كنتُ قد سمعتُ أخبارًا عن هؤلاء الذين يوقعون بالبنات بدسّ مادّة في شرابهنّ، لكنّني خلتُ أنّ الأمر محاولة مِن والدتي لمَنعي مِن الخروج ليلاً مع صديقاتي. فالحقيقة أنّ أمّي كانت تكره فكرة وجود شاب في حياتي، مع أنّني كنتُ قد بلغتُ سنّ الخامسة والعشرين وكان قد حان الوقت لأنّ أتعرّف إلى مَن قد يُصبح زوجي. وحدَثَ مرارًا أن تشاجرتُ معها بشأن حجزها لي أغلب الوقت ليلاً في المنزل، مع أنّها لَم تُمانع بأن يكون لدَيّ عمل في وضح النهار. كانت تشعرُ بمسؤوليّة كبيرة تجاهي، بعد أن ماتَ أبي وأنا صغيرة وباتَت هي لوحدها معي.
كانت والدتي تكره أيضًا صديقاتي وزميلاتي لأنهنّ، برأيها، تشكّلنَ خطرًا دائمًا عليّ مِن الإنزلاق إلى الرّذيلة. واحدة فقط نالَت موافقة أمّي. ومع أنّ تلك الصبيّة لم تكن صديقة مقرّبة لي، إلا أنّها عَرَفَت كيف تحظى برضى والدتي يوم زارتنا في البيت وبيدها باقة مِن الورود. وخلال زيارتها، لم تنفكّ تخبرُنا عن أبيها المتديّن وأمّها المتعلّمة، وكيف كبرَت وسط أجواء تقيّة مليئة بالثقافة والعلم. للحقيقة لَم أتأثّر كثيرًا بكلامها، فكما ذكرتُ، لم تكن وفاء مِن دائرة صديقاتي بالرّغم مِن محاولاتها العديدة لدخولها.
لكن بعد ذلك اليوم، لم تعد أمّي تسمح لي بالخروج بعد العمل إلا إذا كانت وفاء برفقتي، فوجودها معي كان يُريحُ بالها، مُعتقدةً أنّ وفاء باستطاعتها منعي مِن ارتكاب الحماقات. لا أدري ما سبب قلّة ثقة والدتي بي، فلَم يحدث ولو مرّة أن خذلتُها وفعلتُ أي شيء مُريب، بل كانت حياتي هادئة ومهذّبة. وقلقها الدائم عليّ كان قد بدأ يُزعجني بشكل كبير ولَم أعد أتحمّل تضييق الخناق عليّ.
وبما أنّ الخروج لَم يعد ممكنًا إلا بصحبة وفاء، بدأتُ أذهب معها إلى ما كانت تسمّيه: "سهرات ثقافيّة ممتعة"، أي تجمّع شبّان وشابّات يتكلّمون عن الفن والشعر والأدب، الأمر الذي كان يُضجرني كثيرًا. فأنا كنتُ في سنّ يحب الفرَح والأغاني والرقص، شأن أبناء وبنات عصري، وتلك الفتاة كانت جدّيّة أكثر مِن اللزوم. إلا أنّني صبرتُ، فالتواجد معها وأصدقائها كان أفضل مِن المكوث في البيت.
لكن ما كنتُ أجهلُه، بالرّغم مِن زعمي بأنّني صرتُ أفهم بالناس والحياة، هو أنّ وفاء لم تكن الفتاة العاقلة والهادئة والشريفة التي تصوّرَّتها أمّي والتي ملَلتُ الجلوس معها. فوراء قناع العفّة والتقوى، كان وجهها الحقيقيّ قبيحًا للغاية. وهؤلاء الأصدقاء الذين يتبارَون في المعلومات ويتباهون بالثقافة العميقة، كانوا أسوأ خلق الله. واتّضَحَ لي أنّ جلساتهم لم تكن سوى ستار لِما يحصل في أواخر الليل، أي بعد أن أغادر إلى بيتي لأنام بسبب عملي الباكر.
