لماذا يُحاربُنا الناس حين نقومُ بما يُملي علينا ضميرنا بداعي الإنسانيّة والمحبّة؟ هل لأنّهم يحسّون بالنقص تجاهنا ونُشعرهم، مِن غير قصد، بأنّهم مخلوقات صغيرة النفس؟ فليتركونا بسلام بدلاً مِن إيذائنا!
أحداث قصّتي تدورُ حين كنتُ لا أزال شابًّا مُفعمًا بالحياة والحيويّة، فأنا اليوم عجوز وضعيف البُنية. وفي تلك الحقبة، عمِلتُ في إحدى الشركات كساعٍ بسيط، فلَم أحصَل على شهادات علميّة تخوّلُني إيجاد مركز أفضل بسبب فقرنا العائليّ. لَم أتذمَّر يومًا بل دخلتُ منذ صغري مُعترك العمَل، لأُساعد ذويّ على اجتياز محنتهم.
كنتُ سعيدًا في تلك الشركة إذ أنّ الجميع كان يُعاملُني بلطف، الأمر الذي زادَ مِن حماسي واندفاعي لِتلبية طلباتهم مهما كانت. وهكذا طلبَني المُدير، الذي كان أيضًا ابن السيّدة نجوى صاحبة الشركة، لأنقلَ بعض الأثاث مِن بيتها إلى بيته. لَم أرفض له ذلك الطلب الذي لَم يكن ضمن مواصفات عمَلي، ورحتُ وبعض العمّال إلى منزل السيّدة لآخذ ما عليّ نقله.
تفاجأتُ بشخصيّة صاحبة الشركة، إذ أنّني لَم أرَها مِن قَبل بسبب كونها مُقعدة بعد أن أُصيبَت بأزمة قلبيّة. فهي كانت، بالرّغم مِن إعاقتها، مليئة بالحيويّة وواثقة مِن نفسها. إلى جانب ذلك، رأيتُ في عَينَيها نظرة غريبة تجاهي، وكأنّها تُحاولُ معرفتي أكثر. وقَبل أن أترك بيتها مع باقي العمّال، طلبَتني إلى المطبخ حيث أعطَت الأوامر لتحضير الكيك والعصير لنا. إستغرَبتُ كثيرًا حين قالَت لي السيّدة: "عُد مساءً، أريدُ التكلّم معكَ". قالَت ذلك بصوت خافِت وكأنّه سرّ بيننا. خرجتُ مِن المكان مُربكًا ولكن مُصرًّا طبعًا على تلبية الدعوة.
أخبرتُ زوجتي بالذي دارَ، واستغرَبنا سويًّا ما قد تُريدُه منّي تلك العجوز الثريّة.
قرعتُ جرَس بيت السيّدة نجوى الفخم، وفتحَت لي خادمة أدخلَتني إلى صالون كبير حيث انتظرتُ لبضع دقائق. دخلَت صاحبة البيت مع عاملة أخرى جرَّت كرسيّها إلى جانبي. إختفَت الصبيّة وبقيتُ لوحدي مع العجوز التي قالَت لي:
ـ ما اسمكَ؟
ـ ربيع.
ـ يا ربيع، أُريدُكَ أن تعمَل لدَيّ.
ـ أنا بالفعل أعمَل لدَيكِ في الشركة.
ـ أقصدُ في البيت هنا. كما ترى لستُ لوحدي، بل لدَيّ عاملات إضافةً إلى ابنتي سلام التي لا تزال عزباء.
ـ وما حاجتكِ لي يا سيّدتي إذًا؟
ـ إسمَع... لقد رأيتُ في حياتي أمورًا لا تتصوّرها موجودة، وتعرّفتُ إلى عدد لا يُحصى مِن الناس، فصرتُ أعلمُ بمَن أثِق ومِمَّن أحترِس. وأعرفُ جيّدًا مِن أيّة طينة أنتَ. أٌريدُكَ معي في كلّ وقت، فلَن أثِق إلا بكَ.
