وقعَت عَينايَ على إعلان يطلبُ موظّفة مبيعات ذات خبرة لِمحلّ للمجوهرات، فأسرَعتُ بِبَعث سيرتي الذاتيّة لأنّني كنتُ بالفعل الشخص الذي يبحثون عنه. الواقِع أنّني عملتُ في محلّ للمجوهرات معروف إلى حين توفّى صاحبه وأغلَقَ ورثته المصلحة. إشتغلتُ هنا وهناك بعد ذلك، لكن ليس في المجال نفسه الذي كنتُ أحبُّه وأعرِفه عن ظهر قلب. وهكذا تمّ اختياري وأُجرِيَت لي مُقابلة مع السيّد باسم، صاحب المحلّ والسيّدة وداد زوجته، ثنائيّ في العقد السادس مِن عمرهما. إكتشَفتُ لاحِقًا أنّ الزوجة هي صاحبة المحلّ الفعليّة لكنّ الزوج هو مَن يُديرُ الأعمال بسبب صحّتها المُتأرجِحة.
بدأتُ العمَل بعد أيّام قليلة وكنتُ سعيدة للغاية، وكذلك خطيبي الذي رأى أنّ عمَلي الجديد سيُعيد لي الفرحة والنشاط، لأنّني كنتُ مُحبطة في الأواني الأخيرة بسبب مكوثي في البيت لفترة أشهر، بعد أن تركتُ عمَلي الأخير لأنّه لَم يُعطِني الحماس اللازم. إضافة إلى ذلك، راتبي الجديد كان سيُسرِّع بزواجنا، إذ أنّ الشاب الذي كنتُ أنوي الزواج منه لَم يكن ثريًّا، بل ذو دخل مُتوسّط ويؤجِل مسألة الزواج بسبب حالته المادّيّة. أعجبَني العمَل لدى السيّد باسم والسيّدة وداد، فهما كانا لطيفَين معي، وكذلك الزبائن الذين اعتادوا عليّ بسرعة. وبفضل خبرتي، إستطعتُ الحصول على ثقة الجميع مِن حيث الذوق الرفيع والنصائح المُفيدة... والأمانة. فالعمَل في محلّ يحوي الذهب والماس والأحجار الكريمة، يتطلّب درجة نزاهة عالية.
لَم تعُد تأتي السيّدة نوال إلى المحلّ بسبب أوجاعها، لكنّها بقيَت على تواصل هاتفي دائم معي. إضافة إلى ذلك، هي كانت تُراقبُ المحلّ وعمَلي بواسطة الكاميرات التي ملأت المكان، الأمر الذي طمأنَ بالي، فهكذا، كنتُ مؤمّنة ضدّ أيّ شيء قد يحصل، أعني سرقةٍ ما مِن قِبَل لصوص مُحترفين.
لكنّني لَم أكن مُهيّأة لِما حصَلَ لاحقًا، صدّقوني.
فذات صباح، عندما دخلتُ المحلّ الذي كنتُ أفتحُه بنفسي، تفاجأتُ بإحدى الواجهات مكسورة ومُحتواها مفقود! أسرعتُ بالاتّصال بالسيّد باسم وزوجته، فركضَ الرجل بسرعة إلى محلّه ليتفقّد الأضرار. وأوّل شيء فعلَه كان تفقّد أشرطة الفيديو والكاميرات، لكن للأسف، كان السارق قد قطَعَ الأسلاك! عندها هو استدارَ نحوي واتّهمَني بالسرقة! بدأتُ أبكي وأقسمُ وأتوسَّل، خاصّة عندما قالَ لي إنّه سيتّصل بالشرطة ويسجنُني أنا! وبالفعل إتّصَلَ بالسلطات وأتى مُحقِّق مع شرطيّين ورفَعوا البصمات، بما فيها بصَماتي، وأخذوا أقوالي وأقوال السيّد باسم. ثمّ طُلِبَ منّي ألّا أُغادِر المنطقة أو البلاد فقد يحتاجوني لمزيد مِن الأسئلة. ركضتُ أُخابِر خطيبي الذي أخَذَ يُطمئنُني بأنّ الشرطة ستجِد الفاعِل بسرعة، وأنّ اسمي لن يتلطَّخ بهذه التهمة. تمَّ طَردي طبعًا، ومكَثتُ في البيت أبكي طوال الوقت بالرغم مِن مُساندة أهلي لي.
