مَن يخونُ مَن؟

حين رأيتُ الزهور المُعلّقة على مدخل المبنى وسلالمه، علِمتُ أنّ صاحبَي الشقّة آتيان بين يوم وآخر. كنتُ أترقّب وصولهما، وحضَّرتُ سلّة مليئة بالحلوى لأُقدّمها للعروسَين في أوّل فرصة. للحقيقة، كنتُ أحبُّ فكرة الزواج، بعد أن بعثَ لي الله أفضل زوج على الإطلاق، ورزقَني ابنة رائعة بلغَت الثانية مِن عمرها. باقي سكّان المبنى لَم يتأثّروا كثيرًا بالحدَث، ربمّا لأنّهم أكبر سنًّا، وتركوا أنفسهم يغرقون في هموم الحياة. فبالنسبة لي، سرّ الزواج الناجح كان أن أُنسِيَ تامر زوجي مشاكله في العمَل، بالحفاظ على بيت جميل وطهو أطيَب المأكولات والاهتمام بجمالي وأناقتي. في الواقع، كنتُ معروفة باهتمامي بمظهري الذي كان مُميّزًا، إذ أنّ شعري كان مصبوغًا باللون الأحمر الجميل، وأضَع المساحيق وأُبقي أظافري مطليّة مُعظم الوقت. أمّا بالنسبة لِملابسي، فتامر لَم يرَني يومًا في ثياب النوم إلا خلال الليل، فقد كنتُ أرتدي أفضل ما لدَيّ حتى ولو في البيت. نعم، حسَدَه الجميع على هكذا زوجة وهو كان ممنونًا للغاية.

وصَلَ العريسان، ونثَرتُ عليهما الأرز مِن شرفة شقّتي وهما أوميا وابتسما لي بفرَح وامتنان. وفي اليوم التالي، رحتُ أضَع سلّة الحلوى أمام بابهما، مع بطاقة تحملُ إسمي واسم زوجي ورقم طابقنا وشقّتنا.

وكما توقّعتُ، دقَّت رندا العروس بابي بعد يومَين لتشكرني على لطافتي، ودخلَت إلى الصالون حيث شربنا القهوة. سادَ جوّ مِن التفاهم بيننا، إذ أنّني كنتُ أكبرُها بِسنة واحدة ولنا اهتمامات مُشتركة. تمنَّينا أن يتّفِق أيضًا زوجانا لنصبح أصدقاء جميعًا.

لكنّ تامر لَم يستلطِف العريس، بل بقيَ فقط مُهذّبًا معه حين التقَينا جميعًا، وأسِفتُ لذلك إلا أنّني وجدتُ صداقتي مع رندا كافية، خاصّة أنّ رجُلَينا كانا يقضيان وقتهما في العمَل ونحن في البيت ولن يلتقيا ببعضهما. وهكذا صارَ لدَينا مُتّسَع الوقت لنجلس سويًّا أو نخرج للتسوّق معًا ثمّ تعود رندا إلى بيتها لتحضير ما يلزم قبل رجوع زوجها. أحَبَّت جارتي ابنتي كثيرًا، وتمنَّت أن تُرزَق بطفلة تشبهُها وأنا دعَوتُ لها بذلك.

إلا أنّ الملَل والخَيبة أصابتا رندا بسرعة، إذ أنّها خالَت أنّ أيّام الخطوبة ستستمرّ إلى الأبد. إضافة إلى ذلك، هي اكتشفَت في زوجها خصالاً لا تُحبُّها. وذلك يحصل غالبًا، فلا يسعُنا معرفة الآخر فعليًّا إلا بعد العَيش معه تحت سقف واحد. لِذا صرتُ أُطمئنُها وأُسدي لها النصائح، لِتصبُر وتتأقلَم مع حياتها الزوجيّة الجديدة.

