مُفترِس في الحظيرة

دخول ذلك الشاب إلى حياة أسمى وبناتها، كان العنصر الذي غيّرَ كلّ المعطيات، ولَم يخطر ببال أحد ما حدَث لاحقًا. فلقد كنّا جميعًا بمثابة عائلة كبيرة ونؤلّف، أبًّا عن جِدّ، قرية صغيرة وجميلة حيث لا يحدثُ شيئًا على مدار السنة. ولَم تكن أسمى قريبتنا بل جارتنا. على كلّ حال، كنّا جميعًا جيرانًا ونعرفُ كلّ ما يدورُ ويُحكى في كلّ بيت. ولَم ينزعِج أحدٌ مِن ذلك، فهكذا جرَت العادة بيننا.

ويوم ماتَ زوج أسمى وتركَها مع ثلاث مُراهقات، ركضنا كلّنا لمُساعدتها لأنّنا قوم مُتماسكون.

وفي أحد الأيّام، دخَلَ القرية شابّ وسيم طالبًا العمَل. كان قد جاءَ مِن بلدته البعيدة التي قلّ العمَل فيها وشحَّت لقمة العَيش، بعد أن فرغَت مِن مُعظم سكّانها الذين نزحوا إلى المدينة. قرَعَ سعيد كلّ الأبواب إلى أن قبِلَت به أسمى، فهي كانت بحاجة إلى مَن يهتمّ بالرزق ويُصلح أعطال منزلها القديم. إرتاحَ بال أهل القرية أخيرًا، فكنّا نحبُّها هي وبناتها ونُدرك كَم أنّ العَيش مِن دون سنَد أمرٌ صعب. فآنذاك كان الناس يعتقدون أنّ المرأة لا تكون بأمان إلا بوجود رجل، أيًّا كان، إلى جانبها.

سكَنَ سعيد في الحظيرة وراء البيت ولَم يرَه الناس سوى باكرًا حين يقصدُ الأرض ومساءً حين يعود حاملاً قنديله. في فرصة نهاية الأسبوع، هو كان يُصلحُ السطح أو يُنظّفُ البئر. أثنَينا جميعًا على عمله الدؤوب واحترامه الفائق لأسمى وبناتها، إذ أنّه لَم يدخُل قط بيتهنّ.

في تلك الفترة كنتُ أنا الأخرى صبيّة كبنات سلمى، إلا أنّني لَم أكن صديقتهنّ، ربّما لأنّني وجدتهنّ هادئات أكثر مِن العادة، بينما كنتُ أنا مُفعمة بالحياة وأُحبّ الضحك واللهو وأنظرُ إلى الشبّان بإعجاب. وأذكرُ أنّ أمّي كانت تحثّني على الامتثال بتلك الجارات العفيفات والتقيّات. أعترفُ أنّني شعرتُ بالغيرة منهنّ أحيانًا، خاصّة عندما كان أبي يحكي كيف رآهنّ مرارًا وهو مارٌّ قرب شبابيك بيتهنّ وهنّ تصلّين بحرارة. أنا كنتُ محبوبة أبي وأردتُه أن يراني دائمًا الأفضل. لكنّ ذلك لَم يجعَل منّي صبيّة فائقة الهدوء والتقوى، بل بقيتُ إنسانة عاديّة تعيشُ حياةً عاديّة. إلا أنّني صمَّمتُ على مراقبة جاراتي لإيجاد أيّ شائبة في سيرتهنّ، ليس بداعي الفضول، بل لألمُسَ أدنى شيء قد يدلُّ على أنّهنّ لسنَ ملائكة ولستُ بالمقابل غير لائقة.

ولكثرة مُراقبتي لجاراتي، إنتبَهتُ لِما كان يجري. لا أخفي عنكم أنّني شعرتُ بِرضى داخليّ لأنّني وجدتُ الثغرة. لَم أكن أنوي طبعًا إخبار أحد بالذي اكتشفتُه، فهدَفي لَم يكن فضح أيّ كان بل إرضاء غروري.

فلقد رأيتُ إحدى بنات أسمى تدخلُ خلسةً الحظيرة التي تحوّلَت إلى مسكن لسعيد، لتخرجَ منها بعد حوالي الساعة بشكل يدلُّ بالفعل على ما كانت تفعلُه هناك، أيّ أنّ شعرها كان مُبعثرًا تحت حجابها، وملابسها في غير محلّها!

