مَن كان لِيَظنَّ أنّ حادِثة بسيطة ستؤدّي إلى هذا الكمّ مِن الغضب والحقد؟ فالطبيعة البشريّة حقًّا شرّيرة، ولولا الأديان والقوانين، لكان الجنس البشريّ قد انقرَضَ منذ زمَن بعيد.
كلّ شيء بدأ حين ركَن أحَد زوّار جيراننا في المكان المُخصَّص لسيّارة زوجتي. فحين هي عادَت إلى البيت بعد إنهاء عمَلها ولَم تستطِع ركن سيّارتها، إتّصلَت بي مِن المرآب فنزلتُ على الفور لِتدبّر الأمر. للحقيقة، لَم أتعرَّف على السيّارة الموجودة، فطلَبتُ جيراننا على الانتِرفون الواحِد تلوَ الآخَر، حتّى وجدتُ صاحِب السيّارة الذي كان يزورُ جارنا مازن وعائلته. لكن حين ردَّ مازن على الانتِرفون، كان فظًا جدًّا معي بدَلًا مِن أن يعتذِر منّي، إذ أنّه قالَ:
ـ جِدا مكانًا آخَر، فلَن أزعجَ ضيفي الآن.
ـ على زوجتي ركن سيّارتها والصعود إلى البيت لترتاح بعد عمَلها، فأرجو مِن ضيفكَ أن ينزل إلى المرآب ويبحَث هو عن مكان آخَر.
ـ هذا لن يحصل. تدبَّر أمركَ!
حاوَلَت زوجتي إقناعي بأنّ علينا البحث عن مكان ما في الطريق، وأنّ الأمر لا يستحِقّ أن نتشاجَر مع مازن، خاصّة أنّه معروف بطباعه الحادّة وعصبيّته. إلّا أنّني لَم أقبَل معها، فهذا مكان لسيّارات السكّان وليس مكانًا لسيارات الضيوف. لِذا اتصلتُ مُجدّدًا بانتِرفون مازن لكن ما مِن أحَد أجاب.
أخَذتُ صورة للسيّارتَين قَبل أن أركَبَ في سيّارة زوجتي وأركُنها أفقيًّا، كَي لا يستطيع الضيف الخروج عند رحيله، ثمّ التقطُُّ صورة أخرى، وأمَرتُ زوجتي بعدَم الاجابة على أحَد عندما يُحاوِلون الاتّصال بنا. ثمّ صعِدنا إلى شقّتنا وتصرّفنا وكأنّ شيئًا لَم يحصل.
وكما توقّعتُ، حين جاءَ الوقت ليرحَل الضيف ورأى أن ليس باستطاعته الخروج، بدأ مازن يرنّ على انتِرفون بيتنا كالمجنون ويتّصِل بي على هاتفي. لَم نُجِب، فليكن ذلك درسًا له!
لكن في الصباح، عندما أرادَت زوجتي الذهاب إلى عمَلها، أسرعَت بالاتّصال بي وصَرخَت:
ـ تعال بسرعة إلى المرآب وأنظُر ما حصَلَ لسيّارتي!
كان المشهد مُروِّعًا بالفعل، إذ أنّ سيّارتها كانت مُحطّمة مِن جانبها بفعل خروج الضيف مِن المكان عنوة! مَن يفعلُ شيئًا كهذا؟ كان بإمكان مازن، بعد رفضَ إزالة السيّارة بوقاحة، أن يوصِل ضيفه إلى بيته بانتظار أن تذهَب زوجتي إلى عملها صباحًا. هل كان علينا أن نمتثِل لرغباته والركن خارجًا خوفًا مِن أن يحصل شيئًا كهذا؟ هل نعيشُ في الغابة؟
أخذتُ هاتفي واتّصلتُ على الفور بالشرطة وأخبرتُهم ما حصل، طالبًا منهم المجيء بسرعة. وصَلَ عنصران مِن الشرطة فأرَيتُهما الصورتَين اللتَين أخذتُهما واللتَين تُبيّنان بوضوح رقم السيّارة المُخالِفة، وأخبرتُهم بالتفاصيل ما جرى منذ البارِحة. عندها، صعِدَ أحَدهما إلى شقّة مازن بينما بقيَ الآخَر معنا يأخذُ هو الآخَر الصوَر ويكتبُ تقريره على دفتره الصغير.
