بعد طلاقي بقليل، بدأتُ بالبحث عن عمَل، ليس لأنّني كنتُ مُضطرّة إلى ذلك، بل لأملأ نهاري. فالواقع انّ ابنتي وابني كانا قد تخرّجا وبدآ العمَل ويُساعدان في مصروف البيت. ثمّ سافَرَ ولَدي وباتَ يبعث المال لنا بالعملة الصعبة. أمّا بالنسبة لأبيهما، فهو تزوّجَ صبيّة كان يُواعدها أثناء زواجنا واختفى كلّيًّا.
ثمّ اقترحَت نوال ابنتي أن أستغلّ شهادتي للعمَل معها في الشركة نفسها، إذ أنّها علِمَت أنّهم يبحثون عن موظّفة. لكنّني لَم أكن أملك أيّة خبرة في مجال التأمين، فرفضتُ. بقيَت نوال تُصرّ عليّ إلى أن تجرّأتُ أخيرًا على تقديم سيرتي الذاتيّة. تفاجأتُ كثيرًا حين طلَبَ المسؤول عن الموارد البشريّة أن يراني وانتابَني الهمّ. وهكذا قصدتُ الشركة ذات صباح غير واثقة على الاطلاق مِن نتيجة تلك المُقابلة.
دخلتُ مكتب سامِر، مسؤول الموارد البشريّة، فاستقبلَني ببسمة عريضة، ربّما لإراحتي قليلاً، وبدأنا بالتكلّم عن المهام التي قد تنتظرُني. كان حديثنا سلِسًا واعترفُ أنّني كنتُ مُرتاحة للغاية. بعد المُقابلة، أوصلَني الرجُل إلى الباب وصافحَني قائلاً: "تفاءلي بالخير سيّدتي... أنا واثق مِن أنّكِ ستكونين مِن ضمن فريق عمَلنا، فمَن يُربّي صبيّة كنوال حتمًا إنسان كفوء". سُرِرتُ للإطراء كثيرًا، فكان هذا الكلام بمثابة تتويج لتعَبي مع ولدَيّ.
لدى عودة ابنتي في المساء، سردتُ لها ما حصل، وهي فرِحَت كثيرًا لفكرة عمَلي معها في المؤسّسة نفسها، وأضافَت: "سنستمتِع كثيرًا بوقتنا معًا!".
وبالفعل بدأتُ بوظيفتي الجديدة في بداية الشهر الذي تلا، وساعدَني الجميع في التعرّف على سَير العمَل وعلى عملائنا، وتفاءلتُ أنا الأخرى بالذي ينتظرُني. وكان سامِر مِن أشدّ مُشجّعيّ واحتَرتُ لكيفيّة شكره على ما يفعله. إلا أّنه وضَعَ ذات يوم وردة حمراء على مكتبي، وبعد أن سألتُ مِن حولي عن صاحب الوردة، إستنتجتُ أنّه هو، فقرعتُ باب مكتبه لأستفسِر عمّا قصدَه بالوردة. وهو ابتسَمَ قائلاً:
ـ هل أحبَبتِ الوردة؟
ـ أجل لكن... أعني لماذا؟ ما المُناسبة؟
ـ إنّها عربون تقدير لكِ سيّدتي.
ـ أشكرُكَ، لكن ماذا سيقول زملائي؟ قد يظنّون أنّكَ...
ـ وسيكونون على حقّ! أنا بالفعل مُعجَب بكِ.
ـ أجل، لكن عنَيتُ مِن الناحية الشخصيّة وليس العمَليّة.
ـ أنا أيضًا. أنتِ سيّدتي امرأة رائعة وألف رجُل يتمنّى أن يكون في حياتكِ.
ـ شكرًا للاطراء سيّد سامِر لكن...
ـ لكن ماذا؟ أيُزعجُكِ فارق السنّ بيننا؟ أنا لا أُمانِع إن كنتِ تكبريني بخمس عشرة سنة! نحن في القرن الواحِد والعشرين وتلك الأفكار باتَت بالية!
ـ للحقيقة، لَم أُفكِّر بمسألة السنّ، لأنّني لستُ مُعجبة بكَ على الصعيد الشخصيّ. لا تستأ منّي أرجوكَ!