 


كنتُ سأنسى الموضوع لولا كِسر في رجلي أقعَدني في البيت لفترة مِن الزمَن. فشعرتُ بِملَل كبير وبقيتُ جالسة على كرسيّ أمام النافذة التي تطلُّ على تلك الحظيرة. وإذ بي أرى باندهاش الابنة الثانية تخرج بسرعة مِن المكان! هل يُعقَل أن تكون الأختان على علاقة مع سعيد؟!؟ وهل كانت كلّ أخت على علم بالذي تفعلُه أختها؟ كنتٌ قد وجدتُ أخيرًا تسلية خاصّة بي، فقضيتُ ساعات طويلة أمام تلك النافذة أتفرّج على ذهاب وإيّاب الأختَين بشكل مداورة عند الشاب الوسيم، الذي كان بلا شك يستمتعُ بتأثيره على "المؤمنتَين الشريفتَين".

في إحدى المرّات، كادَت أمّي أن تفضَحَ أمري، إذ شكَّت بأنّ أمرًا ما يحملُني على الجلوس لساعات على كرسيّ، إلا أنّني اخترَعتُ لها حججًا أقنعَتها. أظنُّ أنّ صبيّة غيري كانت نادَت أمّها لتتفرّجا سويًّا على ما يجري، أو كانت فضحَت أمر جارتَيها أمام الناس. إلا أنّني كنتُ أعي أنّ شرفهما وسيرتهما ليستا ملكي لأتصرّف بها، ففضح الآخرين هو أيضًا خطيئة.

علِمتُ بذهول أنّ الأختَين لَم تكونا الوحيدتَين على علاقة مع سعيد بل الثلاثة! أجل، تمكّنَ سعيد مِن إغراء وإغواء البنات أجمَع. يا للحقير! هل وعدهنّ بالزواج؟ على الأقّل هو قال لهنّ حتمًا إنّه يحبُّهنّ لدرجة أنهنّ قبِلنَ بالاستسلام له. فقَبل مجيئه، أستطيع الجزم بأنّ جاراتي الثلاثة كنَّ بغاية الجدّيّة والالتزام. ما كان سرّ ذلك الشاب؟ هل فقط جماله وحنكته، أم لأنّه رجل واستغلّ تلك الفتيات لِعدَم وجود ذكر بينهنّ؟

شفيَت رجلي أخيرًا وعدتُ إلى المدرسة على مضض، بعد أن اعتدتُ على التفرّج مِن النافذة وكأنّني في صالة سينما أحضرُ قصّة مِن أجزاء عديدة. كيف كنتُ سأعرفُ ما يدورُ في الحظيرة بعد ذلك؟ أعترفُ أنّني وجدتُ صعوبة بالتركيز على شرح الأساتذة، وكلّ ما كنتُ أُفكّرُ به كان العودة وبسرعة إلى البيت وإلى نافذتي.

وفي أحد الأيّام، بينما كنتُ في طريقي باكرًا إلى المدرسة التي تقَع على بعد نصف ساعة مِن بيتنا، ظهَرَ أمامي سعيد. أطلقتُ صرخة لشدّة مُفاجأتي إلا أنّه اعتذَرَ على إخافتي وقال لي وهو ينظرُ إليّ بتمعّن:

 

ـ أنا أُراقبُكِ منذ فترة، فما عساني أفعل غير ذلك حين تكون صبيّة بجمالكِ تسكنُ بالقرب منّي؟ فأنتِ فاتنة للغاية ولا أنفكُّ عن التفكير بكِ.

 

لبرهة سرِرتُ بهذا الإطراء مِن جانب شاب وسيم، وكادَت عيناه وصوته العسليّ أن يسحروني أنا الأخرى. وأنا مُتأكّدة مِن أنّني كنتُ سأقعُ ضحيّته لولا أنّني لَم أرَ ما فعلَه بجاراتي الثلاثة. عدتُ إلى رشدي فجأةً وصرختُ به:

 

ـ إخرَس أيّها الماكِر!

 

ـ ما بكِ؟!؟ وهل أهنتُكِ؟ أُعبّرُ لكِ عن إعجابي العميق بكِ!

 

ـ تمامًا كما عبّرتَ عن إعجابكَ العميق بِبنات أسمى؟!؟ أيّها الكاذب والمحتال! ألا تكفيكَ ثلاث صبايا؟ وهل جوعكَ لا يُسَدّ؟

 

ـ كيف علِمتِ...

