ميّت مفعم بالحياة (الجزء الثاني)

وصلتُ المدينة التي يسكنُ فيها الناطور بسرعة فائقة. كنتُ واثقة مِن أنّ ذلك الرجل سيُزوّدني بمعلومات قيّمة لإيجاد علاء. فكان لا بدّ لي أن أُواجِه زوجي "الميّت" وأحصل منه على الإجابات التي ستُمكّنُني مِن فَهم دوافع اختفائه طوال سنوات، تاركًا وراءه ليس فقط زوجة ادّعى أنّه أحبَّها بل أيضًا ولدَين صغيرَين.

كان الناطور بانتظاري فأدخلَني غرفته وقدَّمَ لي الشاي. لَم أكن أُريدُ سوى أن يتكلّم إلا أنّني جلستُ وشربتُ وأنا هادئة. ثمّ هو قال لي:

 

ـ إتّصَلَ بي زوجكِ وسألَني إن كان أحدٌ قد جاء للبحث عنه... لا تخافي يا سيّدتي، لَم أخبِره عن مجيئكِ... لستُ غبيًّا.

 

ـ أكمِل مِن فضلكَ.

 

ـ وهو طلَبَ منّي تسجيل الرّقم الذي خابرَني منه، واستعماله لإبقائه على عِلم بكلّ جديد مُقابل مُكافأة ماليّة. سأُعطيكِ رقم هاتفه.

 

ـ وها أنتَ تُطلعُني على ما حدَثَ وتُعطيني الرّقم... ألا تُريدُ ماله؟

 

ـ سيّدتي، قلتُ لكِ إنّ لدَيّ شقيقة أرملة... وهذا ما كنتُ سأفعلُه مِن أجلها. إضافة إلى ذلك، لا أكنُّ أيّ احترام للكاذبين والغشّاشين ومال هؤلاء هو بالنسبة لي مال حرام. أنا رجل مؤمِن بالله وتعاليمه، فما نَفع الصلاة والصوم إن كنّا سنبيع روحنا مُقابل بضع أوراق نقديّة؟

 

ـ أنتَ رجل حكيم وصالح.

 

ـ ماذا ستفعلين الآن؟ وهل أنتِ بحاجة إلى مُساعدتي؟ أنا جاهز.

 

ـ سأعودُ إليكَ في الغد فعليّ التفكير مليًّا. لا أُريدُ إفساد هذه الفرصة بتصرّف غير مدروس، فقد لا تتكرّر مُجدّدًا ويختفي علاء كلّيًّا هذه المرّة. شكرًا لمساعدتكَ.

 

رحتُ الفندق وأخذتُ حمّامًا ساخنًا واتّصلتُ بجارتي لتفقّد ولدَيّ، ومِن ثمّ نمتُ لساعات طويلة. وفي الصّباح، تناولتُ بعض الطعام ورحتُ أمشي في المدينة وجلستُ على مقعد لأجمع أفكاري التي كانت كثيرة. المهمّ كان أن أجِد الخطّة المُناسبة بعيدًا عن عفويّة الغضب واندفاع الانتقام. ذكّرتُ نفسي أنّ الانتقام هو طبَق يؤكَل باردًا، فأغمضتُ عَينَيّ مُستمتعةً بنسمة لطيفة عمَّت الأجواء.

وبعد أن فكّرتُ بكلّ السيناريوهات المُمكنة، عدتُ أدقُّ باب الناطور لأقول له:

 

ـ إتّصِل بعلاء وقُل له ما قلتَه لي، أيّ أنّ لدَيكَ معلومات بغاية الأهميّة. فكما أسرعتُ بالمجيء إليكَ، هو سيفعلُ الشيء نفسه، صدّقني. لكن أعطِه موعدًا ليس في مسكنكَ بل في مكان آخر، وأنا التي ستُقابلُه.

 

ـ أين يا سيّدتي؟

 

ـ في مكان عام، فلستُ واثقة مِن ردّة فعله حين يراني ويُدركُ أنّني فضحتُ سرّه. هناك مقهى وسط المدينة، لقد رأيتُه حين مشيتُ في شوارعها. وأُريدُ منكَ أن تأخذ صوَرًا لنا ونحن جالسان سويًّا. أُريدُ أن يعرفَ العالم بأسره كَم أنّه سافل. لن أطلبَ شيئًا منكَ بعد ذلك، بل سأكون مُدينة لكَ لآخر أيّامي، فلولاكَ لمَا تحقّقَ شيء.