بعد دقائق، قدِمَ الشرطيّ الثاني مع مازن الذي ابتسَمَ لدى رؤيته سيّارة زوجتي المُحطّمة، ثمّ استدرَكَ وقالَ:
ـ ما الذي حصَل؟!؟ لا عِلم لي بشيء!
لكنّ أحَد الشرطيّيَن طلَبَ منه أن يتوقّف عن الادّعاء، إذ أنّ لدَينا صورة عن مشهد الليلة السابِقة، إلا أنّ مازن أجابَ:
ـ بالفعل لا أدري ما حصَل، فلا دخَلَ لي أو أيّ شخص أعرفُه بالموضوع. فلَم يزُرني أحَد البارحة، بل قضَيتُ السهرة مع عائلتي نتفرَّج على التلفاز. إبحَثوا عن غيري لإلقاء اللوم عليه!
إنتابَني غضب شديد، فصرختُ به:
ـ كفاكَ كذبًا! على كلّ الأحوال، لدى الشرطة الآن رقم السيّارة، وسيجدون صاحبها الذي سيؤكِّد أنّه كان عندكَ البارِحة. لو أنّكَ نقلَتَ السيّارة حين طلبتُ منكَ ذلك، لمَا كنّا الآن بصحبة الشرطة! فتحمَّل وصاحبكَ الآن تداعيات وقاحتكَ!
لَم يُجِب مازن بعد أن استوعَبَ أنّ كلامي منطقيّ لكنّه لَم يتراجَع، بل عادَ وأكّدَ أنّني الكاذب وأنّ لا أحَد زارَه ليلًا على الاطلاق. رحَلَ رجالا الشرطة بعد أن أكّدا لي أنّهما سيُتابعان الموضوع.
عادَ مازن إلى شقّته، حتمًا ليُخابِر ضيفه ويُنبِّهه، وأنا أخذتُ زوجتي إلى عمَلها.
وصَلتُ عمَلي غاضبًا، لكن سرعان ما إلتهَيتُ بالملّفات العديدة التي كانت بانتظاري، وقُبَيل الظهيرة، جاءَني زائر لَم أرَه في حياتي: صاحِب السيّارة. بدا لي الرجُل مُحترَمًا مِن حيث ملابسه ونبرة صوته الهادئة، لكن حين طلبتُ منه دفع تكاليف تصليح سيّارة زوجتي، أجاب:
ـ لن أدفَع شيئًا... فكان بإمكانكَ وزوجتكَ إيجاد مكان آخَر للسيّارة بدَل مِن ركنها بشكل يمنعُني مِن الخروج، ثمّ الذهاب إلى النوم وكأنّ شيئاً لم يحصَل.
ـ أنتَ المُخالِف فعليكَ أنتَ احترام أملاك الناس وإيجاد مكان آخَر.
ـ أركنُ حيث أشاء... مِن الواضح أنّكَ لا تعلَم مَن أكون.
ـ لا يهمُّني مَن تكون، فعليكَ احترام القانون!
ـ أنا القانون!
ـ ماذا تعني؟
ـ هذا لا يهمّ... جئتُ إليكَ بنفسي لتتنازَل عن الشكوى التي أقَمتَها ضدّي، فهذا مِن مصلحتكَ، صدّقني... دعني أكمِل! فلا وقت لدَيّ أضيعُه معكَ.
ـ أنا لا أسمَح لكَ!
ـ بل ستسمَح! مِن مصلحتكَ أن تتنازَل عن الشكوى، صدّقني، وإلّا...
ـ وإلّا ماذا؟!؟
ـ وإلّا قلَبتُ حياتكَ إلى جحيم، أعدُكَ بذلك! لا أحَد يرفع شكاوى ضدّي! لا أحَد!
ثمّ خرَجَ الرجُل مُستاءً جدًّا لِدرجة أنّه لَم يرَ السكرتيرة الواقفة أمامه وهي تدخُل مكتبي. هي نظرَت إليه وهو يبتعِد وقالَت: "لقد سمِعتُ كلّ شيء... مَن هو ذلك الرجُل الوقِح؟ رأيتُه في مكان ما، فوَجهه ليس غريبًا عنّي". لَم أُجِبُها لأنّني لَم أكن أملُك الجواب.