 

ـ وهل يبقى شيء مخفيًّا؟ قُل لي، هل تعرفُ الصبايا بأنّكَ تُعاشرهنّ جميعًا أم تظنّ الواحدة منهنّ أنّها الوحيدة في قلبكَ؟ أجِبني!

 

ـ لا... لسنَ على عِلم بالأخريات. لا تفضحيني، أرجوكِ فأنا بحاجة إلى هذا العمَل.

 

ـ ليس مِن شأني إن كنتَ وغدًا أو إن كنَّ ساذجات، مع أنّني أعترفُ بأنّكَ بارعٌ بالكذب. ولكن إن تعرَّضتَ لي مُجدّدًا، فلن أفضحَ أمركَ وحسب بل سأحملُ رجال القرية على طردكَ ببناديقهم! هيّا إرحَل مِن طريقي!

 


خافَ سعيد وأسرعَ بالهروب، وبعد أشهر قليلة ممّا حصَلَ لي مع سعيد، سمِعنا الصوت.

كان قد هبَطَ الليل منذ أكثر مِن ساعة، حين شقَّت الظلمة صرخة علِمنا أنّ صاحبتها هي أسمى. ركَضَ والدايَ ولحِقتُ بهما، فشيء بداخلي أكَّدَ لي أنّ أمرًا رهيبًا قد حصَلَ وله دخلٌ بسعيد. طرَقَ أبي باب أسمى بقوّة وإصرار وعندما فتحَت لنا المرأة، رأينا في عَينيَها نار الغضب يتطايَر منهما. هي لَم تدعُنا للدخول، لكنّنا رأينا بوضوح بناتها جالسات في الصالون وشعرهنّ مُبعثر ووجههنّ أحمر اللون ودموعهنّ على خدودهنّ. كان مِن الواضح أنّ أمهنّ أعتدَت عليهنّ بالضرب، الأمر الذي أذهَلَ أبوَيّ فهما كانا ضدّ تعنيف الأولاد. أظنّ أنّني الوحيدة بين أهلي التي علِمَت سبب ذلك الغضَب، فلا بدّ لأسمى أنّها اكتشفَت علاقات بناتها مع المدعوّ سعيد. طمأنَت المرأة والدَيَّ قائلة لنا:

 

- إنّها مسألة عائليّة... أعتذرُ لإخافتكم، فلَم يسبَق أن علا صوتي يومًا، إلا أنّني مُتعبة مُؤخّرًا. طابَ مساؤكم.

 

وأغلقَت الباب في وجهنا جميعًا. جلَسَ أبوَاي في صالوننا وتحدّثا قليلاً عن الذي جرى، مُستنتجَين أنّ تربية ثلاث بنات مِن دون زوج ليس مِن السهل، ثمّ خلدا إلى النوم.

أمّا أنا فبقيتُ صاحية وجلستُ أمام النافذة لأرى ما سيحصل. وبعد حوالي النصف ساعة، رأيتُ أسمى تدخلُ الحظيرة لوحدها. ثمّ سمعتُها تقول لسعيد عاليًا:

 

ـ أيّها النذل الحقير! تخونني مع بناتي! فلقد قلتَ لي إنّكَ تُحبُّني وتُريد الزواج منّي وإلا لَما سلّمتُ نفسي لكَ، فلطالما كنتُ امرأة شريفة! أنتَ استغلَّيتَ وحدتي وحاجتي لرجل إلى جانبي. لكن أن تستغلّ بناتي الثلاث فلا! وستدفع الثمن غاليًا!

 

كتمتُ صرخة لكثرة اندهاشي، وفضَّلتُ الخلود إلى النوم للتفكير مليًّا بالذي اكتشفتُه. نمتُ نومًا عميقًا واستيقظتُ بسرعة لأذهب إلى مدرستي، فكانت تلك سنتي الأخيرة ولا أُريدُ تفويت فرصة الالتحاق بالجامعة بعد العطلة الصيفيّة.

إختفى سعيد عن الأنظار بعد تلك الليلة العاصفة، وارتاحَ بالي على تلك العائلة المسكينة التي وقعَت ضحيّة مُحتال لا ضمير له.