عرفتُ أنّ المجوهرات كانت مؤمّنة، فلَم يتكبّد صاحبَي المحلّ أيّة خسارة، الأمر الذي أراحَني، لكن سرعان ما صِرتُ مُجبرة على الذهاب إلى قسم الشرطة بين الحين والآخَر للاستجواب. وما ساعدَني، كان أنّ المُحقِّق سأَلَ عنّي لدى ورثة صاحب المحلّ الذي عمِلتُ فيه في ما مضى ولدى زميلاتي السابقات، وتبيّنَ أنّني لطالما كنتُ إنسانة نزيهة فمِن المُستبعَد أن أتحوَّل فجأة إلى سارِقة مُحترِفة، إلّا أذ كان لدَيّ شريك أو شركاء. وهذا كان أيضًا رأي شركة التأمين، التي هي الأخرى كانت تجري تحقيقًا مِن جانبها قَبل أن تدفَع ثمَن المجوهرات المفقودة والذي كان باهِظًا.
ثمّ توجّهَت الأنظار إلى خطيبي، الذي كان بإمكانه أن يكون شريكي لا بَل الرأس المُدبِّر. لكنّه كان هو الآخَر مواطنًا عاديًّا للغاية وسجلّه العدليّ نظيفًا. فلَم يبقَ في الصورة إلّا احتمالَان: لصوص مِن الخارج... أو صاحبَا المحلّ!
صعُبَ عليّ أن أتصوّر أنّ السيّد باسم وزوجته لصَّان يسرقان محلّهما ربّما بسبب سنّهما ولطفهما، لكن مَن يدري ما يوجَد لدى الناس مِن أسرار؟ مرَّت الأسابيع ولَم يظهَر شيء، لكنّ الشرطة وشركة التأمين كانا يعملان في الخفاء، كلّ منهما لأسبابه الخاصّة. أمّا بالنسبة لي ولخطيبي، فتلك الحادثة أثَّرَت على علاقتنا كثيرًا، خاصّة مِن جانبي، فلَم أتصوّر أن أجِدَ نفسي ربّما في السجن. فخِفتُ أنّ أُتّهَم رسميًّا إن لَم يجِدوا الجاني وتُلصَق بي التهمة! يا للعار لي ولأهلي! وهل كنتُ قادِرة على تحمّل الحياة في السجن؟!؟ فضَّلَ خطيبي أن ننفصل على أن يتزوَّج مِن لصّة، على الأقلّ في نظَر الناس، وما كان بيننا... ذهَبَ مع المجوهرات المسروقة.
لكن ذات يوم جاءَني اتّصال مِن سيّدة لا أعرفُها، إتّضَحَ أنّها تعمَل لصالِح شركة التأمين التي على وشك دفع مبلَغ كبير لصاحبَي المحلّ. وهي طلبَت أن تزورَني، فقبِلتُ خاصّة أنّها تؤمِن ببراءتي بالرغم مِن أنّ التحقيقات تتَجِه نحو إدانتي. جلستُ معها في صالوننا بعدما طلَبتُ مِن أهلي أن يتركونا لوحدنا، تجنّبًا لأيّ تدخّل عاطفيّ مِن قِبلهم. ثمّ بدأَت السيّدة بطرح أسئلة عليّ أدهشَتني:
ـ ما مدى معرفة خطيبكِ بالسيّد باسم والسيّدة وداد؟
ـ خطيبي السابق، مِن فضلكِ، فهو فسَخَ الخطوبة بسبب هذه القضيّة.
ـ هذا كان عذره؟
ـ ماذا تعنين؟
ـ لا شيء... أجيبي مِن فضلكِ، فأنا إلى جانبكِ.
ـ هو لا يعرفهما كثيرًا، بل جاءَ مرّات قليلة إلى المحلّ ليطمئنَّ عليّ، فهو... أعني كان، يخافُ عليّ كثيرًا لأنّني أعمَل في مجال خطِر.
ـ هل كنتِ لوحدكِ حين هو جاء ليراكِ؟
ـ لا، بل كان هناك صاحب المحل أو زوجته وأحيانًا الاثنان معًا.
ـ حسنًا... يعني أنّ معرفته بهما سطحيّة، أو العكس؟
ـ سطحيّة، فهو لَم يتبادَل الكلام معهما كثيرًا، فقط بعض المُجاملات.
ـ حسنًا... وبعد السرقة، هل كان على اتّصال بهما على حدّ معرفتكِ؟
ـ أبدًا، فقد كنّا مشغولَين بالقضيّة وكيفيّة إبراز براءتي.
ـ حقًّا؟
ـ ألا تُصدّقيني؟!؟ هل جئتِ لإهانتي؟
ـ لا! لا! لا تُسيئي فهمي، فأنا قصدتُ شيئًا آخَر.
ـ إسمَعي، لقد أجبتُ على أسئلتكِ، وأريدُ معرفة السبب وراءها. هذا مِن حقّي، أليس كذلك؟
ـ طبعًا... سأشرَحُ لكِ ما لدَيّ... الشركة توظِّفُ دائمًا تحرّيًّا لمُتابعة القضايا المُكلِفة لنا، كهذه السرقة. وهو أعطاني تقريره البارِحة ومفاده أنّ خطيبكِ السابق على تواصل دائم مع السيّد باسم والسيّدة وداد، فهو يزورُهما في بيتهما وفي المحلّ...