 


ـ لَم يتحقّق شيء بعد يا سيّدتي، فهو قد لا يأتي.

 

ـ سيأتي، فمِن الواضح أنّه على أعصابه، وإلا لَما انتقَلَ وعائلته إلى مكان آخر تاركًا حتى عمله، ولَما اتّصَلَ بكَ ليعرف إن سألَ أحدٌ عنه. هو يشعرُ أنّ الخناق ضاقَ حول عنقه وهو خائف.

 

ـ وماذا ستقولينَه له؟

 

ـ للحقيقة لستُ أدري تمامًا، لكن عليّ معرفة دوافعه. لماذا ادّعى الموت وقرَّرَ الاختفاء؟ هل أنا السبب أم أنّه مُجرّد إنسان بلا ضمير؟ سأروي لكَ تفاصيل تلك المُقابلة بعد أن تنتهي. هيّا، إتّصِل به وكُن مُقنِعًا، فليس لدَينا فرصة ثانية.

 

كان الناطور مُقنِعًا للغاية بكلامه مع علاء واندهشتُ لقدرته على التمثيل. أعطاه موعدًا في ذلك المقهى بعد يوم واحد، مُتحجِّجًا بأنّ الأمر لا ينتظرُ أكثر مِن ذلك.

مِن جهتي، إتّصلتُ بوالدي ورويتُ له ما فعلتُه وأنوي فعله. طلبتُ منه جَلب رجال العائلة الأقوياء وموافاتي إلى جوار المقهى، لكنّني منعتُه مِن التدخّل قبل خروجي وعلاء مِن المقهى. كان لا بّد لي من إجراء ذلك الحديث معه وإلا لن يرتاح بالي قط.

كنتُ بحالة قلَق حادّ وصارَت تراودُني الشكوك: ماذا لو لَم يأتِ علاء مدركًا بأنّه فخ؟ ماذا لو قرَّرَ عدَم الجلوس معي والتكلّم، بل خرَجَ مِن دون أن يقول لي ما حصَلَ فعلاً؟

تكلّمتُ مع ولَدَيّ هاتفيًّا لأستمدّ القوّة منهما، ثمّ مع جارتي التي طلبَت منّي الاحتراس، فالذي يدّعي الموت ويختفي هكذا قد يكون خطرًا وبإمكانه فعل أيّ شيء للحفاظ على سرّه. طمأنتُها وأقفلتُ الخط مِن دون أن أظهر لها مدى قلَقي.

لَم أنَم الليل طبعًا، فلَم أكن أشعر بالنعاس بل برغبة ماسّة لرؤية الوقت يمرّ ليَصل وقت الموعد المذكور بسرعة.

وقَبل أن تحين الساعة، توجّهتُ إلى محلّ للألبسة يقَع قبالة المقهى تمامًا، ووقفتُ أمام واجهته الزجاجيّة أُراقبُ المكان. رأيتُ الناطور قادمًا ليختبئ هو الآخر بِغرَض تصويري وعلاء سويًّا.

قفَزَ قلبي مِن مكانه حين لمحتُ علاء في أوّل الشارع وهو يقتربُ نحو مكان اللقاء. لَم أكن قد رأيتُه منذ ثماني سنوات تقريبًا، إلا أنّه لَم يتغيّر كثيرًا بل صارَ له شَيب طفيف على جانبَي شعره وجيوب خفيفة تحت عَينيَه. كنتُ قد كبرتُ بوتيرة أسرَع منه، بسبب الحزن على فقدانه والهروب مِن الحرب والهمّ الثقيل الذي أُلقيَ على كتفيَّ، أي تربية ولَدَين في الغربة. أمّا هو، فكلّ الذي فعلَه هو التملّص مِن المسؤوليّة وإراحة نفسه. هل كان سعيدًا مع عائلته الجديدة أكثر ممّا كان معنا؟ هل أحبَّ تلك المرأة وابنها أكثر منّي ومِن ولَدَيَّ؟

دخَلَ علاء المقهى ورأيتُه يجلسُ إلى طاولة في إحدى الزوايا. رحتُ بدوري أُلاقيه وقلبي يدقُّ كالمجنون. لَم أرَ لا أبي ولا أحداً مِن أفراد عائلتي ولَم يهمّني الأمر كثيرًا.