لكن بعد حوالي الشهر، رأينا سيّارة شرطة مُتوقّفة أمام بيت أسمى وأفرادها يدقّون بابها. وسمعناهم بوضوح يسألونها عن سعيد الذي اختفى وشغَلَ بال ذويه. وبما أنّ ذلك المكان كان مقرّ عمله الأخير، جاءوا مُستفسرين. أكّدَت لهم جارتنا أنّ الرجل ترَكَ عمله لدَيها ذات مساء ولَم يعُد. فحصَ رجال الشرطة الحظيرة ووجدوا أنّ أمتعته لا تزال مكانها، ففسَّرَت لهم أسمى الأمر بأنّ سعيد رحَلَ بسرعة، فقد يكون أحد ما يُلاحقه. أضافَت أنّ لدَيه أعمالاً مشبوهة وأصدقاء مشبوهين أيضًا. إكتفى الشرطيُون بهذا التفسير وانتهى الموضوع.

صدّقَ الجميع رواية أسمى... إلا أنا. فكنتُ مُتأكّدة مِن أنّ سعيد لَم يرحَل، أو بالأحرى حيًّا. لَم يكن لدَيّ أيّ دليل على ذلك إلا حدَسي، فلو رأيتم نظرة أسمى في تلك الليلة وسمعتموها تتحدّث مع سعيد في الحظيرة لظنَنتم مثلي تمامًا. كتمتُ شكوكي فلَم أرِد فضح عرض جاراتي أو خلق مشاكل لأسمى التي، وبمفهومي، قد ارتكبَت "جريمة شرَف". فلو حدَثَ أنّ أسمى كانت رجلاً وليس امرأة، وقتلَ سعيد بعد أن انتهكَ عرض بناته ثمّ قتلَه، لَصفَّقَ له الناس. على كلّ الأحوال، ليس ذلك مِن شأني خاصّة أنّها شكوك وليس أكثر.

رحتُ الجامعة وتعلّمتُ ونلتُ شهادتي، بعد أن تركتُ القرية للمكوث قرب كليّة الحقوق التي تقَع في العاصمة. بقيتُ أزورُ أهلي باستمرار. وقبل أن أبدأ العمَل في إحدى مكاتب المحاماة، قضيتُ حوالي الشهر في البيت الأبويّ. لكنّني لَم أرَ أسمى بل فقط بناتها، فسألتُ والدتي عنها وهي أجابَتني:

 

ـ يا إلهي، ألَم تسمعي بالخبَر؟!؟ لقد سلّمَت أسمى نفسها للشرطة واعترفَت بقتل سعيد! ومُحاكمتها باتَت قريبة.

 

ـ إذًا سأُدلي بشهادتي يا أمّي، فلقد بقيتُ صامتة حتى الآن. أنا لا أُحبّذُ القتل طبعًا لكن لهذه المرأة أسباب تخفيفيّة.

 

ـ ستُدافعين عنها؟!؟

 

ـ ليس شخصيًّا فلا أملكُ الخبرة المطلوبة، بل المكتب الذي أنوي العمَل فيه.

 

ـ وكيف لكِ أن تشهدي لصالحها؟ ما الذي تعرفينَه؟

 

رويتُ لأمّي كلّ القصّة، وهي أثنَت على حفاظي على ذلك السرّ الكبير، فلا يجوزُ لأحد تشويه سمعة غيره.

قضَت أسمى سنوات في السجن، لكنّها نالَت تخفيفًا في الحكم بفضل شهادتي ومحاميها البارع. هي لَم ترِدُ مُساعدة أحد في البدء، فأقنعناها بالعكس وذلك مِن أجل بناتها. وحين هي خرجَت أخيرًا مِن وراء القضبان، كنتُ قد تزوّجتُ وأنجبتُ وأعيشُ في المدينة مع عائلتي.

رحتُ أزورُ سلمى لأطمئنّ عليها ولأسألها سؤالاً حيّرَني وحيّرَ المحكمة بأسرها: كيف تمكّنَت مِن نَقل لوحدها جثمان سعيد ودفنه في غابة مُجاورة؟ فهي كانت ضعيفة البنية ومُنهكة مِن العمل وتربية عائلة بأسرها. نظرَت أسمى أليّ بصمت ثمّ قالَت لي: "إنتقمنا جميعًا مِن ذلك الوحش"... وخرجتُ مِن منزلها ومعي الجواب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button