أنا الأخرى لَم أجِد ذلك العريس لطيفًا، فهو كان عنيدًا في آرائه ولا يحسِب حساب وطأة كلامه على الآخرين، الأمر الذي أبعَد عنه الناس. رندا كانت مُختلفة تمامًا، وأمِلتُ أن يجدا طريقة للعَيش سويًّا بسلام. لكن مع الوقت، كبُرَ ذلك الشرخ بينهما، وكان مِن الواضح أنّ زواجهما في خطر لو لَم يحصل شيء يُعطي ذلك الثنائيّ دفعًا جديدًا، كمجيء طفل... أو تغيير في رندا نفسها، لاستحالة تغيير شيء في زوجها. كنتُ مُصرّة أن ينجح زواج جارتي، فما مِن شيء أبغَض لدَيّ مِن الطلاق!

 


اليوم أنا نادمة على التدخّل في حياة رندا، ويا لَيتني تركتُها تتدبّر أمرها بنفسها.

وهكذا بدأتُ أُسدي لها النصائح الزوجيّة والمنزليّة الدقيقة، وهي كانت تُطبّقها حرفيًّا. لكنّ ذلك لَم يُعطِ أيّة نتيجة، فكان مِن الواضح أنّ زوجها فقد اهتمامه بها. لَم يبقَ لي سوى أن أصطحبُها إلى محلات الألبسة التي أشتري منها... وإلى مُصفّف شعري الخاص وأخصّائيّة التجميل، لتُعلّمُها كيف تهتمّ ببشرتها وتستعمل المساحيق. كانت رندا بغاية الفرَح، إذ أنّها كانت هي الأخرى تُحبّ أناقتي ومظهري. وحين انتهَينا مِن العمَل، بدَت جارتي وكأنّها نسخة عنّي. كانت النتيجة مُذهلة وضحكتُ عاليًا قائلة:"أشعرُ وكأنّني أنظرُ إلى نفسي في المرأة!".

إنتظَرنا بترقّب ردّة فعل زوجها، لكنّ الأمر أثارَ اهتمامه لفترة قصيرة، ثمّ عادَ إلى تجاهلها مُجدّدًا. خابَ أمَل رندا وأمَلي، فكّنا قد جرّبنا كلّ الحيَل والطرق. أسِفتُ كثيرًا لجارتي وقلتُ لها إنّ الحلّ الوحيد يكمنُ في الإنجاب. إلا أنّها رفضَت ربط نفسها بشكل نهائيّ مع زوج لا يُبالي بها لأنّها بدأَت تُفكّر بِتركه. إلا أنّها قرّرَت إبقاء حلّتها الجديدة، لأنّها وجدَت نفسها جميلة وأنّ مِن حقّها أن تفرَح ولو بشيء واحد.

لكن بعد أشهر قليلة، دقَّت جارتي بابي باكيةً بعد أن اكتشفَت أنّها حامل. قبّلتُها بفرَح ومسحتُ دموعها ورفعتُ معنويّاتها، واعدةً إيّاها بأنّ ذلك الطفل سيُنقِذ زواجها. لكنّ زوجها، بالرّغم مِن فرَحه بمجيء المولود، بقيَ يُهملُها كالسابق. وهكذا وجدَت نفسها أمًّا كما خشيَت أن يحصَل، فبقيَت مع زوجها رغم تعاستها.

مرَّت السنوات ببطء بالنسبة لها، وبسرعة بالنسبة لي بفضل زوجي الرائع وابنتي الجميلة. شعرتُ بالأسى والذنب جرّاء ذلك تجاه رندا لكن ما عسايَ أفعل؟ ألَم أقُم بأقصى ما لدَيّ؟

وفي تلك الفترة بالذات بدأ تامر يتغيّر معي. في البداية لَم أنتبِه للأمر لأنّ حياتي كانت تسيرُ بشكل مُمتاز، ولَم أكن أترقّب المشاكل أو أيّ شيء يُضعضِعُ توازن عائلتنا الجميلة. إبنتي هي التي لفتَت نظرَي إلى حزن أبيها الذي بان في عَينَيه. طمأنتُها بأنّ ذلك عائد حتمًا إلى إرهاق ما.