حين وقفتُ أمام علاء، نظَرَ إليّ وكأنّه يحلم، فلَم يتوقَّع أبدًا أن أكون صاحبة الموعد، ولزِمَته دقائق لاستيعاب ما يحصل. الملامح التي ارتسمَت على وجهه في تلك اللحظة كانت تدلّ على مزيج مِن التساؤل والخوف، وأنا ابتسمتُ لشعوري بالقوّة. جلستُ على كرسيّ قبَالته وأنا لا أزال أبتسمُ وقلتُ له:

 

ـ أرى أنّ الموت يليقُ بكَ... يا زوجي العزيز، فأنتَ بصحّة ممتازة!

 

ـ ماذا تريدين؟ وكيف علِمتِ...

 

ـ أريدُ أن أعرفَ كلّ شيء عن ذلك اليوم حين قُصِفَ المقهى الذي كنتَ جالسًا فيه. كيف نجوتَ مِن القذيفة؟ كيف خطرَت ببالكَ فكرة الاختفاء وادّعاء الموت؟ وما هو أهمّ، كيف استطعتَ تركنا وسط حرب لا ترحَم؟َ!؟

 

ـ وإن لَم أجِب على تلك الأسئلة؟ ما الذي بإمكانكِ فعله؟ أجيبي!

 

نظرتُ مِن واجهة المقهى ورأيتُ أفراد عائلتي وعلى رأسهم أبي واقفين عند المدخل، والناطور يأخذُ لي ولعلاء مئات الصور. فأجبتُ زوجي الحقير:

 

ـ أنظُر ما بإمكاني فعله إن لَم تُجِب على أسئلتي! مِن حقّي معرفة الحقيقة وأنتَ مُجبَر على الإجابة. على كلّ الأحوال، إن لَم ينَل منكَ هؤلاء الرجال، فسأُقاضيكَ قانونيًّا. هيّا، تكلّمَ!

 

ـ حسنًا! حسنًا! لكن قولي لهم ألا يؤذوني، فلدَيّ عائلة.

 

ـ لدَيكَ عائلة؟!؟ وماذا عن التي تركتَها تتدبّر أمرها لوحدها؟ هيّا! تكلَّم وإلا بدأتُ أنا بضربكَ، أيّها الجبان!

 

ـ إهدئي أرجوكِ! سأتكلَّم.

 


طلَبَ علاء مِن النادلة قنينة ماء، وشرِبَ نصفها مرّة واحدة ثمّ قال:

 

ـ هل أنتِ مُتأكّدة مِن أنّكِ تُريدين كلّ الحقيقة؟

 

ـ هيّا وإلا فقدتُ صبري!

 

ـ حسنًا... آنذاك كنتُ... على علاقة مع إحدى زميلاتي. فالحقيقة أنّني ملَلتُ منكِ... كنتِ عاقلة أكثر مِن اللازم وهي... كانت مُثيرة للغاية. كانت تلبسُ لي الملابس الداخليّة الـ...

 

ـ أدخُل في صلب الموضوع!

 

ـ ويوم وقوع القذيفة على المقهى، كنتُ هناك بالفعل لكنّني تركتُ المكان أبكَر مِن العادة، بعد أن خابرَتني عشيقتي طالبةً منّي القدوم إليها لإيصالها لِعملنا لأنّ سيّارتها قد تعطّلَت. وبعد رحيلي بدقائق معدودة وقعَت الفاجعة. سمعتُ دويّ القذيفة ورأيتُ الدخان يتصاعد وسمعتُ صراخ الناس، فالتجأتُ عند حبيبتي مِن كثرة خوفي مُدركًا ما كان مُقدَّرًا لي أن يحصل لو بقيتُ هناك. ثمّ أنتِ بدأتِ تتصّلين بي كالمجنونة، فأدركتُ أنّكِ ظننتِ أنّ مكروهًا حصَلَ لي لأنّني أجلسُ كلّ يوم في ذلك المقهى في الوقت نفسه قبل ذهابي إلى العمل. وقرّرتُ الانتظار حيث أنا، فقد تكون تلك الحادثة فرصتي للتخلّص منكِ.

 

ـ ومِن ولدَيكَ!

 

ـ للحقيقة لَم أحبّهما حقًّا فأنا لستُ ممَّن يُحبّون الأولاد.

 

ـ تابع!

