ميّت مفعم بالحياة (الجزء الأول)

كانت الحرب قد مزّقَت كلّ شيء في طريقها: الأبنية والناس والعائلات، ناهيكَ عن الضيقة الاقتصاديّة التي عانى منها كلّ فرد مِن بلدنا العزيز. ومِن إحدى ضحايا تلك الحرب الشنيعة، زوجي الحبيب. لَم يتسنّ لنا إقامة جنازة له، فهو قضى مُمزّقًا بقذيفة أصابَت المقهى الذي كان جالسًا فيه كعادته في الصباح. رحَلَ علاء مِن دون أن أودّع جثمانه، الأمر الذي ملأ قلبي بالتحسّر لسنوات عديدة.

ترَكَ لي علاء طفلَين لأُربّيهما وحدي، بعد أن اضطرِرنا إلى اللجوء إلى بلد مُجاور والعَيش في ظروف قاسية للغاية. تشتَّتَت عائلتي إذ أنّ أخوَتي وعائلاتهم حظوا بحقّ اللجوء في أوروبا، وفضَّلَ والدايَ البقاء في بلدهما حتى لو كان يعني ذلك العَيش في بيت تهدَّمَ معظمه وأرض أحرقَتها النيران. مِن حسن حظّي أنّني كنتُ قد أنهَيتُ دراستي الثانويّة قبل اندلاع الحرب، فذلك ساعدَني على إيجاد عمل لا بأس به لأستطيع تأمين حياة شبه كريمة لولدَيّ، فما كنّا نحصل عليه مِن برنامج مُساعدة اللاجئين كان بالكاد يكفي. ومع مرور الزمَن، صارَ حاضرُنا شبه مقبول، خاصّة عندما يُقارَن بالذين كانوا أقلّ حظّ منّا.

لَم أُفكِّر قط بإقامة أيّة علاقة غراميّة، مع أنّني التقَيتُ بِرجال كثر بسبب عمَلي، فكنتُ لا أزال وفيّة لزوجي بالرّغم مِن رحيله مِن هذه الدنيا. إضافة إلى ذلك، لَم أكن أُريدُ زعزعة التوازن الذي خلَقتُه لولدَيّ. لا، لا رجال في حياتي قط!

مرَّت حوالي السبع سنوات على هذا النحو، إلى حين وصلَني الخبَر الأوّل.

فاتّصلَت أمّي بي مِن البلد، ومِن نبرة صوتها علِمتُ أنّ شيئًا مهّمًّا حصَلَ. فهي قالَت لي:

 

ـ حبيبتي... كيف أقول لكِ ذلك... يا إلهي... حسنًا، إسمعي، فلقد رأى أحدهم علاء!

 

ـ علاء زوجي؟!؟ علاء الذي ماتَ مِن سنوات عديدة بِقذيفة؟

 

ـ أجل!

 

ـ تقصدين أنّ أحدًا رأى شبحه؟!؟

 

ـ لا، لا بل رآه حيًّا!

 

ـ ما هذه السّخافات! كيف تصدّقين أخبار كهذه ؟!؟ الرجل ماتَ وحسب! لِما لا تدَعون الأموات وشأنهم؟ وهل لدَيكم الوقت لاختراع القصص السخيفة والمؤذيّة؟ إنّها خطيئة بحقّ الله!

 

ـ الذنب ليس ذنبي لكنّ ابن عمّ أبيكِ هو الذي...

 


ـ كفى! ذنبُكِ يا أمّي أنّكِ لَم تضَعي حدًّا لهذا الكلام غير المسؤول وأنّكِ أطلَعتِني عليه!

 

أقفلتُ الخط بِغضب كبير، وأسِفتُ أن يتسلّى الناس بأمور لها قدسيّتها... ونسيتُ الموضوع بسرعة.

بعد حوالي الستّة أشهر، إتّصَلَ بي أبي هذه المرّة. خلتُ أنّ مكروهًا حصَلَ لأمّي، إلا أنّه قال لي:

 

ـ يا ابنتي... لا تغضبي منّي كما فعلتِ عندما تكلّمَت والدتكِ معكِ عن علاء.

 

ـ مُجدّدًا تلك القصّة؟!؟

 

ـ لقد رأوه... ليس الأشخاص نفسهم بل آخرون. علاء على قَيد الحياة ويعيشُ في شمال البلاد، ولدَيّ عنوانه.

 

ـ ترهات!

 

ـ إنّه يعيش مع امرأة وابنه.

 

ـ تشابه ليس إلا!