ـ ربّما ليُساعِد في قضيّتي.
ـ ... وهو اشترى مؤخّرًا سيّارة جديدة باهظة الثمَن. قولي لي، هل لدَيه المال ليصرِفه على سيّارة حديثة الطراز؟
ـ لا، فهو ذو دَخل محدود. لكن... ماذا تقصدين؟ أتعنين أنّ له دَخلًا بالسرقة؟
ـ هذا ما نظنّ، فعلى الأرجَح أنّه تواطأ مع صاحبَي المحلّ لافتعال سرقة، وقبض المال مِن جرّاء بوليصة التأمين.
ـ وتتّهمُني الشرطة؟ مِن المُستحيل أن يفعَل هذا بي! فهو يعلَم أنّني سأكون أوّل شخص يشكّون به! هو يُحبّني كثيرًا وكنّا سنتزوّج! وإن ترَكَني، فقد فعَلَ ذلك مُجبَرًا!
ـ ألأنّه يُحِبُّكِ هو خطَبَ صبيّة أخرى يُريدُ الزواج منها بعد فترة قصيرة؟
ـ ماذا؟!؟ أنتِ تكذبين! لماذا تفعلين ذلك بي؟ لماذا الأذيّة المجّانيّة؟!؟
ـ إنّها الحقيقة، فهذا ما ورَدَ في تقرير التحرّي. إسمعي، لقد أعطَينا التقرير للشرطة وإنّها مسألة ساعات قَبل أن يتمّ القبض على خطيبكِ السابق، وسيطلبونكِ للإدلاء بشهادتكِ. تذكّري كلّ كبيرة وصغيرة، ولا تتأخّري في فضح ذلك المُحتال الذي وضعَكِ مِن دون وخزة ضمير تحت مِجهَر العدالة.
رحلَت السيّدة، وبدأتُ أبكي لأنّ مِن الواضح أنّ حبّ خطيبي لي كان سطحيًّا، لدرجة أنّه فضَّلَ المال على الحفاظ عليّ وعلى سمعتي. جلَستُ لوحدي وحصَرتُ تفكيري بكلّ التفاصيل، وتذكّرتُ أنّه سألَني بعد أوّل زيارة له للمحلّ إن كانت المجوهرات مؤمّنة أم لا، وبرَّرَ سؤاله بأنّه شاهَدَ فيلمًا يحكي عن ذلك. مرّة أخرى، هو قالَ لي إنّه يعرفُ أين يسكن صاحبَي المحلّ. وما فاجأني أنّني أنا بالذات لا أعرِف عنوانهما، لكنّه عادَ وقالَ لي إنّه رأى صدفةً السيّد باسم يدخلُ ليلًا مبنىً فاستنتجَ أنّه يسكن هناك.
هذا كلّ ما تذكّرتُه ولَم يكن مُهمًّا بالنسبة للقضيّة، إذ أنّ خطيبي السابِق أعترَفَ بكلّ شيء بعد أن استجوبَه المُحقِّق لساعات طويلة، وواجَهَه بالأدلَة الموجودة ضدّه. وهكذا هو اعترَفَ بأنّ الفكرة كانت فكرته، إذ قَصَد صاحبَي المحَلّ ذات مساء في بيتهما وعرَضَ عليهما سرقة المُجوهرات بنفسه وتقاسم مال التأمين معهما. ثمّ اعترَفَ السيّد باسم وزوجته بكلّ شيء، لكنّ أكثر ما أحزَنَني هو أنّ الثنائيّ تفاجآ في البدء لأنّ خطيبي السابَق يُعرِّضُني للسجن، وقالا له إنّه مِن غير الاعتياديّ أن يُضحّي المرء بخطيبته، فأجابَهما: "أنا لا أحبُّها فعليًّا، فلقد وجَدتُ صبيّة أخرى أعجبَتني أكثر، وأنوي الزواج منها لكنّي بحاجة إلى المال، والكثير منه.
بالرغم مِن تبييض صفحتي ودخول المُذنبين السجن، لَم أعمَل بعد ذلك في مجال المُجوهرات، بل فضّلتُ مُجالَسة الأولاد، وهو عمَل مُريح وآمِن ويُعطيني فرَحًا كبيرًا. لكنّني لَم أجِد بعد شريك حياتي، ربّما لأنّه يصعَب عليّ الوثوق بِرجُل، إلّا أنّني أعلَم أنّ يومًا سيأتي وأتعرَّف على مَن يُنسيني فشَلي في الحبّ.
حاورتها بولا جهشان