كنتُ أتكلّم عبر الهاتف أثناء قيادتي السيّارة، وانحرَفتُ فجأة عن الطريق فاصدَمتُ بعامود كهربائيّ. طارَ الهاتف مِن الشبّاك وأصابَني ألَمٌ شديد في الصدر بسبب حزام الأمان الذي خلّصَني مِن اصابة بليغة. وبينما كنتُ أستعيدُ رشدي، رأيتُ دخانًا يتصاعدُ، وسمِعتُ صوت رجُل يسألُني إن كنتُ بخير. أخرَجني الرجُل بسرعة مِن السيّارة التي بدأَت تحترق، وحملَني إلى مركبته وأخذَني إلى المشفى. هناك سألَني عن رقم أهلي الذين أتوا بسرعة فائقة. كان الرجُل قد غادَرَ المشفى فور تبادُل المعلومات مع إدراة المشفى وتطمين أبوَيّ عليّ.
لَم أستَوعِب ما فعلَه مِن أجلي ذلك المجهول، إلى حين صرتُ في البيت مُتعافية، وقالَ لي والدي إنّ علينا شكره على إنقاذي، فاتّصَلَ به ودعاه لتناول الغداء عندنا كعربون إمتنان.
حين دخَلَ مايك صالوننا، لاحظتُ كيف أنه يمشي بطريقة غريبة، فأدَرتُ نظري عن رِجله كَي لا أحرجه ومدَدتُ له يدي قائلة له كَم إنّني ممنونة له، وهو تلبَّكَ كثيرًا مُتمتِمًا بعض الكلمات. بعد قليل، جلَسنا جميعًا حول المائدة ودارَ حديثٌ لطيف وسلِس بيننا جميعًا، وعلِمنا أنّه مُعالجٌ للنطق ويعمَل مع الأطفال في الغربة، وأنّه أتى منذ أيّام قليلة إلى البلَد لزيارة أصدقاء له إنقطَعَ عنهم لسنوات عديدة. فهو كان يُصرّ على الحفاظ على جذوره وذكرياته بعد أن غادرَ شابًّا صغيرًا، وأنا أعجبتُ بإنجازاته التي رواها لنا. تناوَلنا القهوة ثمّ طلَبَ مايك مِن والدي الإذن بأخذ رقمي الخاص الذي كنتُ استعَدتُه بعد أن اشترَيتُ هاتفًا جديدًا بدلاً مِن الذي ضاعَ منّي، بحجّة أنّه يودُّ أن يطمئنّ عليّ. قبِلَ أبي على غير عادة، ربّما لأنّه خجِلَ مِن الذي ساعدَني حين كنتُ وحيدة. إبتسَمتُ لمُنقذي حين غادَرَ. وعندما حانَ وقت النوم طلَبَ منّي أبي ألا أتعلَّق عاطفيًّا بمايك بل أن أُبقيَ حديثي معه رسميًّا، ففي آخِر المطاف لا نعرفُ شيئًا عنه. ألَم يقُل إنّ لا أقارب له في البلد، فالذين بقوا على قَيد الحياة كانوا قد هاجروا هم أيضًا.
لكن منذ متى يقفُ الحبّ عند توصيات الأهل؟ وهكذا بدأتُ ومايك بالتكلّم عبر الهاتف يوميًّا حين هو عادَ إلى حيث يسكن ويعمَل، وعلِمتُ منه سيرة حياته المليئة بالأحداث الغريبة والمُشوِّقة. كنتُ آنذاك صبيّة هادئة لا يحدثُ لها شيء وتعيشُ في كنَف والدَين رصينَين، فرأيتُ بمايك مُغامِرًا تحلُم به كلّ فتاة، وتعلّقتُ بذلك الشاب القويّ. ألَم يُنقذ حياتي؟ علِمتُ أيضًا منه أنّ سبب مشيته العرجاء هو هجوم وقَعَ ضحيّته حين هاجَرَ وبدأ يعمَل في حانة، وحصَلَ أن تشاجَرَ مع أحَد الزبائن الذي أكثَرَ مِن الشرب. فانتظرَه الزبون مع رفاق له خارج الحانة وأبرحوه ضربًا بواسطة عصا حديديّة. بدأتُ بالبكاء لشدّة تأثّري فهو كادَ أن يموت في تلك الليلة!
إتّضَحَ أنّ مايك كان مُتزوّجًا في ما مضى، بغرَض الحصول على الجنسيّة الغربيّة، وطلّقَ زوجته بعد فترة فعاشَ عازبًا طوال الوقت بعد أن أكمَلَ دراسته ونالَ شهادته وبدأ بالعمَل كمُعالِج للنطق، ومِن ثمّ أسَّسَ عيادة وصارَ الأهل يقصدونه مِن أجل مُعالجة أولادهم. لكنّ مسيرته المهنيّة لَم تكن سهلة كَونه كان يحملُ إسمًا عربيًّا، لِذا غيّرَ إسمه إلى إسم أجنبيّ، الأمر الذي سهّلَ عليه انطلاقته ونجاحه.