ـ لا عليكِ. هذا لأنّكِ لا تعرفيني جيّدًا... أنا مُتأكّد مِن أنّكِ ستُغيّرين رأيكِ بي مع الوقت.
ـ أنا لا أُفكِّر بالارتباط ثانية أو بعيش قصّة حبّ مِن جديد. خُذ وردتكَ، أستاذ سامِر، ودعني أعودُ إلى عمَلي.
ـ بالطبع! لكنّكِ ستُغيّرين رأيكِ قريبًا!
ركضتُ خارجًا، فكان مِن الواضح أنّ ذلك الرجُل لَم يكن مُستعدًّا لفَهم ما قلتُه له ولقد ضايقَني الأمر قليلاً. إلا أنّني كنتُ واثقة مِن أنّ إعجابه بي كان مؤقّتًا، فالعديد مِن الرجال يهوون السيّدات الأكبر سنًا منهم مِن مُنطلق نزوة وليس أكثر. لَم أقُل شيئًا لولدَيّ وخاصّة لنوال، فلَم أشأ أن تنزعج مِن تصرّفات سامِر ويؤثّر ذلك على وظيفتها.
في اليوم الذي تلا لَم يحصل شيء يُذكَر، بل رأيتُ سامِر مرّة خلال اليوم وتبادَلنا سلامًا ودّيًّا وحسب، فارتاحَ بالي. لكن بعد يوم واحد، وجدتُ على مكتبي فنجانًا مِن القهوة وقطعة كروسان وورقة مكتوب عليها: "هنيئًا... فكّري بي وأنتِ تستمتعين بفطوركِ"، وقلبًا مرسومًا في آخِر الورقة. غضبتُ كثيرًأ إذ أنّ زميلة لي رأت كلّ ذلك، ونظرَت إليّ نظرة عتاب وكأنّني فعلتُ خطأ ما. أخذتُ فنجان القهوة وأفرغتُه في حوض المطبخ ورمَيتُ الكروسان والمكتوب أمام الجميع في سلّة النفايات الموجودة وسط المكتب، ليعلَموا أنّني لستُ موافقة على ما يجري. أمِلتُ أن يعرفَ سامِر بالذي فعلتُه أمام سائر الموظّفين ويخجَل منهم ويتوقّف عن مُضايقتي. إلا أنّ أوّل العارفين بالموضوع كانت نوال، فهي قالَت لي أثناء استراحة الظهيرة:
ـ ما الأمر؟ ماذا يدور بينكِ وبين سامِر؟
ـ لا شيء على الاطلاق!
ـ علِمتُ بمسألة الفطور الرومانسيّ الذي حضّره لكِ!
ـ أجل، وأظنّ أنّه أرادَ الترحيب بي... وليس هناك مِن شيء رومانسي بذلك الفطور!
ـ أعني أيضًا المكتوب المُرفَق.
ـ إسمَعي حبيبتي... أنا جئتُ إلى الشركة لأعمَل وليس لأحبّ، فلستُ أبدًا مُهتمّة بسامِر!
ـ لكنّني أنا مُهتمّة به!
ـ ماذا؟!؟ أنتِ مُعجبة بسامِر؟ وماذا عنه؟
ـ هو لَم ينظُر ولو مرّة إليّ منذ دخولي الشركة! أمّا بالنسبة لكِ، فهو مُتيَّم بكِ! ألا تخجلين مِن نفسكِ؟!؟ أنتِ كبيرة في السنّ!
ـ أوّلاً لستُ كبيرة في السنّ بل أكبَر منه سنًّا، وهناك فرق شاسع بين الأمرَين. وثانيًا لا دخلَ لي بمشاعره، فلَم أُشجِّعه على الاطلاق بل كنتُ واضحة تماماً معه يوم هو أهداني وردة.
ـ أهداكِ وردة أيضًا؟!؟ أيّ نوع مِن الأمّهات أنتِ؟!؟
ـ سأُقدّم استقالتي في الحال! لستُ مُهتمّة بسامِر على الاطلاق! ما بالكِ لا تفهمين كلامي؟
ـ أظنّ أنّ تقديم استقالتكِ هو ما عليكِ فعله. كَم خابَ ظنّي بكِ!
ـ وأظنّ أنّ ردّة فعلكِ هي بسبب الغيرة، فأنا لَم أفعل شيئًا.