فالذي لم أنتبِه إليه على الفور، هو أنّ وفاء كانت دائمًا تبقى مع رفاقها، لأنّها كانت تريد "متابعة النقاش معهم"، وكانت تأذن لي بالرحيل لوحدي. وكنتُ أستقلّ سيّارة أجرى للعودة إلى المنزل.
كيف علِمتُ بالذي يجري، وكيف كدتُ أقَع ضحيّة التي وصفَتها أمّي بالملاك؟ إليكم ما جرى:
كنّا قد اجتمعنا كالعادة مع أصدقائها المثقّفين في بيت أحدهم، أو بالأحرى رئيسهم، لأنّه كان يأخذ كل القرارات ويُصرّ على أن تجري اللقاءات في منزله الذي يسكنُه لوحده، وكنتُ قد أبدَيتُ الحاجة الملحّة إلى الرحيل. فالساعة كانت قد قاربَت منتصف الليل وكان عليّ النهوض إلى العمل بعد ساعات قليلة.
خرجتُ مِن الشقّة بدون أسف لكثرة انزعاجي مِن الجدل في أمور فلسفيّة غير مُجدية. وانتظرتُ في الشارع قدوم سيّارة الأجرة التي تأخّرَت كثيرًا. وبعد أن ركبتُ السيّارة بدقائق طويلة، لاحظتُ فجأة أنّني نسيتُ جوّالي حيث كنتُ. فطلبتُ مِن سائق الأجرة أن يُعيدني إلى الشقّة وينتظرني لحظات وجيزة ريثما أستعيدُ جوّالي. لم أدفع له أجرته، الأمر الذي اتّضَحَ أنّه أنقَذَ شرَفي وربمّا حياتي.
ركضتُ أقرَع باب الشقّة فلم يفتحوا لي سوى بعد دقيقة كاملة، وخفتُ أن يكون الزوّار قد رحَلوا ونام صاحب المكان. الا أنّ وفاء هي التي فتحَت لي وبيدها كأس مِن الكحول، الأمر الذي أدهشَني إلى أقصى درجة، فهي كانت ملتزمة جدًّا دينيًّا. تفاجأت الفتاة بي وحاولَت منعي مِن الدخول، كي لا أرى الذي يجري في الداخل. إلا أنّني أبعدتُها قائلة إنّني أريد جوّالي.
عندما دخلتُ المكان وجدتُه مظلمًا بعدما أخفَتوا الأنوار، لكنّني رأيتُ بوضوح أنّ الذين كانوا مجتمعين يتحدّثون عن الأدب والفلسفة كانوا قد خلعوا ثيابهم وباتوا مستلقين على الكنبات والأرض، يشربون ويُدخّنون سجائر غير اعتياديّة. علِمتُ فورًا أنّها نوع مِن الحشيشة وأطلقتُ رغمًا منّي صرخة لفتَت إنتباه الجميع إليّ.
في لحظة واحدة صَرَخَ صاحب الشقّة لوفاء بأنّ تُقفل الباب، وانقضّ عليّ كالنسر الجارح قائلاW: "تجدين جلساتنا مملّة؟ سأريكِ شيئًا يُسلّيكِ أكثر يا آنسة!
بدأتُ بالصّراخ، إلا أنّ باقي الموجودين ساعدوا الشاب على إسكاتي، بمَن فيهم وفاء التي كانت تبتسمُ لِما يحدث لي، فبهذه الطريقة لن أعود قادرة على إدانتهم أو التبليغ عنهم.
قاومتُ بكل قوايَ ولَم أدعهم يصبّون في فمي مشروبًا كان حتمًا ممزوجًا بنوع مِن المخدّر، لكنّني لم أكن قادرة أبدًا على الإفلاة منهم. وقبل أن يُكملوا تمزيق ملابسي، جاء منقذي.
كان سائق الأجرة قد ملّ الإنتظار، وخال أنّني تهرّبتُ مِن دفع أجرته، فصعد إلى الطوابق وأخَذَ يُخبط على أبواب الشقق حتى وصَلَ إلى المكان الذي أنا فيه.