أخفَيتُ عن والدَيّ علاقتي بمايك، وخاصّة بعدما أبدى رغبته بالزواج منّي، حين أدرَكَ أنّ القدَر هو الذي وضعَه في طريقي ذلك اليوم وكأنّه يقول له "هذه الصبيّة ستكون رفيقة حياتكَ". كنتُ أعلَم أنّ أبي لن يقبَل به، فالجدير بالذكر أنّ مايك مِن عائلة مُتواضِعة جدًّا، وهو كبُرَ مِن دون أب، بعدما تركَ ذلك الأخير أمّه حاملاً مِن دون أن يتزوّجها وهرَبَ بعيدًا واختفى نهائيًّا. لكن ما ذنب مايك بالذي حصَلَ لوالدَيه أو لرِجله أو لتركه البلَد باكرًا والعمَل في أماكن مشبوهة؟ ألَم يتعلَّم ويعمَل ليُصبحَ إنسانًا مُحترمًا وقادرًا على إعالة زوجة؟ كنتُ أعلَم أنّ حبيبي ليس تمامًا مَن يتمنّاه الأهل لبناتهم، لكنّ الحبّ قادر على إجتياز الفروقات الاجتماعيّة والصعاب!
قلتُ لِمايك إنّ زواجنا سيُواجهُ الصعوبات، وهو أكّدَ لي أنّه لن يتخلّى عنّي أبدًا بعدما وجَدَ بي كلّ ما يتمنّاه. فكانت له مغامرات عاطفيّة عديدة منذ مُراهقته، ولَم يشعُر مع أيّ مِن صديقاته ما يشعُر به معي.
لكنّ السفَر بعيدًا كان يُخيفُني، خاصّة أنّني لَم أكن أعرفُ شيئًا عن ذلك البلَد البعيد والغريب بحضارته وعاداته. طمأنَني مايك بأنّ أنسباءه يعيشون بجواره وكذلك بعض أبناء بلَدنا، وأنّني لَن أشعُر بالغربة أبدًا. بقَيَ علينا إقناع أمّي وأبي، وشعرتُ بالحيرة والارباك. فلولا مُساعدة مايك لي يوم وقوع الحادث لمَا تعرّفتُ إلى شخص مثله على الإطلاق، بل على شاب يُشبهُنا مِن حيث الطبقة الاجتماعيّة والنسَب وطريقة العَيش.
لَم أعُد أنامُ جيّدًا وفقدتُ الشهيّة على الأكل ولَم أعُد أقومُ بعمَلي جيّدًا، فانشغَلَ بال أهلي وأصدقائي وزملائي عليّ. لكنّني لَم أفصح لأحَد عن شيء، خاصّة أنّ مايك عرَضَ عليّ الهروب إليه.
كان لدَيّ جواز سفَر جهّزتُه يوم رحتُ ووالديّ إلى عمّتي في فرنسا حيث قضَينا هناك بضع أيّام. كلّ ما تبقّى عليّ كان الحصول على تأشيرة بحجّة السياحة، مِن سفارة البلَد الذي كان يسكنُ فيه مايك، وهو كان سيُقدِّم لاحقًا أوراق زواجنا وأحصلُ على إقامة تخوّلُني العَيش معه. قدّمتُ أوراقي في السفارة بعد أن حجزتُ تذكرة سفَر وغرفة في فندق... مِن مالي الخاصّ، فحبيبي لَم يعرُض عليّ الدفع مِن تلقاء نفسه. وجدتُ الأمر غريبًا بعض الشيء، إلا أنّني اخترَعتُ له أعذارًا عديدة في رأسي. بقيَ عليّ تقديم إستقالتي مِن عمَلي، إلا أنّ مُديري كان مُسافرًا فقرّرتُ إرسال استقالتي مِن حيث سأكون.
جهزَ كلّ شيء واقترَب موعِد رحيلي. بالطبع كنتُ حزينة أن أتركَ والدَيّ وبلدَي، وأن أتزوّجَ مِن دون وجود أقرَب الناس إليّ، لكنّ الحبّ يستحقُّ أغلى التضحيات.
ولِحسن حظّي أنّ والدي لَم يبقَ مكتوف اليدَين بعدما أطلعَته أمّي على التغيير الذي حصَلَ بي مِن حيث التكلّم عبر الهاتف حتى آخِر الليل همسًا والتكتّم عن الكثير مِن تصرّفاتي، فمَن يعرفُ الولَد أو البنت أكثر مِن الأمّ؟ وسويًّا إستنتجا أنّ لمايك دورًا في الموضوع وندِمَ والدي على إعطائه الاذن بمُكالمتي. لِذا أخَذَ أبي يتقصّى عنه، لكنّه وجَدَ صعوبة كبيرة بإيجاد المعلومات عنه، أوّلا لأنّه سافَرَ حين كان مُراهقًا وثانيًا لأنّه غيّرَ إسمه. لِذا هو استعانَ بأشخاص عديدين مُقيمين هنا وآخرين في الخارج، وربطَ كلّ المعلومات ببعضها وحصَلَ على ما يبحثُ عنه. وأتمنّى لكلّ صبيّة أن يكون لها أبًا مِثل أبي، فلولاه وحده الله يعلَمُ ما كان سيحدثُ لي!