قدّمتُ استقالتي فور انتهاء حديثي مع ابنتي وتفاجأ سامِر كثيرًا. عندها، شرحتُ له أنّ تصرفاته هي التي دفعَتني للرحيل، في حين كنتُ سعيدة بالقيام بعمَلي في الشركة. هو توسّل إليّ كَي أبقى لكنّني رفضتُ بحزم. وهكذا عدتُ إلى بيتي وإلى الأيّام الطويلة لوحدي. علاقتي بنوال بقيَت مُتوتّرة بعض الشيء، إلا أنّ استقالتي أثبتَت لها أنّني لا أُريدُ الذي استقطَب اعجابها.
مرَّت أسابيع قليلة، وصرتُ مُعتادة على عدَم العمَل خارج البيت حين قالَت لي نوال:
ـ عليكِ العودة إلى العمَل يا ماما.
ـ لماذا؟ إسمَعي... لا أُريدُ أبدًا أي سوء تفاهم بيننا، خاصّة حول ذلك الذي اسمه سامِر. هنيئًا لكِ به لكن إحترسي منه، فمِن الواضح أنّه يستسلِم لأوهامه بسهولة.
ـ أنا آسِفة جدًّا لردّة فعلي آنذاك، لكنّني كنتُ مُعجبة جدًّا به، وغضبتُ منكِ لأنّكِ نلت اهتمامه منذ يومكِ الأّوّل. أنا لَم أعُد أريدُه على الاطلاق، فيُمكنُكِ العودة.
ـ لا أريدُ العودة أبداً، فسامِر إنسان مُزعج وسيحاول مُضايقتي مُجدّدًا.
ـ لا أظنّ ذلك، فهو كما قلتِ سابقًا قد أُعجِبَ بكِ مِن مُنطلق نزوة عابرة. أرجوكِ يا ماما، أُريدُ أن تكوني معي في مقرّ عمَلي كالسابق. أرجوكِ!
لَم أفهَم إصرار ابنتي على الموضوع وسبب ذلك التغيّر المُفاجئ، فقلتُ لها إنّني سأُفكِّر بالموضوع وأُعطيها جوابًا قريبًا. وبعد تفكير مليّ، قبِلتُ بالعودة. وفي يومي الأوّل، تصرّفَ سامِر معي بطريقة عاديّة، بعد أن رحّبَ بي زملائي بفرَح ظاهر.
وبعد حوالي الأسبوع، علِمتُ مِن نوال أنّ الشركة تُنظّمُ عشاءً في بيت صاحبها لتكريم الموظّفين، وهي طلبَت منّي مُرافقتها لتشتري لكلَينا ما نرتديه، إذ أنّ صاحب الشركة وزوجته مِن الطبقة المُخمليّة. قضَينا يومًا مُمتعًا في الأسواق، وشعرتُ وكأنّ الزمان عادَ بنا إلى الوراء إلى حين كنتُ آخذ ولدَيَّ لأشتري لهما الملابس الجديدة بمُناسبة الأعياد.
وليلة العشاء، تزيّنّا ثمّ أخذَتني نوال بسيّارتها إلى العنوان المذكور. للحقيقة لَم أجِد المكان فخمًا بل عادّيًّا للغاية، لكنّني توقّعتُ أن يكون البيت مُزيّنًا بطريقة مُميّزة مِن الداخل.
تفاجأتُ بسامِر يفتحُ لنا الباب ويُرحّب بنا. نظرتُ إلى ابنتي بتعجّب وهي قالَت:
ـ هيّا أدخلي... سيأتي باقي المدعوّين قريبًا.
ـ لا، لن أدخُل... هناك خطب ما... فلستُ غبيّة، أنسيتي أنّني أمّكِ؟
ـ لا تفتعلي المشاكل يا ماما، سيبدأ العشاء قريبًا.
ـ ماذا يجري؟ هذا بيت سامِر وليس صاحب الشركة، أليس كذلك؟
ـ وإن يكن؟ أدخلي ودعيني أرحَل... هيّا!
