كنتُ قد خرجتُ للتوّ مِن السوبر ماركت وعلى وشك الصعود في سيّارتي، حين سمعتُ صوت الصدمة. فلقد ضربَت سيّارة خارجة مِن الحَيّ أحد المارّة وألقَته أرضًا. ركضتُ كالمجنون، إذ أنّ الضحيّة رجل مُسنّ. سألتُه على الفور أين يشعر بالألَم وتبيّنَ أنّ رِجله كُسِرَت وليس هناك مِن أضرار أخرى باستثناء بعض الكدمات. عرضتُ عليه أخذه إلى المشفى وهو قَبِلَ بدون تردّد، إذ أنّ الذي صدَمَه هرَبَ بسرعة.
حين وصَلنا المشفى أخذوا يسألوني مئة سؤال وسؤال لمعرفة إن كنتُ مَن صدَمَ الرجل، وشكرتُ ربّي أنّه بقيَ بوَعيه لإخبارهم أنّ الجاني الحقيقيّ فرَّ على الفور وأنّني مواطن صالح ليس إلا. دفعتُ تكاليف المعالجة التي لَم تكن باهظة، بواسطة بطاقتي الائتمانيّة، فلَم يكن عماد، هكذا كان اسمه، يحملُ أيّ مال.
إنتظرتُ مع عماد حتى انتهوا مِن تركيز رجله في محلّها وأوصلتُه إلى منزله. وبما أنّه كان يسكنُ في الدور الثالث مِن المبنى، صعدتُ معه لأساعده على طلوع السلالم، فالمكان كان قديمًا والمصعد مُعطّلاً منذ سنوات عديدة.
بقيَ عماد يشكرُني طوال صعودنا، الأمر الذي أخجلَني، فكنتُ قد فعلتُ واجبي الإنسانيّ. صحيح أنّني تأخّرتُ كثيرًا على موعد عمَلي، إلا أنّني أتّصلتُ بمديري شارحًا له ما يجري، مع وعد بالتعويض له في اليوم التالي.
دخَلنا بيت عماد وهو دعاني للجلوس، ودلَّني أين أجدُ ما يلزم لإعداد الشاي لِكلَينا.
جلسنا سويًّا وتحدّثنا قليلاً عن حالته وعن ظروف الحادث، ومِن ثمّ سألَني عن نفسي ليعرفَ مَن هو الرجل الذي ساعدَه. فقلتُ له:
ـ إسمي مروان وأنا عازب وأعملُ في شركة تأمين. أسكنُ مع والدَيَّ وأهوى ركوب الدراجة الناريّة والسباحة. أحبُّ السهر والصبايا الجميلات. هذا كلّ ما يُمكنُني قوله عن نفسي. وماذا عنكَ؟ مع مَن تسكن؟ هل أنتَ متزوّجٌ ولدَيكَ أولاد؟ وهل تعمل أم أنّكَ تقاعدتَ؟
سكَتَ عماد مطوّلاً وامتلأت عيناه بالدموع، وشعرتُ بالذنب قليلاً، فكان مِن الواضح أنّ سؤالي أزعجَه. إلا أنّني انتظرتُ ردّه، فأنا أيضًا كنتُ أودّ معرفة مَن هو الذي ساعدُته، ليس مِن باب الفضول، بل المعرفة وحسب.
أخَذَ عماد شفّة شاي ثمّ استدارَ نحوي وقال:
ـ أعيشُ لوحدي يا صاحبي، لوحدي تمامًا.
ـ ألَم تتزوّج يومًا؟
ـ بلى، بلى... ولقد أنجبتُ ولدَين.
ـ إذّا هما مُسافران حتمًا... متى توفّيَت زوجتكَ؟
ـ جميعهم أحياء ويعيشون في البلد.
سَكتَ عماد فجأة ثمّ طلَبَ منّي تَركه لوحده ليرتاحَ، ففهمتُ طبعًا أنهُ لا يُريدُ قول المزيد وأنّ أحداث النهار قد أتعَبَته. تركتُه واعدًا إيّاه بزيارته خلال الأسبوع.
لدى عودتي إلى البيت، أخبرتُ والدَيَّ عن عماد وكيفيّة تعرّفي إليه، وهما أثنيا على مساعدتي له فلَم أكن آنذاك شابًّا مسؤولاً أو حتى جدّيًّا، بل أقضي وقتي مع أصدقائي بعد العمَل لأعود إلى البيت في ساعة متأخّرة مِن الليل تاركًا كلّ الأعباء على أبوَيّ.
بعد يومَين رحتُ إلى السوبر ماركت مُجدّدًا لشراء بعض المأكولات، وإذ بموظّفة الصندوق تقول لي:
ـ لقد رأيتُ ما فَعلتَه مِن أجل ذلك الرجل المسنّ، أنتَ حقًّا شخص طيّب.
ـ لا داعٍ للإطراء، فلقد فعلتُ ما يملي عليّ واجبي الإنسانيّ، على خلاف ذلك السائق الأحمق الذي صَدمَ السيّد عماد وأسرَعَ بالفرار مِن دون تحمّل مسؤوليّة قيادته المتهوّرة.
