مُذنِب ثمّ مُذنِب!

غرِقَ ابننا في البحر فتغيّرَت حياتنا إلى الأبد. حدَثَ ذلك يوم أخذَه جميل زوجي لقضاء النهار على الشاطئ، وبعد أن نبّهتُه بعدَم السماح له بدخول الماء لأنّه كان لا يزال في الخامسة مِن عمره. صحيح أنّ مازن ولَدنا كان يُجيد السباحة، إذ عوّدناه على العوم منذ نعومة أظفاره، لكن فقط في المسبَح وليس في البحر. لَم أُرافِقهما في ذلك اليوم بسبب عدَم قدرتي على المشي، بعد أن كُسِرَت رجلي جرّاء انزلاقي عن السلالم، وعاتَبتُ الله مئات لا بل ألوف المرّات على ذلك الكِسر، وإلّا تمكّنتُ مِن التواجد مع ابني ومُراقبته وإنقاذه. ولمتُ طبعًا جميل لأنّه لَم يقُم بواجباته كأب بحماية ابنه مِن المخاطر، وبدأنا نتشاجر يوميًّا على أتفَه الأمور. فالحقيقة أنّني لَم أستطِع مُسامحته، وباتَت رؤيته معي في البيت تُذكّرني بالحادِثة وبحبيب قلبي مازن.

لن أدخُل في الشقّ المُتعلِّق بحالتي النفسيّة حيال موت وحيدي، فهذا ليس محوَر سَردي للأحداث التي ستَلي. لكن اعلموا أنّ غياب مازن، والطريقة التي ماتَ بها، لازمَني ويُلازمَني على مدار السنة، وأنا على يقين أنّ تلك الأفكار ستكون الأخيرة في بالي يوم أموت بدوري.

إذًا صارَ جوّ البيت محقونًا على الدوام، وفكّرتُ جدّيًّا بالانفصال عن زوجي الذي أسمَيتُه في بالي "القاتل"، فهو بالنسبة لي مَن سمَحَ بأن يموت ابننا بينما كل ما كان عليه فعله هو مَنعه مِن الاقتراب مِن الماء، بل البقاء على الشاطئ الرمليّ واللعِب ببناء قصر مِن الرمل أو ما أشبَه، والجلوس بقربه. أمّا جميل، فقد ردَّدَ مرارًا وتكرارًا أنّه بالفعل بقيَ بجانب مازن طوال الوقت، إلّا أنّه شعَرَ بالنعاس وأغمَضَ عَينَيه لبضع ثوانِ، أو دقائق، ليستفيق على صراخ الناس عندما أدركوا أنّ الولَد الذي دخَلَ الماء قد غرِقَ.

رفَضَ جميل أن ننفصِل، ووعدَني بأنّه مُستعِدّ أن يتحمّل كلّ ردّات فعلي وكلّ كلامي المؤذي واتهاماتي وأحيانًا شتائمي، الأمر الذي حيّرَني للحقيقة، إذ اعتبرتُه مُذنبًا أكثر مِن اللازم، فهو في آخِر المطاف زوجي وأعرفُه عن ظهر قلب. وحتّى ذلك الحين، لَم أُفكِّر سوى بأمر اهماله لواجباته الأبويّة.

إلّا أنّ شيئًا بدأ يشغِل بالي، فبعد تلقّي خبَر غرَق ابني الحبيب، إمَّحَت أمور كثيرة مِن ذاكرتي، واختلطَت الأقوال والأفعال ببعضها إلى درجة أنّني خلتُ أنّني أفقِد عقلي. لكنّ الطبيب قالَ لي إن ذلك طبيعيّ جدًّا، فعقلي يَحجبُ عنّي ما بإمكانه للحفاظ عليّ، وأنّ ذكرياتي ستعودُ إليّ بالتدرّج مع استجماع نفسي وخلال فترة لا يستطيع تحديدها أحَد.

وبالفعل، صِرتُ أرى أو أسمَع في بالي أمورًا كنتُ قد نسيتُها، تحت شكل صوَر خاطفة وجُمل وأصوات مُتقطِّعة صعب وَصلها ببعضها. ومِن أبرَز ما تذكّرتُه كانت جُملة قالَها صغيري قَبل أقلّ مِن ساعة على موته، حين اتّصَلتُ بزوجي لأسأل عنهما وهو أعطى الهاتف لابني ليتكلّم معي. وقالَ مازن شيئًا لَم أفهَمه آنذاك لكنّني تغاضَيتُ عنه بسبب سماع هاتف البيت يرنّ وهو: "أجل ماما، أستمتعُ بوقتي... والبابا جالِس بالقرب منّي برفقة...". لَم أعرِف ما قصدَه ابني، فلقد قلتُ له: "برافو حبيبي، دعني أردّ على الهاتف فقد تكون جدّتكَ بحاجة إلى شيء". فالجدير بالذكر أنّ أمّي كانت بحالة صحّيّة مُتأرجِحة، وقد نجَت قَبل حين مِن أزمة قلبيّة قد تُعاودها في أيّة لحظة.