حاوَلَ سامِر شدّي إلى الداخل مُمسكًا بذراعي، ودفعَتني ابنتي مِن الخلف. بدأتُ أصرخُ بأعلى صوتي مِن شدّة خوفي وانزعاجي، فكيف لابنتي أن تُسلّمَني إلى ذلك الرجُل وكأنّني رأس ماشية يوم العيد؟!؟
ركَلتُ سامِر ثمّ استدَرتُ نحو نوال وصفعتُها بقوّة صارخة بها: "أيّتها الابنة العقوق! تفعيلن ذلك بأمّكِ؟!؟ أعطِني مفاتيح السيّارة على الفور وإلا قمتُ بتأديبكِ جيّدًا!!!". خافَت نوال منّي وأعطَتني المفاتيح. عندها قالَ سامِر لابنتي:
ـ حسنًا... سأضطرّ لطلَب الشرطة في الصباح. إنتهى أمركِ يا نوال... سترَين ما سأفعله بكِ. كان لدَينا إتّفاق: أمّكِ مُقابل حرّيّتكِ. سيلقون بكِ في السجن كالجرذ!
لَم أفهَم ما كان يجري، فسألتُ نوال عن الأمر وهي قالَت:
ـ يُريدُ إلقاء تُهمة الاختلاس عليّ إن لَم تقبلي به... هو حضَّرَ ملفًّا ضدّي وأقنَعَ إحدى الموظّفات بالشهادة بأنّني اختلستُ أموالاً... لا أريدً الذهاب إلى السجن يا ماما! أرجوكِ أن تقبلي!
أخذتُ إبنتي ورحنا البيت حيث هي بكَت واشتكَت وأنا هدّأتُ مِن روعها. وفي الصباح، قصدتُ قسم الشرطة وأخبرتُ الشرطيّ كلّ شيء، واعدة إيّاه بأنّني لن أسمَح لسامِر السافل بأذيّة ابنتي! ثمّ قصدتُ مُحاميًا أعرفُه وحضّرنا خطّة لمُجابهة سامِر.
قامَ سامِر بالفعل بتقديم بلاغ ضدّ ابنتي، وفُتِحَ تحقيق دقيق مِن قِبَل السلطات وصاحِب الشركة. لكنّ شهادة تلك الموظّفة كانت مليئة بالثغرات وغير مُقنِعة، إذ أنّ نوال لَم تكن مسؤولة عن أيّ مال يدخل أو يخرجُ مِن الشركة بل فقط عن أمور إداريّة. فكان سامِر، بسبب شدّة رغبته بي وغضبه مِن رفضي له، قد نسيَ أنّ قضيّته لا تحتوي على أيّ دليل حسّيّ، بل فقط على شهادة تلك المرأة. وكان مِن الواضح أنّه فخّ وليس أكثر، فانقلبَ السحر على الساحر ووجَدَ سامِر نفسه مُتّهمًا. شراسة المُحامي الذي أوكلتُه قضَت على سامِر وتلك الموظّفة وتمّ تبرئة نوال.
بعد ذلك، جلستُ مع ابنتي مُطوّلاً، لأفهَم منها كيف لها أن تُبقي تهديد سامِر لها سرّيًا عنّي، وكيف أنّها كانت تنوي تسليمي له. فكان مِن الواضح أنّ التواصل بيننا كان مقطوعًا وأردتً معرفة السبب. وتبيّنَ أنّها تعتبرُني المسؤولة عن ترك أبيها لنا وتدمير عائلتنا. عندها اضطرِرتُ لسرد كلّ ما هو فعلَه بي وبالتفاصيل، وهي ذُعِرتَ لكميّة العذاب الذي تحمّلته لسنوات. فزوجي خانَني منذ ولادة أولادنا مِن دون وخزة ضمير، وأنا تحمٌلتُ الاهانة مِن أجل صغيرَيّ. طلَبتُ مِن ابني أن يأتي إلى البلَد بأقرب وقت، فكان عليّ أن أوضِّح له أمورًا كثيرة.
وهكذا، وبفضل سامِر السافِل، صفَت النوايا بين والدَيّ وبيني بصورة دائمة، الأمر الذي ساعدَهما على المضيّ قدمًا بحياتهما. فوجدَت نوال بسرعة عمَلاً آخَر... وحبيب حقيقيّ! فأحيانًا كلّ ما يتطلّب الأمر هو نقاش صريح بين الناس.
حاورتها بولا جهشان