ـ الذنب ليس ذنبه يا سيّدي.
ـ ماذا؟ بل بالتأكيد هو مذنب!
ـ بل ألقى الرجل المسّن نفسه أمام السّيارة عمدًا! لقد رأيتهُ بنفسي! هو كان واقفًا على الرصيف ينتظرُ الوقت المُناسب، وعندما جاءَت السّيارة، وقَفَ أمامها عن قصد. مِن الواضح أنّه أرادَ أن يموت.
لدى سماعي ذلك، أسرعتُ بدفع ثمن مشترياتي وركضتُ أدقُّ باب عماد، مِن كثرة خوفي ألا يكون قد حاولَ الانتحار مجدّدًا. إرتاحَ قلبي حين سمعتهُ يجرُّ قدَمه ويفتَح لي الباب. ثمّ ابتسمَ لدى رؤيتي ودعاني للدخول.
رحتُ على الفور أحضّرُ الشاي بعد أن حفظتُ أين الإبريق والفناجين، وجلستُ مع عماد على الأريكة أسألُ عن أخباره وحالة رِجله. تبادَلنا بعض الأحاديث غير المّهمة ثمّ قرّرتُ فَتح موضوع الحادث معه:
ـ أودّ أن أسألكَ...أعني... حسنًا... قالتَ لي موظّفة في السوبر ماركت إنّكَ قصدتَ أن تصدمكَ السّيارة... هل ذلك صحيح؟ قُل لي الحقيقة أرجوكَ.
أدارَ عماد وجهه عنّي، ورأيتُ دموعًا تنزلُ من عَينَيه. ثمّ أجابَ:
ـ ترُيد الحقيقة؟
ـ بالطبع.
ـ حسنًا... الحقيقة أنّني لا أريدُ العَيش... لقد تمنّيتُ مرارًا الموت لنفسي طالبًا مِن الله أخذي إليه، إلا أنّه لمَ يستجِب لي، فقررّتُ تسريع الأمور. أشعرُ بالذنب تجاه ذلك السائق الذي لمَ يكن بمقدوره تفادي صدمي، وأشكرُ الله أنّه فَّر وإلا لوقَعَ في متاعب بسببي.
ـ لماذا تريدُ الموت لهذه الدرجة؟!؟ ألأنّكَ وحيد؟
ـ أنا وحيدٌ يا مروان لأنّني لَم أكن أبًا صالحًا وزوجًا طيّبًا. أنا وحيدٌ بعد أن قرّرَت زوجتي أخيرًا تركي ولحِقَ بها ولداي. للحقيقة، لستُ أدري كيف استطاعوا تحمّلي طيلة تلك الفترة الطويلة. لقد أعطوني فرصًا لا تُحصى لأتحسّن وأصيرَ شخصًا صالحًا، إلا أنّني زدتُ سوءًا. أجل، كنتُ رجلاً شرّيرًا لدرجة لا توصَف. كنتُ رجلاً مؤذيًا باسم الرجولة والطغيان. فلقد صرختُ وشتَمتُ وضربتُ وخنتُ، وصرفتُ مال الأسرة على ملذّاتي، فقط لأنّني قادرٌ على ذلك ولأنّ ما مِن أحد يحقُّ له الوقوف في وجهي كوني "ربّ العائلة". كنتُ الآمر الناهي وحطَّمتُ كلّ مبادرة استقلاليّة أو عصيان لدى أفراد أسرتي. وزدتُ مهارة مع السنوات وبتُّ أتفنَّنُ بطرق الأذيّة، فلَم أعُد بحاجة إلى التعنيف الجسديّ بل فقط النفسيّ، بعد أن عرفتُ كيف أؤلِم ضحايايَ ببضع كلمات.
ـ أنتَ فعلتَ كلّ ذلك يا عمّ عماد؟ ذلك صعب التصديق فأنا أراكَ رجلاً عاقلاً وهادئًا وواعيًا!
ـ هكذا صرتُ، هكذا صرتُ... لكن بعد فوات الأوان.
ـ وكيف حصَلَ أن تبدَّلتَ هكذا؟!؟
ـ الوحدة يا بنيّ... هل تسمَح لي بمناداتكَ هكذا؟ فلقد اشتقتُ للفظ هذه الكلمة.
ـ بالطبع، إفعَل.
ـ فبعد أن تركَتني عائلتي بقليل رحتُ أفعَل ما أشاء. لن أخبرُكَ بالتفاصيل، فهي مُخجِلة للغاية. لَم أترُك إثمًا إلا اقترفتُه باسم الحرّيّة المُطلقة. وبعد أن شبِعتُ مِن تلك الحرّيّة، أدركتُ أنّني صرتُ وحيدًا، وحيدًا تمامًا، وما مِن أحد أصرخُ عليه أو أُحطّمُ معنويّاته. بدا لي البيت مكانًا رهيبًا بسكونه وفراغه. وبما أنّني كنتُ قد تقاعدتُ ولَم يعُد لي عملٌ أقصدُه، وبما أنّ أصدقائي صاروا كبارًا في السنّ ويمرضون الواحد تلوَ الآخر، مكثتُ في البيت أستمعُ إلى صدى صوتي وأنا أُكلّمُ نفسي لأُملأ ذلك الفراغ القاتل. ويوم ذرفتُ دمعتي الأولى، علِمتُ أنّ الروح عادَت لي، فقَبل ذلك كنتُ بلا قلب أو إحساس، لا أُحبُّ سوى ذاتي ورغباتي.