 

ـ وجدتُ أنّ الجميع يخالُني ميّتًا، فرأيتُ بذلك مخرجًا قد قُدِّمَ لي على طبق مِن ذهب! بقيتُ مُختبئًا عند عشيقتي قبل أن أذهب معها إلى بيت يملكُه جدّها في الريف. للحقيقة، إعتبرتُ أنّ تلك المرأة قد أنقذَت حياتي فلولاها لكنتُ متُّ! كنتُ مُدينًا لها بحياتي، وحين طلبَت منّي أن أتزوّجها لَم أتردَّد.

 

ـ لكنّها أنجبَت منكَ ولدًا. هل صرتَ تحبُّ الأولاد؟!؟

 

ـ أبدًا، لكن ما عسايَ أفعل؟ على كلّ الأحوال، هي لَم تعُد تعني لي الكثير، فلَم أعُد أراها مُغرية و مُثيرة ولدَيّ...

 

ـ يا إلهي! لدَيكَ عشيقة؟ أنتَ تخون التي خُنتَني معها؟

 

ـ أجل.

 

ـ مِن أي صنف أنتَ؟ حتمًا لستَ مِن الصنف البشريّ! كيف تزوّجتُ منكَ في الأصل؟!؟ أفهم مِن الذي رويتَه لي أنّ الله أرادَ بالفعل تخليصي منكَ. فاليوم أُدركُ مدى قوّتي وصلابتي، في حين ظننتُ أنّني غير قادرة على شيء مِن دونكَ أو مِن دون رجُل. أحزَن فقط على ولَدَيّ اللذَين كانا بحاجة إلى أب خلال سنوات نموّهما. أنا أحتقركَ يا علاء لِدرجة لن تتصوّرها مُمكنة. هيّا، إرحَل مِن أمامي، فأنا أشعرُ بالغثيان لمجردّ النظر إلى وجهكَ!

 

ـ هل سيؤذونني؟ قولي لهم أن يتركوني وشأني... أرجوكِ!

 

ـ لن يؤذيكَ أحدٌ فأنتَ جبان ولن يتعرّض لك رجال عائلتي. لن أدعهم يُوسّخون أيديهم بقذارتكَ، صدّقني. ولن أستعمِلَ تلك الصوَر التي التقطَها الناطور، فلَم أعُد بحاجة إليها. إرحَل واختفِ عن وجه الأرض، فلو حدَثَ أن رأيتُكَ مُجدّدًا أو رآكَ أيّ كان، كن واثقًا مِن أنّني سأعملُ جهدي لأن تموتَ حقًّا. هيّا أيّها القذر!

 

ركَضَ علاء خارجًا وأشرتُ لأبي بأن يدعَه وشأنه. وحين خرجتُ مِن المقهى، عانقتُ والدي بقوّة وبكيتُ على كتفه. شكرتُ الناطور على مُساعدته القيّمة ووعدتُه بأن أساعده بدوري لو هو احتاجَ لي.

رحتُ مع أبي إلى البيت العائليّ وعانقتُ والدتي مطوّلاً. بعد ذلك، أخبرتُ الحاضرين عن الحديث الذي دارَ بيني وبين علاء، فكان مِن حقهّم أن يعرفوا ما حصَلَ.

لدى رجوعي إلى ولَدَيّ كنتُ امرأة مُختلفة، فمعرفة الحقيقة ومِن فَم صاحبها كان ما حرّرَني. صرتُ جاهزة لبدء حياتي حقًّا على ضوء واقع جديد. لَم أقُل لولَدَيّ إنّ والدهما حيٌّ، فما المنفعة مِن أب كعلاء؟ بقيتُ أمدحُه أمامهما فقط حفاظًا على توازنهما النفسيّ.

بعثَ لي الله رجلاً صالحًا ربمّا ليُكافئني على تعَبي وعلى عدَم استسلامي للغضب ورغبتي بالانتقام. فعلى الإنسان أن ينسى، حتى إن لَم يستطِع المُسامحة، وذلك مِن أجله هو أوّلاً وآخرًا، فمَن يعيشُ حاقدًا وغاضبًا لن يعرفَ طعم الهناء أبدًا.

اليوم أنا مُتزوّجة مِن ذلك الرجل الذي يُسعِدُني ووَلَديّ. هل أخافُ أن يخونَ بدوره ثقتي وحبّي؟ أبدًا، فأمثال علاء نادرون جدًّا. إضافة إلى ذلك، لقد تغيّرتُ كثيرًا ولَم أعُد تلك المرأة التي تركَها زوجها وادّعى الموت، بل صرتُ امرأة قويّة وعازِمة لا تُهزِمُها الأيّام والأحداث. صرتُ امرأة حديديّة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button