ـ هذا شرفٌ لي... لكنّ السيّد ابنكِ هو الذي وظّفَني و...
ـ هذه شركتي وملكي! وهذا ابني! أنا التي أُصدرُ الأوامر! أفهِمتَ!
ـ عفوًا سيّدتي... فليكن كما تشائين. متى أبدأ العمَل؟
ـ إبتداءً مِن بزوغ الضوء... أي بعد ساعات قليلة. خُذ هذا المبلَغ، إنّه مُساعدة بسيطة، فلقد علِمتُ انّكَ عريس جديد.
... وبدأَت مسيرتي مع السيّدة نجوى. أقولُ مسيرة لأنّ أشياء عديدة حصلَت خلال تلك السنوات، وعرفَت السيّدة كَم أنّها أحسنَت الاختيار حين وثقَت بي. لن أدخُل بالتفاصيل، فلا أٌريدُ تشويه سمعة أحد.
مرَّت حوالي العشر سنوات ساءت فيها كثيرًا حالة السيّدة، إذ أنّها بلغَت سنًّا مُتقدّمًا وصحّتها تدهورَت بصورة مُخيفة. لكنّها احتفظَت بكامل قواها العقليّة، والحمد لله.
وذات يوم طلبَتني السيّدة نجوى فدخلتُ غرفتها على غير عادة. فحتى ذلك الحين مُنِعتُ طبعًا مِن دخول ذلك المكان الحميم. خفتُ أن تكون تُحتضَر، إلا أنّني وجدتُها واعية تمامًا. قالَت لي:
ـ ربيع، أنتَ بمثابة ابني أو حتى حفيدي، لِذا سأطلبُ منكَ أن تهتمّ بي شخصيًّا.
ـ أليس ذلك ما فعلتُه منذ عشر سنوات حتى اليوم؟
ـ قلتُ شخصيًّا! أتُريدُ أن أشرحَ لكَ مهامكَ بالتفاصيل؟
ـ لو سمحتِ.
ـ حسنًا... ستكون مَن ينقلُني مِن سريري إلى الكرسيّ، ومَن يُدخلني الحمّام ومَن يغسلني.
ـ لكن يا سيّدتي! أنا رجُل!
ـ أنتَ إنسان أوّلاً! وأنتَ الوحيد الذي أثقُ به. فمنذ فترة وأنا أُلاحظُ أشياء تحدُث... ربما سئِمَ ولَدايَ مِن الانتظار لوضع اليَد على ما أملكُ.
ـ أنتِ تتصوّرين أمورًا حتمًا، فالسيّد والآنسة يُحبّانكِ كثيرًا.
ـ إذًا لِما استُبدِلَت كلّ العاملات في البيت بأخريات؟ والسائق؟ لا، حدسي يقولُ لي إنّ شيئًا يتحضّر.
ـ ولكن موضوع الحمّام والغسيل...
ـ هذا أمرٌ وليس طلبًا.
رحتُ أستشير زوجتي على الفور، وهي لَم ترَ ما قد يمنعُني مِن القيام بما "أُمِرتُ" به. وجدتُ صعوبة بتصوّر نفسي ألمسُ وأُنظّفُ جسد السيّدة نجوى، لِذا عرَضتَ زوجتي عليّ التمرين معها، ونصحَتني بأن أتخيَّل أنّ صاحبة الشركة هي بالفعل جدّتي.
لن أنسى في حياتي أوّل مرّة أعطَيتُ حمامًا للسيّدة، فقد شعرتُ بالخجل والامتعاض، لكنّها بقيَت تقولُ لي وأنا أغسلُها: "إنّه عمَل خير حيال عجوز خائفة وعاجزة. هيّا، هيّا!". ومع الوقت صرتُ مُعتادًا على ذلك، لا بل فهمتُ حقًّا مدى حاجة تلك المرأة إليّ وكيف أنّها خصَّصَتني بالذات بهذا العمل الحميم.