ـ يا إلهي... وصفٌ رهيبٌ... ألَم تُحاول الاتصال بعائلتكَ لتخبرهم أنّكَ تبدَّلتَ؟
ـ بلى... لكنّهم لَم يُصدّقوني، وأنا أتفهَّمُ تمامًا الأمر، فلو كنتُ مكانهم لمَا صدّقتُ إنسانًا مثلي.
ـ ومتى قرّرتَ محاولة الانتحار؟
ـ منذ فترة، إلا أنّني جبان... لا أُريدُ قتل نفسي بنفسي. لِذا أقدمتُ على إقحام غيري بموتي، وأشكرُ الله أنّني لَم أمُت في ذلك اليوم، فذلك كان سيودي بالسائق إلى السجن. أنا جبان... جبان!
ـ حسنًا... الآن عِدني بعدَم المحاولة مُجدّدًا، فالحياة هبة مِن الله ولا يحقُّ لنا رفضها. ألستَ رجلاً مؤمنًا يا عمّ عماد؟
ـ بلى، أو بالأحرى صرتُ مؤمنًا. قبل ذلك كنتُ أؤمِن بنفسي وبرجولتي التي تُعطيني الهَيمنة المُطلقة... وللحقيقة، كنتُ أعتقدُ أنّني الله!
ـ يا إلهي... ما هذا الكلام الخطير!
ـ أترى لماذا عليّ الموت؟
ـ بل عليكَ الاستغفار مِن الله والعودة إليه، وهو سيُعطيكَ القوّة للاستمرار وفَهم الحياة على حقيقتها. قد لا تعودُ عائلتكَ إليكَ، لكنّكَ ستسترجِع السكينة الذاتيّة التي تُعطيها الصلاة وقراءة الكتب المُقدّسة.
ـ وهل أنتَ خبير في الأديان لتتكلّم هكذا يا مروان؟
ـ لا، ويا لَيتني كنتُ خبيرًا... لكنّني أراكَ تتعذّب أو بالأحرى تُعذّبُ نفسكَ، إلى حدّ الانتحار الذي هو خطيئة عظيمة قد تُكلّفُكَ الكثير! سأزورُكَ باستمرار، وإن شئتَ بإمكاني مشاركتكَ الصلاة. ما رأيُكَ؟
قلتُ له ذلك بالرغم مِن أنّني لَم أكن أهوى أبدًا كلّ ما يتعلّق بالتقوى، إلا أنّني نويتُ حقًّا مساعدته.
لَم يُجِب عماد بل هزّ برأسه، فتركتُه وعدتُ إلى البيت حزينًا. شيء ما حمَلَني على الخوف على ذلك الرجل. هل كانت نظرته الحزينة أم المرارة البائنة في صوته؟ أخذتُ قرار عدَم تَرك عماد حتى يُصبحَ جاهزًا لمواجهة واقعه وقبوله، لِذا عدتُ لزيارته بعد ثلاثة أيّام.
قرعتُ باب عماد مرّات عديدة لكن ما مِن أحد فتَحَ لي. لِذا دقَّيتُ باب جيرانه بعد أن انتابَني خوفٌ شديد. سألتُ الجارة عن مكان تواجد عماد فقالَت لي:
ـ هو حيث كلّنا ذاهبون. فلقد ماتَ جارُنا... ألقى بنفسه مِن الشبّاك. رحمه الله.
إنهمرَت دموعي على الفور، ونزلتُ السلالم بسرعة، ومشيتُ في الشوارع مطوّلاً أسألُ نفسي إن كان هناك مِن شيء كان عليّ فعله ولَم أفعَله.
قالَت لي والدتي بعدما أخبرتُها بالذي حصَلَ للعمّ عماد:
ـ لا تحزَن يا بني... بل اعتبِر أنّ لقاءَكَ مع ذلك الرجل لَم يكن لصالحه إذ أنّه قتَلَ نفسه بالفعل، بل مِن أجلكَ أنتَ... نعم مِن أجلكَ... فأنا متأكّدة مِن أنّ شيئًا وأشياءً تغيّرَت فيكَ مِن خلاله وأنّ حياتكَ ستتحّسن بفضله. ربمّا هو عِبرة لكَ لتعرف كيف على الإنسان أن يكون مسؤولاً وكيف عليه معاملة عائلته والصلاة ليبقى إيمانه بالله حيًّا. أجل، فلقد أطالَ الله بحياة عماد مِن أجلكَ... فلا تُهدر موته أبدًا.
حاورته بولا جهشان