 

ـ إنّه هو يا بنيّتي... علاء لَم يمُت.

 

ـ كفى! كفى! كفى! لماذا أنتَ وأمّي مُصرّان على تعذيبي هكذا؟!؟ ما الذي فعلتُه لكما؟ هل لأنّني تركتُ البلد وأنتما بقيتُما هناك؟ ألا يكفيني تعَبي؟!؟

 

ـ سأُعطيكَ عنوانه وأتركُ لكِ حرّيّة التصرّف. فلقد فعلتُ واجبي معكِ بإخباركِ عن حقيقة زوجكِ.

 

دوّنتُ ذلك العنوان فقط لأثبتَ له ولأمّي أنّهما مُخطئان وليكفّا عن بث الإشاعات المؤلمة. فلَم يكن يُعقَل أبدًا أن يكون زوجي حيًّا. فلو لَم يمُت بتلك القذيفة، لِما توارى عن الأنظار هكذا وبدأ حياة جديدة مع أخرى؟ فلَم نتشاجر يومًا بل كانت حياتنا الزوجيّة والعائليّة مثاليّة، مثاليّة!

لَم أفعَل شيئًا بهذا الخصوص مُحاولةً نسيان الموضوع كلّيًا إلا أنّني لَم أنجَح. فذلك العنوان قد تحوّلَ إلى جمرة بدأ نارها يحرقُ قلبي. وبعد شهرَين، قرّرتُ التحرّك. رتّبتُ بقاء ولَدَيّ عند جارتي التي كانت أيضًا صديقتي ووعدتُهما بالعودة بعد يومَين. أخذتُ سيّارة أجرة وعبَرتُ الحدود. بعد ذلك أخذتُ ميني فان إلى المنطقة الشماليّة وإلى تلك المدينة الصغيرة التي يُقال إنّ علاء يسكُن فيها. وصلتُ المكان مُنهكة مِن طول الطريق، لكن بحالة نفسيّة نشيطة لكثرة حماسي لتكذيب الإشاعات. كان قد هبَطَ الليل فأخذتُ غرفة في فندق صغير. هناك الحياة كانت شبه طبيعيّة، فالحرب لَم تمسّ شيئًا لبُعد المدينة عن نقاط القتال.

لَم أنَم قط لكثرة تضارب الأفكار في ذهني. فكنتُ حتى ذلك الحين قد اعتدتُ فكرة موت زوجي وبنَيتُ حياتي على هذا الأساس. فلماذا أعادوا فتح ما تعبتُ لإغلاقه ووضعه ورائي؟

وعند بزوغ الضوء، تحضّرتُ لتكذيب خبَر وصفتُه بالمُشين. مشيتُ في شوارع المدينة التي كانت لا تزال نائمة ووصلتُ المبنى المذكور. بدأَت دقّات قلبي تتسارع فأخذتُ نفَسًا عميقًا قائلةً لنفسي: "لا تُصدّقي الخبَر، لا تُصدّقيه".

قرعتُ جرس الناطور مرَّات عديدة، حتى ظهَرَ أمامي رجل غضِبَ منّي لإيقاظه. قلتُ له:

 

ـ عذرًا، لكنّني قادمة مِن وراء الحدود، والمسألة بغاية الأهميّة... أرجوكَ أن تُساعدني فلقد تركتُ ولَدَيّ مع جارتي لآتي إلى هنا.

 

هدأ الرجل وسألَني عمّا أُريدُه في الصباح الباكر. أجبتُه:

 


ـ قيلَ لي إنّ رجلاً اسمه علاء يسكنُ هذا المبنى مع زوجته وولده.

 

ـ ليس هناك مِن علاء في المبنى أنا آسف. وأنا مُتأكّد مِن ذلك. لقد جئتِ مِن بعيد مِن دون فائدة.

 

إرتسمَت على وجهي ابتسامة عريضة وكدتُ أعانق الناطور لكثرة فرَحي. شكرتُه واستعدَّيتُ للرحيل حين خطرَت ببالي فكرة:

 

ـ لدَيّ صورة له... أحتفظُ بها منذ... منذ سنوات. هل لكَ أن تنظرَ إليها؟

 

ـ لا بّد أنّ لهذا العلاء مكانة خاصّة في قلبكِ يا سيّدتي.

 

ـ أكثر مِمّا تتصوّر.

 

أرَيتُه صورة علاء وهو صرَخَ عاليًا:

 

ـ آه! تقصدين السيّد فؤاد! أجل، هو سكَنَ المبنى مع عائلته لكنّه تركَنا منذ حوالي الشهر.