وتلك المعلومة التي تذكّرتُها شغلَت بالي ليلًا نهارًا، مَن كان برفقة زوجي في ذلك اليوم على الشاطئ؟ ولماذا هو لَم يذكُر تلك النقطة على الاطلاق؟ كان بإمكاني أن أسأله، لكنّني لَم أفعل، فشيء في داخلي أمرَني بالتروّي ومعرفة المزيد قَبل مواجهته. لكن كيف لي أن أكتشِف الجواب؟

أعترفُ أنّ ما تذكّرتُه شغَلَ بالي لدرجة أنّني وضعتُ حزني جانبًا لفترة، فشيء في داخلي قال لي إن معرفتي الجواب على سؤالي كان سيُغيّر المُعطيّات، إلّا أنّني لَم أعلَم بأيّ شكل أو مدى. لذلك بدأتُ أستعمِل الذكاء الذي لطالما امتلكتُه وتحلَّيتُ به.

وأوّل شيء فعلتُه، وكان مِن أصعب الأمور إطلاقًا، كان أنّني قصَدتُ الشاطئ الذي حصَلَت فيه الفاجِعة، فقد يعرفُ أحَد هناك ما جرى بالفعل. كانت رِجلي قد طابَت تمامًا، فاستطعتُ قيادة سيّارتي بنفسي لأُحافِظ على سرّيّة أفعالي. رحتُ في الصباح الباكِر، عند طلوع الفجر، كَي لا يشعر مازن بغيابي. وطيلة الطريق، كنتُ أذرِف الدموع وأُحاوِل تهدئة دقّات قلبي المُتسارِعة.

وصلتُ المكان وركَنتُ السيّارة وترجّلتُ، وبالكاد كانت رجلايَ قادِرتَين على حَملي وأنا أقترب مِن ذلك الشاطئ الذي رأى إبني في آخِر لحظاته، والبحر الذي أخذَه منّي إلى الأبد. وقفتُ أمامَ المشهد، ولعَنتُ الساعة التي انزلَقتُ فيها عن السلالم، أو تصديق جميل حين أكّدَ لي أنّه سيهتمّ جيّدًا بمازن ويُراقبُه مِن دون انقطاع. بكيتُ بقوّة وصرختُ وأنا أنظر إلى السماء: "لماذا يا ربّي، لماذا؟!؟"، ثمّ وقعتُ على الرمال بعد أن أُغمِىَ عليّ. فتحتُ عَينَيّ لأجِدَ نفسي على أريكة مقهى صغير شبيه بكشك يُقدِّم المرطبّات والسندويشات لروّاد البحر، ورأيتُ رجُلًا في العقد السادِس مِن عمره ينظرُ إليّ بهمّ كبير. ثمّ قال لي:

 

ـ هل آخذُكِ إلى المشفى يا صغيرتي؟

 

ـ لا، شكرًا يا عمّ... أين أنا ومَن أنتَ؟

 

ـ أنا صاحب المقهى... وأعيشُ هنا قرب البحر الذي أعشقُه.

 

ـ تعني قرب البحر اللعين الذي يستمتِع بقتل أولاد الناس! كَم أكرهُه!

 

ورويتُ له ما حدَث لابني الحبيب فامتلأت عَيناه بالدموع. إلّا أنّه قال:

ـ البحر كريم، يُعطينا السمَك والملح ويشفي أجسادنا... قد يقترفُ الأخطاء أحيانًا، لكن عن غير قصد. أعرِفُ عمّا تتحدّثين، فللأسف رأيتُ الحادثة بعَينَيّ، فلقد سمعتُ صراخ الناس حين انتشلوا ابنكِ المسكين مِن الماء. كنتُ قد رأيتُه قَبل دقائق حين جاء يشتري منّي كيسًا مِن الشيبس.

 

ـ كفاكَ أرجوكَ! لا تُعطِني أيّة تفاصيل! فأنا أمّ!

 

إعتذَرَ الرجُل بحرارة، وقدّمَ لي كوبًا مِن العصير وجلَسنا سويًّا بصمت. لَم يكن هناك مِن زبائن بعد، فكنّا لوحدنا ننظَر معًا إلى الامتداد الأزرق أمامنا وفي قلبَينا مشاعِر مُتناقِضة.

ثمّ استدَرتُ نحو الرجُل وسألتُه:

ـ هل ألومُ زوجي أم أعتبِر الأمر قضاءً وقدرًا؟ ساعِدني أرجوكَ!

 

ـ لماذا جئتِ اليوم إلى هنا وفي هذه الساعة المُبكِرة؟

 

ـ لأنّني تذكّرتُ شيئًا قاله لي ابني قبل أقلّ مِن ساعة مِن... مِن رحيله، ومفاده أنّه وأبوه كانا برفقة أحَد. ومِن الضروريّ أن أعرِف الجواب لتساؤلاتي. جئتُ أنتظر روّاد الشاطئ لأعلَم الحقيقة.

