ أسابيع مؤلمة ومِن بعدها تحسّنتُ حين أدركتُ أنّني لَم أخسِر نفسي بعد، وأنّ بإمكاني استرجاع خِصالي الحميدة وطبعي المُسالم. فكنتُ قد رأيتُ بعَينَيّ كيف أنّني تخطّيتُ الخط الذي يفصلُ بين الخير والشرّ، وأخافَني المشهد إلى أقصى حدّ.

وجدتُ وظيفة أخرى أحبَبتُها وتصادقتُ مع الجميع، هذه المرّة مِن دون غاية أو منفعة، وبدأَت الحياة تبتسمُ لي مِن جديد. فهناك موظّفٌ لطيفٌ ووسيمٌ ينظرُ إليّ بإعجاب. ومع أنّني لا أنوي الإرتباط في الوقت الحاضر، فإنً مُجرّد فكرة وجود مُعجَب بي تكفيني، فذلك يعني أنّ قلبي قادرٌ بعد على الخفقان مِن أجل أحد.

إضافة إلى ذلك، لَم يعُد يهمُّني أمر خالد أو هنادي وما يحصلُ أو قد يحصلُ لهما، فهما صارا مِن الماضي نفسه الذي وضعتُه ورائي بعد أن كادَ أمر انتقامي أن يُكلّفَني ذاتي. فروحي أثمَن مِن أن أخسرها على هكذا أناس.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button