مُديري وعدوّي!

كان لا بدّ لي أن أبقى في عمَلي، حتّى لو عنى ذلك أن أعمَل برفقة سهيل طوال النهار. فذلك الرجُل كان خطيبي، وتركتُه لأنّه لَم يكن جديرًا بثقتي على الاطلاق. وكانت المشكلة أنّه مُديري الذي أتلقّى التعليمات منه، تعليمات عليّ إطاعتها وإلا وجدتُ نفسي بلا مدخول. لو عادَ الأمر لي فقط، لرفضتُ البقاء في الشركة، لكن كان لدَي ولدان عليّ أن أصرف عليهما بعدما ماتَ والدهما حين كانا طفلَين صغيرَين. في الواقع، وجدتُ آنذاك في سهيل ليس فقط زوجًا لي بل أبًا لولَدَيّ.

وهكذا صرتُ أسيرة قرار انسان أرادَ الانتقام منّي، لأنّني لَم أسمَح له بمُمارسة "رجوليّته" مع نساء أخريات، بل عصَيتُ أمره بعدَم البقاء معه وتحمّل كلّ شيء مِن دون اعتراض. وبدأ العمَل يتكاثَر مِن حَولي، وصِرتُ مُجبرة على البقاء في الشركة بعد الدوام لإنهاء الملّفات وإلا تلقّيتُ إنذارًا مِن "مُديري". لَم أقُل شيئًا بل اشتغَلتُ ليلة بعد ليلة مِن أجل ولَدَيّ اللذَين اضطرّا للبقاء لوحدهما أثناء تغيّبي.

سألَتني إحدى زميلاتي كيف أتحمّل هكذا مُعاملة، فالكلّ كان يعلَم بموضوع خطوبتي لسهَيل وفسخها، ويرى كيف هو يُعاقبُني. أجبتُها بأنّني موظّفة جيّدة، وأفعَل ما يُطلَب منّي، فهزَّت برأسها أسفًا عليّ.

إستمرّ الوضع هكذا لأشهر طويلة... إلى حين جاء إلى الشركة ابن صاحبها للتمرّن قبل أن يحصل على شهادته الجامعيّة في إدارة الأعمال. كان حسّان شابًّا مُهذّبًا ولطيفًا للغاية، وسُرِرنا جميعًا به إذ أنّه أضفى على الشركة جوًّا مِن الفرح وروح الشباب. لَم يُعجِب سهيل أن يكون حسّان محطّ إعجاب واهتمام الجميع، فكرَهَه على الفور وبدأ يجِدُ له شتّى السيّئات، لكن ما مِن أحَد أصغى له، بل العكس. وزادَ سهيل غيرة حين لاحظَ كمّ أنّ الشاب الجديد باتَ مُقرّبًا منّي. فالحقيقة أنّني رأيتُ فيه صورة مُستقبليّة لولدَيّ، وهو رأى فيّ صورة الأمّ لأنّه فقَدَ والدته وهو صغير. ولَم يكن هناك أبدًا مِن إعجاب بيننا، خاصّة أنّ فارق السنّ كان شاسِعًا. على كلّ الأحوال، كان سهيل الوحيد الذي تصوّرَت له أمور غير موجودة، وزادَ شراسة معي. فصارَ يُكلّمني بطريقة مُستفِزّة جدًّا مُستعمِلاً ألفاظًا مُهينة. وسمِعَه حسّان في إحدى المرّات فواجهَه طالبًا منه عدَم إهانتي في المُستقبل. سكَتَ له خطيبي القديم فقط لأنّه ابن صاحب الشركة، لكنّني قرأتُ في عَينَيه رغبة قوية بأذيّة ذلك الشاب اللطيف. حُلَّ المشكل بسرعة وغيّر سهيل طريقة توجيه الكلام لي.

لكنّني كنتُ أعلَم أنّ ذلك الرجُل اللعين لن يتراجَع عن أذيّتي، بل سيجد أمرًا آخَر بسرعة. ولَم أكن مُخطئة، فبعد أيّام قليلة على المواجهة التي حصلَت بين سهيل وحسّان، قرّرَ خطيبي السابق فصلي لأنّني رفضتُ الانتقال إلى فرع الشركة الثاني الذي يقَع في منطقة بعيدة مِن البلاد. فكيف لي أن أترك ولدَيّ لوحدهما؟ أم أنّه يُريدُني أن أغيّر لهما المدرسة، في حين أنّهما كانا في سنتهما الأخيرة؟!؟ فبالطبع رفضتُ! ركضتُ أُخبرُ حسّان بقرار الفصل وهو سأل مُحامي الشركة عن الأمر. وللأسف، كنتُ قد وقَعتُ على عقد عمَلي مِن دون قراءته بالكامل، وكان فيه بند يلزمُني بالانتقال إلى حيث يُريدُني مُديري. يا إلهي... ماذا سيحصلُ لي؟!؟ بدأتُ بالبكاء، وواساني حسّان مُطمئنًا وقائلاً إنّ أباه هو في آخِر المطاف صاحب الشركة والآمر الناهي، فلا داعٍ للقلَق. وكَم سُررِتُ عندما طلبَني مُحامي الشركة لأوقِّع على عقد عمَل جديد... لا يحتوي على ذلك البند! كدتُ أن أُقبِّل ذلك المُحامي مِن كثرة فرَحي!