 

ـ أنتِ على حقّ، عليكِ معرفة ما يشغلُ بالكِ لترتاحي وتبكي ابنكِ على سجيّتكِ. بالفعل لَم يكن زوجكِ وابنكِ لوحدهما.

 

ـ حقًّا؟!؟ مَن كان برفقتهما؟

 

ـ إمرأة... في الواقع خلتُها أمّ الولَد الذي غرِقَ، إلى حين قلتِ لي منذ دقائق مَن تكوني... فهي وأب الولَد تصرّفا وكأنّهما ثنائيّ شرعيّ.

 

ـ يا إلهي... هذا يعني أنّ جميل لَم يكن يُراقب ابننا كما ادّعى، بل كان مشغولًا مع عشيقته!!!

 

ـ ربّما تكونين على حقّ... مَن يدري؟

 

ـ هو أعطاها موعدًا على الشاطئ، عالِمًا أنّني غير قادرة على مُرافقته وابننا بسبب رِجلي! ماتَ مازن بسبب انشغال زوجي عنه وليس لأنّه أغمَضَ عَينَيه لبرهة بسبب النعاس! بل كان يُغازِلُ ويُلاطِف ويُحدِّث ويُعانِق امرأة غيري! سأقتله! سأشرَب من دمه!

 

ـ ... ولن يعودَ ابنكِ، للأسف. إبقِ هنا لتهدئي ولا تعودي إلى بيتكِ الآن، أرجوكِ.

 

إتّصَلَ بي جميل عندما استفاقَ ولَم يجِدني بالقرب منه، فتمالَكتُ أعصابي وطلبتُ منه موافاتي إلى الشاطئ. هو استغرَبَ كثيرًا وحاوَلَ إقناعي بالعودة إلى البيت لكنّني بقيتُ مُصِّرة إلى أن قبِلَ.

وجدَني زوجي واقِفة في المكان نفسه الذي جلَسَ فيه ابننا لآخِر مرّة، حسب قول صاحب المقهى، فوقَفَ بالقرب منّي بصمت. ثمّ استدَرتُ نحوه وقلتُ:

ـ لقد قتلتَ وحيدنا بسبب شهواتكَ... لا تنكُر فأنا أعرِفُ أنّ عشيقتكَ كانت معكَ ولهذا السبب أهمَلتَ واجباتكَ كأب. أنتَ قتلتَ روحًا فتيّة كان أمامها مُستقبل وأحلام... قتلتَ قلبي الذي لن يعرِف الفرَح أبدًا، بعد أن ملأه حزن لا نهاية له... قتلتَ بسمتي وآمالي ورجائي... قتلت الرابط المُقدّس الذي كان بيننا، لأنّكَ اعتبَرتَ نفسكَ تستحقّ أن تكون لكَ بديلة عنّي تراها سرًّا وتستمتِع معها حين تشاء... أنتَ كاذِب وخائن ومُجرم... ووقِح لأنّني أردتُ تركَك بعد موت ابننا وبقيتَ أنت مُصِرًّا على مواصلة زواجنا!

 

ـ لَم تعنِ لي تلك المرأة شيئًا.

 

ـ بل عنَت لكَ كفاية لتُخطِّط وتُنفِّذ، عالِمًا تمام العلم أنّ ما تفعله هو خطأ.

 

ـ لا أُحبُّها... بل قطعتُ علاقتي بها فورًا بعد الحادثة.

 

ـ أيّ بعد أن شعَرتَ بالذنب! يا ليتكَ شعَرتَ بالذنب قَبل ذلك اليوم المُريع، لَما ماتَ حبيب قلبي! قُل لي، لو لَم يمُت مازن وعاد مِن الشاطئ وأخبرَني أنّ امرأة كانت موجودة معكما، كيف كنتَ ستِبرّر الأمر؟

 

ـ لقلتُ إنّها زميلة صادَفَ وجودها في المكان نفسه. سامحيني، أرجوكِ، فانا أب وقلبي مُحطََّم أيضًا.

 

ـ أنتَ لستَ أبًا ولا زوجًا، أنتَ ذكَر يركضُ وراء شهواته. ستذهب الآن إلى البيت وتجمَع أمتعتكَ وترحَل! ولا أريدُ أن أراكَ أو أرى أيّ أثَر لكَ حين أعودُ مساءً. وإن لَم تفعل، سأقولُ للعالَم بأسره كيف ماتَ ابننا ولماذا!

 

ـ لكن...

 

ـ وستُطلّقني بأسرع وقت مُمكن، وإلّا سترى ما باستطاعة أمّ فقدَت ولدَها أن تفعل! هيّا، أيّها القاتِل!

 

رحَلَ جميل وطلّقَني، وبقيَ يتّصل بي لفترة، لكنّني لَم أُسامِحه. وانتهى به المطاف مُتزوِّجًا وأبًا مِن جديد. أمّا أنا، فأعيشُ مع ذكرى مازن، وهذا يكفي بالنسبة لي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button