في تلك الأثناء كنتُ قد هرَّبتُ أمتعتي شيئًا فشيئًا إلى صندوق سيّارتي إلى أن أصبحتُ شبه جاهزة. كان بالي مشغولاً، ليس مِن ناحية زواجي المُرتقَب بل بالنسبة لكلّ ذلك الكذب والتخطيط، فلَم أكن مُعتادة على إخفاء شيء عن والدَيّ، بل كنّا عائلة صغيرة مُتماسكة ونتشارَك كلّ شيء مهما كان بسيطًا. يا لَيتهما كانا ليتفّهما حبّي لمايك!
لَم يكن أبي قد قرَّرَ متى يُخبرُني ما علِمَه عن مايك، لكنّ العناية الإلهيّة تدخّلَت وأنا إرتكبتُ هفوة مصيريّة: تركتُ على غير عادتي هاتفي أثناء استحمامي. عندها ركضَت والدتي وأخذَته لأبي، فأدخلا الرمز السرّيّ الذي كانا يعرفانَه واكتشفا الخطة التي كانت ستأخذُني بعد أيّام إلى حبيبي. إنتظَرني أبي في غرفتي وتفاجأتُ به، فلَم تكن مِن عادته أن يجلِسَ لوحده على سريري مِن دون سبب. وقَبل أن أستوعِب ما يحصل، هو قال لي:
ـ مايك حبيبكِ إسمه في الحقيقة عدنان ط. وهو مطلوب مِن العدالة بعد أن قتَلَ شخصًا أثناء مُشاجرة كلّفَته رِجله. والشجار كان يدورُ حول صفقة مُخدّرات حاوَلَ خلالها شريكه نصبُه فيها. لِذا قرَّرَ "مايك" تصفيَته وجعله أمثولة لغيره. بعد ذلك، هو فرَّ خارج البلاد حيث أسرعَ بالزواج وتغيير إسمه. لكنّه أساءَ مُعاملة زوجته الأجنبيّة وأجبرَها على الإجهاض حين هي حمِلَت منه. وهو لا يعملُ كمُعالِج للنطق في عيادته الخاصّة، بل هو عامِل نظافة في إحدى العيادات. أمّا بالنسبة لأقاربه الموجودين في جواره، فهم مِن الخامة نفسها، أيّ أناس مشبوهون أكانوا نساءً أم رجالاً. كلّ هذه المعلومات موثوقٌ منها ويُمكنكِ التأكّد منها لو زُرتِ أيّ مقرّ للشرطة مربوط على الشبكة الأمّ. لا أعرفُ ما دهاكِ يا ابنتي، وكيف لكِ أن ترمي بنفسكِ هكذا، فلقد كنتِ دائمًا صبيّة عاقلة ومُتّزنة. أعلَم أن أشباه "مايك" يعرفون كيف يحتالون على الناس لكسب ثقتهم، وأنّ كَونه أنقذكِ آنذاك قد أثَّرَ على قدرتكِ على التحليل والتفكير. لن أدعكِ ترحلين حتى لو اقتضى الأمر سجنكِ في البيت، فأنا أبوكِ وتقَع عليّ مسؤوليّة حمايتكِ. لكنّني آملُ بأنّكِ لا تزالين قادرة على الوثوق بي، فلَم أخذُلكِ مذ فتحتِ عَينَيكِ على هذه الدنيا. هل ستُصدّقين عابر طريق ولا تصدّقيني؟ لا أظنُّ ذلك. سأدعُكِ لوحدكِ الآن لتستوعبي كلّ الذي أطلعتُكِ عليه. أمّكِ على عِلم بكلّ هذه التفاصيل وهي مُستعدّة أيضًا لدَعمكِ. لن نحكمُ عليكِ بل سنُحبُّكِ أكثر.
فهمتُ أنّ مُنقذي الحقيقيّ كان أبي وليس "مايك" الذي كذِبَ عليّ منذ البداية، وجرَّني إلى عالم خياليّ لا صحّة فيه لأيّ شيء. لو رحتُ إليه لَخسرتُ أهلي وعمَلي وبلدَي، وعشتُ مع مُنافِق ورجُل عصابات، ولكان انتهى بي المطاف ذليلة أو مُعنّفة وبعيدة كلّ البُعد عن ذويّ.
أطلَعتُ "مايك" على كلّ الذي اكتشفَه أبي، وطلبتُ منه ألا يتّصل بي بأيّة طريقة وإلا أخبَرنا الشرطة بمكان وجوده وهويّته الجديدة. ولَم أسمَع منه بعد ذلك.
أنا اليوم سيّدة مُتزوّجة وأشكرُ ربّي كلّ يوم على نِعَمه وعنايته بي.
حاورتها بولا جهشان