ثمّ تصاعدَت الأمور بعد أن بدأ زوجي بالتعبير عن امتعاض واضح تجاهي. عندها أخذتُ ما يحصل على مِحمَل الجَدّ. ما الذي أزعجَ تامر منّي؟ فلَم أتغيّر قطّ معه أو أُقصِّر في مهامي كزوجة وأمّ! سألتُه إن كانت لدَيه مشاكل في عمله، فذلك كان تفسيري الوحيد لِمزاجه الجديد، إلا أنّه أجابَني:"العمَل يسير على أفضل وجه... ويا ليتَ الباقي أيضًا." سألتُه عمّا يقصدُ بـ "الباقي" إلا أنّه بقيَ صامتًا. وخطَرَ ببالي فجأة ما لَم يخطُر يومًا: هل يُعقَل أن يكون تامر قد ملَّ منّي أو... لدَيه عشيقة؟!؟ يا إلهي، هل كنتُ سأصبَح مثل تلك المسكينات اللواتي توضَعنَ على حِدة بسبب امرأة أجمَل أو أصغَر سنًّا؟ بكيتُ كثيرًا قبل أن أُقرِّر معرفة الجواب على تساؤلاتي بمُراقبة تامر، فحياتي وحياة ابنتي النفسيّة والاجتماعيّة على المحكّ!

في الأيّام الأولى لَم أُلاحِظ شيئًا مُريبًا بتصرّفات زوجي، لكنّني لاحظتُ أنّه، كلّ يوم ثلاثاء وخميس، يركنُ سيّارته في أوّل حيّنا ويجلسُ فيها لساعة وأكثر، في وقت يُفترَض به أن يكون في عمله. مَن كان ينتظِر؟ وإلى أين يأخذُ عشيقته بعد أن توافيه؟ لَم يتسنَّ لي مُراقبته على مدار الساعة بسبب واجباتي المنزليّة واهتمامي بابنتي، لذا كنتُ أعودُ خائبة في سيّارتي إلى البيت. علِمتُ أنّ شيئًا ما يحصل، لكن كان عليّ معرفة ما يجري تمامًا لأستطيع مواجهة تامر بأدلّة حسيّة لا يُمكنه انكارها. ولأنّني صرتُ أعلَم أين يكون كلّ ثلاثاء وخميس، لَم أعُد بحاجة إلى اللحاق به في أوقات أخرى، الأمر الذي ساعدَني على ترتيب وقتي بشكل أفضل.

قرّرتُ عدَم الاستعانة بسيّارتي خوفًا مِن أن يُلاحظ زوجي وجودي، ورحتُ مشيًا على الأقدام أختبئ خلف حائط محلّ للألبسة.

ورأيتُها.

يا إلهي... كيف أشرحُ لكم شعوري؟

 


فذات يوم، وأنا في مخبئي، رأيتُ جارتي رندا مُرتديةً نظّارات شمسيّة. مشَت حتى أوّل الحَي على الرصيف المُقابل لسيّارة زوجي الذي أدارَ على الفور المُحرّك ولحِقَ بها. هي لَم تصعدُ معه حتمًا خوفًا مِن الناس، واستنتجتُ طبعًا أنّهما سيقودان سويًّا بعيدًا عن الأنظار. وبما أنّني لَم أجلِب سيّارتي، لَم أتمكّن مِن معرفة وجهة سَيرهما. هل كانا يقصدان فندق ما أو شقّة مفروشة؟ طردتُ على الفور تلك الصوَر الشنيعة التي تُمثٌل لحظاتهما الحميمة مِن رأسي، وركضتُ إلى بيتي باكيةً.

بعد أن نشّفتُ دموعي، أخذتُ أفكّر بالطريقة الأنسب لمواجهة زوجي بالذي عرفتُه. خطَرَ ببالي ان أدّعي عدَم معرفة شيء، إلا أنّني لَم أُحسِن الحفاظ على الصمت. فكان مِن حقّي أن يحترمَني زوجي بعد سنوات طويلة مِن التفاني مِن أجله. فحين عادَ أخيرًا مِن "عمله"، صرختُ في وجهه كلّ امتعاضي مُتلفظّةً بشتّى النعوت. هو نظَرَ إليّ بتعجّب واضح ثمّ قال:

 

ـ أنا مُتفاجئ لهذا الكمّ مِن الوقاحة مِن جانبكِ، فأنا الذي عليه شتمكِ...يا مُحترَمة!