ولدى عِلمه بالذي حصَلَ، إنتابَ سهيل غضب لا يوصَف، وقالَت لي سكرتيرته إنّه بدأ يرمي كلّ ما هو موجود في مكتبه أرضًا أو على الحائط وهو يشتم ويُهدّد. خفتُ كثيرًا لأنّ ذلك كان يعني أنّ إهانة تركي له صارَت مقرونة بإهانة إبطال قراره في ما يتعلّق بي، وتوقّعتُ الأسوأ. تمنَّيتُ ألا يتركنا حسّان أبدًا، لكنّني كنتُ أعلَم أنّ ذلك اليوم آتٍ، وأنّني سأجدُ نفسي مِن دون مَن يحميني مِن ذلك الوحش! هدأَت العاصفة وارتاحَت الأجواء في الشركة، وعادَ العمَل إلى طبيعته ولَم يعُد يُضايقني سهيل أو يُبقيني بعد الدوام. هل أنّه فهِمَ أخيرًا أنّ ليس هناك مِن فائدة في مُحاربتي أم أنّه يُخطّط بصمت؟

إنتهَت فترة تمرّس حسّان في الشركة، فودّعَنا جميعًا وذرفتُ أنا الدمع لدى مُغادرته، فكنتُ قد تعوّدتُ على وجوده المرِح والإيجابيّ بيننا. وحده سهيل كان فرِحًا لا تُبارح البسمة وجهه فكرَهه الجميع أكثر مِن قَبل. لكن في اليوم التالي، أخبرَتني سكرتيرته أنّ والد حسّان، أيّ صاحب الشركة، إتّصَلَ شخصيًّا بسهيل وأوصاه بي بطريقة حازِمة. هي كانت قد استمَعت إلى المُكالمة بعد أن شعرَت أنّ الحديث سيكون مُهمًّا، فكان والِد حسّان يتبادَل التعليمات مع خطيبي القديم عبر البريد الإلكترونيّ أو الاجتماع عبر الزوم. وفي اليوم نفسه، قدَّمَ سهَيل استقالته.

عمّ الفرَح الشركة، فسهيل لَم يكن محبوبًا على الاطلاق بين الموظّفين، لكنّ الفرحة كانت قصيرة الأمد، فاستبدال سهيل كان صعبًا لأنّ الشركة كانت بحاجة ماسّة إليه لاجتياز الأزمة الاقتصاديّة التي اجتاحَت البلاد والمنطقة. فجَلب مُدير جديد كان يعني ربّما الافلاس أو على الأقلّ التراجع أمام مُنافسينا. وهكذا إزدادَت قوّة سهيل وكذلك نفوذه وطغيانه. وعلِمتُ بعد فترة قصيرة أنّ شرطه الوحيد للبقاء في منصبه كان أن أرحَل. جرَت مُفاوضات طويلة حول الموضوع، فاتّفَقَ الفريقان أن أشغل منصبًا آخَر بعيدًا عنه، إمّا في فرعنا في آخِر البلاد... أو في المستودع! كنتُ أعلَم أنّ حسّان هو الذي وقَفَ دون طردي، إلا أنّه لَم يستطِع فعل ما هو أكثر مِن ذلك، وكنتُ مُمتنّة له. فمِن دون مدخول كنّا سنموت جوعًا، أو يضطرّ ولدايَ لترك مدرستهما والعمَل باكرًا لِتحصيل المال، الشيء الذي كان مرفوضًا بالنسبة لي. لِذا قبِلتُ بالموجود وانتقلتُ للعمَل في أحَد مستودعاتنا الكبيرة. هناك تغيّرَ كلّ شيء عليّ، وتعِبتُ كثيرًا للتأقلم مع مهامي الجديد. فكنتُ مسؤولة عن عاملين مِن الذكور لَم يتقبّلا تلقّي الأوامر مِن امرأة مهما كان منصبها. أوشكتُ مرّات عديدة على التراجع والاستقالة، إلا أنّ حسّان، الذي بقيتُ على اتّصال معه، كان يحثّني على المُثابرة.

في تلك الأثناء، عقَد سهيل خطوبته على التي خانَني معها وفعَلَ جهده كي أعلَمَ بالأمر، ليُفهمَني أنّه سعيد في حياته مِن دوني، مع أنّني كنتُ أعرِف أنّ علاقته مع تلك المرأة لَم تكن جدّيّة بل فقط لتمضية الوقت. لَم أتأثّر بالخبَر على الاطلاق، بل أمِلتُ أن يلتهيَ عنّي وينساني بصورة دائمة! فهو كان بالنسبة لي غلطة اقترفتُها في مرحلة مِن حياتي.