عندما سمعوا الخبط وإصرار سائق الأجرة، إضطرَّت وفاء لفتح الباب. وعندما وجَدَت السائق أمامها وعلِمَت منه ما يُريدُه، عرضَت عليه أن تدفع هي أجرته. رأيتُ الرجل واقفًا لكنّني لم أكن قادرة على الصراخ بسبب اليد التي كانت على فمي، وأدركتُ أنّه إذا رحل، لن يُنقذني أحد غيره. لِذا عضّيتُ بكامل قوّتي اليد الموجودة على فمّي، وصرختُ بأعلى صوتي: "النجدة! يُريدون اغتصابي!"
دخَلَ السائق كالمجنون، وبدأ يضرب الموجودين يمينًا وشمالاً حتى وصَلَ إليّ... فلفّني بغطاء وحملَني خارجًا.
لم يجرؤ أحد على اللحاق بنا، لأنّهم كانوا إمّا عراة أو ثملين أو خائفين.
عندما أصبحتُ في السيّارة بدأتُ بالبكاء، واقترَحَ السائق أن يأخذني على الفور إلى قسم الشرطة، لكنّني لم اقبل لأنّ ملابسي كانت ممزّقة. مرّ السائق ببيت أخته، وبعد أن أيقظها، أخذ بعض الملابس منها وأعطاها لي.
نزلتُ أمام بيتي بعد أن عملتُ جهدي لأبدو طبيعيّة، وشكرتُ الرجل الشجاع وأخذتُ رقمه الخاص وإسمه بالكامل.
لاحظَت والدتي ملابسي، فقلتُ لها إنّني ذهبتُ ووفاء للتسوّق، ودخلتُ غرفتي أختبئ وأستعيد أنفاسي. وبكيتُ طوال الليل.
في الصباح، أخبرتُ والدتي ما فعَلَت بي الفتاة المهذَّبة والتقيّة التي إسمها وفاء.
في البدء خالَت والدتي أنّني أمازحُها، لكن عندما رأَت دموعي أدركَت أنّ ما أصابَني كان حقيقيًّا. أخَذَتني على الفور إلى قسم الشرطة حيث قدّمتُ بلاغًا وذهبَت فرقة إلى الشقّة ووجدَتها فارغة. كان قد فرّ صاحبها الذي لم أكن أعلم أسمه الكامل.
لكن بعد ان تمّ القبض على وفاء، وشَت بباقي الشلّة وصاروا كلّهم وراء القضبان، وذلك بعد أن شهِدَ السائق الشجاع على ما رآه وتعرّف على وفاء وبعض الموجودين. كشَفَ التحقيق أنّ هؤلاء الناس كانوا يجتمعون للبحث في مواضيع عدّة، ومِن ثمّ يًنهون السهر بالشرب وتعاطي المخدّرات وممارسة الجنس جماعيًّا. لكن لم يكن لهم سوابق ولم تثبت حقًّا نيّتهم في اغتصابي، إذ قالوا إنّهم ظنّوا أنّني موافقة لأنّني عدتُ إلى الشقّة. بالطبع كان مِن الواضح أنّهم يكذبون، لكنّهم نالوا عقوبات لا تناسب أفعالهم.
غضبتُ كثيرًا مِن الحكم الذي صدَر، إلا أنّني شكرتُ ربّي أنّهم لم يُلحَقوا بي الأذى.
الشيء الإيجابيّ الوحيد في كلّ ما حصل، هو أنّ سائق الأجرة صارَ صديقي المقرّب، وعلى مرّ الأيّام وقَعَ في غرام أمّي التي لم تمانع الزواج منه.
وهكذا أصبَحَ مُنقذي زوج أمّي، وأعترفُ أنّها لم تكن لتجد أفضل رجل منه، فهو كان إنسانًا شجاعًا ونزيهًا أعطاني الشعور بالأمان سنين طويلة قبل أن يتوفّى بسبب أزمة قلبيّة. وحتى اليوم أعتبرُه أبًا ثانيًا لي وتدمع عينايَ كلّما أتذكّرُه.
حاورتها بولا جهشان