 

ـ أنتَ حتمًا فقدتَ صوابكَ! فقد رأيتُكَ تنتَظرُ بصبر عشيقتكَ رندا!

 

ـ بل كنتُ انتظرُكِ أنتِ! أين تذهبين كلّ ثلاثاء وخميس؟ إلى عشيقكِ؟ ما اسمه؟ حسبتُكِ زوجة مُخلصة! فأنا أُراقبكِ منذ فترة عن كثَب.

 

فهمتُ عندها أنّ تامر خالَ أنّ رندا هي أنا، فهو كان يركُن سيّارته بعيدًا، وغشّه الشبَه الموجود بيننا بسبب لون شعرها وتبرّجها وطريقة لبسها. إلا أنّه لَم يُصدّقني بل بقيَ يتّهمُني بالخيانة. لَم يتبقَّ لي سوى طريقة واحدة لإثبات براءتي له وهي أن ننتظِر سويًّا في سيّارته خروج رندا مِن منزلها في اليومَين المذكورَين. كنّا يوم الثلاثاء، لِذا صبرنا حتى يوم الخميس، لكنّ الوقت بانَ لنا طويلاً للغاية، وسادَ بيننا جوّ مُشنَّج للغاية لَم نتبادَل خلاله سوى كلمات قليلة. كنتُ أعلَم أنّه سيكتشِف أنّني بريئة، إلا انّ شكّه بي جرحَني كثيرًا. لكنّني هدأتُ حين استوعَبتُ أنّني الأخرى شكَكتُ به. غريب كيف أنّنا كنّا نُراقبُ بعضنا!

جاء يوم الخميس وجلسنا سويًّا في السيّارة عند أوّل الحَي. طال انتظارُنا، ثمّ رأينا رندا تمشي في الحَي كعادتها الأسبوعيّة. نظرتُ إلى زوجي وهو أدارَ نظَره خجلاً. لَم أوبِّخه بل قلتُ له بهدوء:"هيّا نعود إلى بيتنا وإلى حياتنا".

إعتذرَ تامر منّي لاحقًا بحرارة، وجلَبَ لي الهدايا والورود وأنا سامحتُه طبعًا. ولقيَ زواجنا نفحة جديدة فعُدنا وكأنّنا عريسَين جديدَين... وحمِلتُ بابنة أخرى! أمّا بالنسبة لرندا، فلقد أجرَيتُ معها حديثًا مُطوّلاً، وعلِمتُ منها أنّها بالفعل اتّخذَت لنفسها عشيقًا بعد أن صارَت الحياة مع زوجها لا تُطاق، وهو لَم يقبَل أن يُطلّقها. كانت بحاجة إلى حنان وانتباه رجُل، وأُقرُّ لها أنّها فعلَت المُستحيل لتُرضيه. وبّختُها قائلةً إنّ الخيانة ليست الحلّ، ونصحتُها بأن تقصد وابنها أهلها إلى حين تُحلّ الأمور. لكنّني طلبتُ منها شيئًا واحدًا: أن تُغيّر لون شعرها وطريقة لبسها، كي لا يظنّ أحدٌ أنّها أنا! فلقد كدتُ أفقِد زوجي بسببها! وأخبرتُها بما حدَث وضحكنا لغرابة الموقف.

فعلَت رندا كما نصحتُها. وبعد أن ملَّ زوجها مِن وجودها وابنه عند أهلها، قبِلَ أخيرًا أن يُطلّقها وتزوَّجَ على الفور. يا للرّجُل البغيض! تزوّجَت رندا هي الأخرى مِن الشخص نفسه الذي كانت تواعدُه، وهي تعيشُ بسعادة لَم تعرِفها يومًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button