لكنّ خطوبة سهيل زادَت مِن امتعاضه منّي، فهو ربَطَ نفسه بتلك المرأة ليس حبًّا بها بل للانتقام منّي. وهكذا هو أرسلَها ذات يوم إلى المُستودَع للتشفّي منّي، فالواقع أنّ خطيبته الجديدة كانت أصغَر منّي سنًّا وأكثر جمالاً. لكنّني كنتُ أشفَق عليها، لأنّني أعرفُ سهيل جيّدًا وأتوقّع لها صدمات كثيرة في المُستقبل.

إقتربَت عايدة مِن مكتبي، هكذا كان اسمها، وجلسَت قبالتي على كرسيّ مِن دون أن آذَن لها بذلك وقالَت مُبتسمة:

 

ـ جئتُ أرى أين تختبئ الفئران.

 

ـ هنا، كما ترَين.

 

ـ حسنًا... أيّ أنّكِ في مكانكِ.

 

ـ أجل... وأنتِ اليوم في مكاني.

 

لَم يُعجُبها أبدًا جوابي لأنّه كان صائبًا، فتابعتُ بكلّ هدوء:

 

ـ وسرعان ما ستصبحين فأرة بدوركِ. إسمعي، لا أدري لماذا أنتِ هنا وماذا تُريدين إثباته ولِمَن، لكن اعلَمي أنّني بالفعل مُرتاحة لخبَر خطوبتكما، صدّقيني.

 

ـ أنتِ تكذبين.

 

ـ لا... ستفهمين قصدي بعد فترة. حبيبتي، أنتِ لا تزالين صبيّة، لا تهدري مُستقبلكِ مع إنسان مثل سهيل. هو خانَني معكِ وسيخونكِ مع أخرى.

 

ـ بل يُحبّني صدقًا! وأنا أحبّه بلا حدود! إنّه كلّ شيء بالنسبة لي!

 

ـ لا تضَعي آمالكِ كلّها في إنسان واحد، فإن خسِرتِه ستخسرين كلّ شيء.

 

ـ على خلافكِ، أنا أعلَم كيف أُبقي رجُلاً معي! ولا مُقارنة بيننا مِن حيث الجمال والسِن!

 

ـ الخائن هو خائن... ولا يتوقّف عند جمال أو سنّ بل يُريد دائمًا ما لا يملكه.

 

رحلَت عايدة غاضبة بعد أن فشِلَت بإزعالي أو مُضايقتي، وابتسَمتُ لهذا الكمّ مِن الغباء. لستُ مُتأكّدة مِن الوقت الذي مضَى بين زيارة عايدة لي وسماعي الخبَر، لأنّني كنتُ قد وضعتُ تلك الحادثة ورائي وانشغَلتُ بتسوية الأمور مع عمّال المُستودع. فذات يوم اتّصلَت بي سكرتيرة سهيل وقالَت لي بحماس ممزوج بالذهول:

 

ـ أسمِعتِ الخبَر؟!؟

 

ـ عمّا تتكلّمين؟

 

ـ سهيل... إنّه في المشفى! في غيبوبة! لا يعرفون إن كان سيستفيق يومًا أو لا! أتتصوّرين؟!؟

 

ـ ماذا؟!؟ ما الذي حصَلَ له؟ هل وقَعَ ضحيّة حادث ما؟!؟

 

ـ لا!!! أيّ حادث تتكلّمين عنه؟!؟ هي حاولَت قتله!

 

ـ مَن؟

 

ـ خطيبته! هي موقوفة الآن لدى الشرطة! في الواقع هي التي سلّمَت نفسها للسلطات!

 

ـ هل بإمكانكِ أن تتكلّمي بوضوح؟!؟

 

ـ حسنًا... علِمنا أنّ سهيل أهانَ عايدة وتركَها بعد أن قالَ لها إنّه خطبَها صوَريًّا وفقط لإغاظتكِ، وإنّه لا يعتبرُها سوى مصدر تسلية ولن يتزوّج مِن أمثالها أبدًا، بل يُريدُ لنفسه زوجة مُحترمة! عندها تناولَت إناءً للزهور كان بجانبها وضربَته به على رأسه ففقَدَ الوعي على الفور... إنّه يُعاني الآن مِن نزيف في الدماغ!

 

ـ غير معقول!!! مع أنّني نبّهتُها منه! يا إلهي... دمّرَت عايدة حياتها مِن أجل رجُل حقير.

 

ـ بالفعل حقير.

 

ـ لا أقول إنّه يستحقّ ما حصَلَ له، لكنّ تصرّفاته وعدَم احترامه للناس وللنساء خاصّة لم يكن ليُنذِر بالخيَر أبدًا. فنهاية هكذا أناس هي دائمًا إمّا حزينة أو عنيفة. أدعو أن يشفيه الله وأن تأخذ المحكمة بعَين الاعتبار أنّ سهيل استفزّ عايدة وأهانَها.

 

ـ لا يهمّني أمر أيّ منهما! فكلاهما راشدان وعليهما تحمّل نتائج أعمالهما.

 

ـ قد تكونين على حقّ... ماذا سيحصل الآن برأيكِ؟ مَن سيُدير الفرع؟

 

ـ سمِعتُ أنّ حسّان عائد.

 

ـ حقًّا؟!؟

 

ـ أجل... فهناك بالفعل عدالة في هذه الدنيا!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button