خجِلتُ مِن ردّة فِعل ولدَي السيّدة، إلا أنّ ابنها تصرَّفَ وكأنّه لا يعلَم بما يجري، على عكس الابنة سلام، التي كانت تعيشُ في البيت مع والدتها. فذات يوم، دخلَت المطبخ حيث كنتُ جالسًا وقالَت لي:
ـ قُل لي يا ربيع...
ـ نعم، آنستي؟
ـ بماذا تشعُر وأنتَ تلمُس جسد أمّي العاري؟ هل تتحرّك فيكَ أحاسيس مُعيّنة؟
ـ ما هذا الكلام؟!؟ لا أشعُر بشيء سوى بالرفق والحنان حيال إنسانة كبيرة في السنّ تثقُ بي لدرجة لا يتصّورُها أحد!
ـ ماذا لو طلبتُ منَك أن تعطيني أيضًا حمّامًا؟ فأنتَ تثيرُني كثيرًا يا ربيع، وذلك مذ رأيتُكَ يوم دخلتَ بيتنا لأوّل مرّة. جسدي ناعم وشديد، على عكس أمّي.
ـ أستغفر الله!
ومنذ ذلك الحديث ورفضي لها، بدأَت سلام بِبثّ الأقاويل عنّي وعن أمّها، لدرجة أننّي لَم أعُد أحتمِل الوضع. رحتُ للسيّدة نجوى لأعتذر لها عن عَدم إمكانيّتي القيام بما تطلبه منّي، لكنّها أجابَت:
ـ مَن يستمِع لكلام الناس يهدرُ حياته. لو أنا استمعتُ لكلام الناس لَما استلمتُ الشركة مِن أبي، ولا عملتُ بجهد ليلاً نهارًا كي تزدهر. فآنذاك كان مكان النساء هو المطبخ. لو استمعتُ لكلام الناس، لَما تركتُ زوجي النذل الذي كان يخونُني ويصرفُ مالي على عشيقاته. ما تفعله مِن أجلي يا ربيع هو أسمى ما يكون، فوجودكَ معي أطالَ عمري ويُطمئنُ بالي كلّ يوم. فأنا على يقين مِن أنّ ولدَيّ لا يُريداني أن أعيش أكثر. ليس لديّ دليل حسّي على ذلك، بل خبرتي بالناس هي كافية، خبرتي نفسها التي حملَتني على الوثوق بكَ. إسمع... إنّ أيّامي معدودة، وأنا أشعُر بذلك، لا تُجادلني... ولن أنسى ما فعلتَه مِن أجلي يا ربيع، فأعرفُ صعوبة مهامكَ. سأُكافئكَ وكذلك الله.
ـ أنا لا أطلبُ شيئًا منكِ يا سيدّتي، فأنتِ تعطيني راتبًا. وللحقيقة، لَم أعُد أنظرُ إلى هذه المهام سوى بطريقة إيجابيّة مليئة بالحنان والرفق.
ـ يا ليتكَ كنتَ ابني يا ربيع.
توفّيَت السيّدة نجوى بعد سنة، وهي تركَت لي مبلغًا كبيرًا وجدتُه خياليًّا. حاولَت سلام ابنتها الطعن في الوصيّة، إلا أنّ أخاها أسكتَها، فلقد فعلتُ مِن أجل أمّهما ما لا يفعلُه سوى ابن أو حفيد.
واليوم، وبعد أن صرتُ بدوري عجوزًا، لا يسعُني تصوّر أولادي يهتمّون بي كما اهتمَّيتُ بالسيّدة نجوى. فالأمر يتطلّب كمّيّة فائقة مِن الحبّ ونظرة للآخَر مليئة بالرفق، بعيدًا عن أي اعتبار آخر. وقليلون هم القادرون على ذلك. كنتُ أحدهم وأنا فخور بنفسي، لأنّ تلك المرأة أعطَتني الفرصة لأختبِر محبّتي للإنسان.
حاورته بولا جهشان