 

ـ هل أنتَ مُتأكّد مِن أنّه هو؟!؟ أرجوكَ... فالأمر بغاية الأهميّة! أنظُر مُجدّدًا! ربمّا يُشبه ذلك المدعوّ فؤاد؟ فالناس تتشابه أحيانًا.

 

نظَرَ الناطور إليّ بشيء مِن الأسف والحزن وتابعَ:

 

ـ يا سيّدتي... إنّه الشخص نفسه، أنا مُتأكّد مِن أقوالي.

 

ـ إلى أين ذهَبَ؟!؟ قُل لي!!!

 

ـ أقسمُ لكِ أنّني لا أعرفُ إلى أين انتقَلَ! ما الأمر؟!؟ لقد أخفتِني!

 

ـ إنّه زوجي! زوجي الميّت!

 

ورويتُ للرجل القصّة مِن بدايتها، ورأيتُ كيف أنّه تأثّرَ لِما حصَلَ لي، خاصّة أنّ شقيقته ترمّلَت هي الأخرى بسبب الحرب. أعطاني الناطور بعض التفاصيل عن علاء وزوجته وابنه، وكيف أنّهما قليلو الخروج والتخالط مع الجيران وباقي الناس عامّةً. أمّا بالنسبة لعمَل علاء، فهو قال لي إنّه موظّفٌ في شركة للاستيراد والتصدير مقرّها قريب مِن حيث نحن. تركتُ له رقم هاتفي طالبةً منه اطلاعي على أيّ شيء يتذكّره قد يكون مُفيدًا لبحثي، ورحلتُ.

عدتُ إلى الفندق بحالة يُرثى لها، فقد كان الناس على حقّ، علاء لَم يمُت بل هو بصحّة مُمتازة وربّ عائلة ثانية! لكن لماذا يفعلُ ذلك بنا؟ فكما ذكرتُ سابقًا، كنّا على وفاق تام... أو هكذا ظننتُ. هل أنّه فقَدَ ذاكرته بسبب القذيفة التي على ما يبدو لَم تصِبه مٌباشرةً كما ظنّ الجميع؟ فلا يُعقَل أن يكون زوجي قد قرّرَ فجأة تركنا والاختفاء لوقت كافٍ كي يتزوّج مُجدّدًا ويُنجب! بكيتُ كثيرًا وسألتُ الله لِما هو يُعذّبني هكذا، وغرقتُ في النوم.

عندما استفَقتُ وجدتُ وسادتي مُبلّلة بالدموع، فرِحتُ أغسلُ وجهي قبل أن أقصدَ تلك الشركة للسّؤال عن زوجي. لكن للأسف قيل لي هناك إنّ الموظّف الذي يُدعى "فؤاد" والذي هو بالفعل مَن يظهرُ في الصورة التي أرَيتُها لهم، قد تركَ وظيفته قبل شهر تقريبًا.

هل علِمَ علاء أنّ أحدًا يعرفُني قد رآه ففضّلَ الهروب، أم أنّ تركه عمله ومسكنه كان مُجرّد صدفة؟ على كلّ الأحوال، صمّمتُ على إيجاده مهما كلّفَ الأمر، فكان مِن حقّي وحقّ ولَدَيّ معرفة حقيقة ذلك الرجل.

عدتُ إلى ولَدَيّ وقلبي مليء بالحزن والغضب، لكنّني لَم أُظهِر لهما شيئًا لصغر سنّهما. أطلعتُ جارتي على كلّ ما جرى، فلَم أكن قادرة على حفظ هكذا سرّ لنفسي. أمّا بالنسبة لوالدَيّ، فأبقَيتُهما خارج الموضوع لأنّ تلك المسألة هي مِن شأني وحسب.

بعد ذلك تغيّرَت حياتي، فغابَت عنّي بسمتي وفرَحي وصرتُ سريعة الانفعال.

كَم مِن الوقت كنتُ سأبقى أتخبّطُ في الظلمة لولا اتّصال ذلك الناطور بي؟ ربمّا طوال حياتي.

فبعد لقائي به بأشهر طويلة، خابرَني الناطور قائلاً:

 

ـ لدَيّ أخبار بغاية الأهمّيّة لكِ.

 

ـ لا تقُل شيئًا عبر الهاتف، سآتي إليكَ بعد أيّام قليلة.

 

حزمتُ حقيبتي وتوجّهتُ إلى البلد وفي بالي شيء واحد: الانتقام!

 

يُتبع...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button