إتّصَلتُ بزوجتي على الفور لأُخبرها ما حصَل، وهي توسّلَت إليّ لسحب شكوَاي. لكنّني لَم أكن مُستعِدًّا للتراجع، خاصّة أنّ تصليح سيّارتها كان مُكلِفًا للغاية. ثمّ خابَرتُ بالشرطة لأعرِفَ منهم إن وجدوا صاحب السيّارة، وهم قالوا لي إنّ تلك المعلومات ستبقى سرّيّة إلى حين يكتمِل التحقيق. لكن قَبل أن أقفِل الخط، قالَ لي الشرطيّ: "هل تريدُ إبقاء شكواكَ قائمة أم سَحبها؟ فبإمكانكَ التراجع، أتعلَم ذلك؟". إستغرَبتُ كثيرًا كلامه، لكنّني استوعَبتُ بسرعة أنّ زائري كان ذا نفوذ حقًّا. لا أنكُرُ أنّني خفتُ بعض الشيء، لكن ليس كفاية لأتراجَع.
بعد دقائق، فتحَت سكرتيرتي باب مكتبي مِن دون أن تقرَع الباب لِشدّة حماسها وصرخَت: "الآن تذكّرتُه! رأيتُ مقالًا عنه في إحدى المجلّات الموضوعة في غرفة الاستقبال! إنّه رجُل أعمال كبير وثريّ!". شكرتُها بحزن، فكنتُ مهمومًا للغاية، وانتهى المطاف بي وأنا أُخبِرها بما حصَلَ بالتفصيل. عندها قالَت: "لا عليكَ يا سيّدي، فأحَد أقاربي رجُل قانون، دَعني أكلِّمه". للحقيقة، لَم أعطِ لكلام تلك الصبيّة أهمّيّة كبيرة، إذ أنّها كانت موظّفة عاديّة جدًّا وبالكاد تقومُ بواجباتها في المكتب.
وقَبل انتهاء دوام عمَلي، جاءَني اتّصال إلى مكتبي مِن قِبَل رجُل مجهول قالَ لي: "لا أحَد فوق القانون، لا تخَف. سأرى أين وصلَت الشرطة بتقريرها وما لدَيهم، وسأفعَل ما يجِب. يُمكنكَ الذهاب إلى بيتكَ مُطمئنّ البال، فسيقوم المسؤول عن الضرَر بتصليح السيّارة... شاءَ أم أبى!". شكَرتُ سكرتيرتي كثيرًا، ووعدتُها بإجازة مدفوعة تقديرًا لتدخّلها، ثمّ مرَّرتُ بزوجتي وأخذتُها إلى منزلنا.
وبعد أقلّ مِن ساعة، دقَّ مازن بابنا وقالَ بصوت رفيع: "أنا آسِف جدًّا، أرجو منكَ أن تُسامحني. وأنتِ سيّدتي، أرجو منكِ أن تعذُريني. لن يتكرَّر الأمر أبدًا، بل يُمكِنكما أيضًا أخذ مكاني للركن إن شئتُما". إستغرَبنا المشهد كثيرًا ولَم نعرِف ماذا نقول.
في الصباح، جاءَت رافعة وأخذَت سيّارة زوجتي للتصليح، وقال لنا سائق الرافِعة إنّ مَن بعثَه أوصاه بالاهتمام جيّدًا بالسيّارة. ضحِكتُ في سرّي خاصّة أنّ الشرطة اتّصلَت بي وقالوا لي إنّ صاحِب السيّارة، أيّ رجُل الأعمال، مرَّ بالقسم ووقَّعَ على تعهّد بتصليح كامِل للأضرار ودَفع تعويض لنا.
آه يا سكرتيرتي! لولاكِ لَما حُلََّت القضيّة وبسرعة فائقة! حاوَلتُ معرفة هويّة قريبها ونوعيّة عمَله، إلّا أنّها لَم تتكلّم، وأعترفُ أنّني حتّى اليوم، أيّ بعد خمس سنوات على وقوع هذه الأحداث، لا أعرفُ أكثر مِمّا قصَّيتُ عليكم. لكنّني وزوجتي نُحاول دائمًا تأليف الافتراضات حول ذلك الشخص الغامِض!
لكن ماذا كان ليحصل لولا تدخّله؟ فمِن المؤسِف أنّ مَن ليس لدَيه معارِف قويّة يجِدُ نفسه فريسة لأصحاب المال والنفوذ.
حاورته بولا جهشان