موته كان خلاصي!

فقدان مفاتيح البيت يكون عادةً أمراً مزعجاً للغاية ولكن بالنسبة لي كانت كارثة. عندما تفقدتُ حقيبتي وجيوبي وكل مكان قد يخطر على البال شعرتُ بالذعر. هل أخَذَ مفاتيحي منّي عندما إلتقينا في المقهى؟ أذكرُ أنني ذهبتُ الى الحمّام تاركةً حقيبتي على الطاولة. لا بدّ أنه إستغنم فرصة غيابي ليسرقها. يا إلهي! كيف كنتُ سأعود إلى المنزل خاصةً أنّ والديّ كانا في الجبل لقضاء عطلة الأسبوع.

كنتُ قد تعرّفتُ على وليد في السوبرماركت قبل شهر. بينما كنتُ واقفة في الصفّ على الصندوق، أعطاني الرجل الواقف أمامي دوره. سررتُ جداً خاصةً أن أمّي كانت تنتظرني في السيّارة في الحرّ الشديد. إبتسمتُ له وشكرتُه. خرجتُ متجهةً الى المركبة لأضع أكياسي فيها عندما شعرتُ بأحد يساعدني. فوجئتُ برؤية الرجل نفسه. قلتُ له :

 

- كيف تمكّنتَ من الوصول بهذه السرعة؟ كان لديكَ سلّةً مليئةً بالمشتريات!

 

- تركتُها هناك وركضتُ وراءكِ. سامحيني على وقاحتي ولكنني أُعجبتُ بكِ كثيراً وخفتُ أن تذهبي وتختفي إلى الأبد. بعدما وجدتُك لن أدعكِ ترحلين.

 

أعجِبتُ بصراحته وإصراره عليّ. كان أيضاً جد وسيم فلم أستطع المقاومة. ألقى التحيّة على أُمّي معرّفاً عن نفسه وطالباً منها الإذن بزيارتنا مؤكداً لها أنّ قصده شريف ونبيل.

تبادلنا أرقام الهاتف وزارنا في اليوم التالي كما كان قد وعدنا. أحبّاه والديّ كثيراً خاصةً عندما علما أنّ لديه شركة تجاريّة ناجحة تخوّله ان يقدّم لإبنتهما حياة مريحة.

بدأنا نتواعد وكان يصطحبني الى أماكن فاخرة، ولكن سرعان ما إنتابني شعور بالإنزعاج فكان يتكلّم عن نفسه طوال الوقت مناقضاً أقواله بشكل مفضوح. فبدأتُ أشكّ بأمرِه خاصةً بعد تلك الحادثة التي وقعت عندما كنّا جالسين للعشاء في مطعم على شاطىء البحر. حيث إقترب رجل من مائدتنا صارخاً لوليد:

 

- أين إختفيتَ يا صاحبي؟ ألم تعُد تعمل كنادل في "نادي المنتزه" ؟ ذهبتُ انا وزوجتي للعشاء هناك البارحة ولم أرك.

 

- أنا آسف سيّدي ولكن لا بدّ أنّك مخطىء. ربّما أشبه صاحبك هذا ولكني لستُ هو. طابت ليلتك.

 


نظرَ الرجل إلى وليد بإستغرابَ وذهبَ معتذراً.  

منذُ تلك اللحظة بدأتُ أعيد النظر بكل شيء قاله لي وبكل شيء رأيته بعينيّ. وللتأكّد من شكوكي قررتُ أن اسأل عنه في ذلك النادي. إكتشفتُ أنّه لم يكن يملك شركة تجاريّة بل كان فعلاً نادلاً بسيطاً هناك. لم يكن إبن فلان الرجل العصاميّ الذي بنى علاقات سياسيّة وتجاريّة مع وأوروبا ولم تكن والدته المرأة المرموقة التي كانت تقيمُ الحفلات الفخمة للسفراء. كانوا جميعاً أناساً عاديين يعيشون حياة بسيطة جداً. واجهتُ وليد بالحقيقة. حاول في البدء أن ينكُر كل شيء ولكني أجبرتُه على الإعتراف:

 

- عندما رأيتُكِ في السوبرماركت علمتُ من ملابسكِ وسيّارتكِ أنّكِ لن تتقبليني على حقيقتي. فإختلقتُ هذه القصص لأبهركِ. سامحيني.

 

- أنا لا أسأل عن المال أو المركز. ولكن براعتكَ بالكذب وبناء السيناريوهات مخيفة. لا أستطيع العيش مع شخص يجيد التضليل هكذا. أنا آسفة ولكن عليَّ أن أضع حدّاً لعلاقتنا الآن بعدما فُقدت الثقة بيننا. وداعاً.

 

- حسناً كما تريدين ولكن إعلمي أنني أحبّك فعلاً وسأفعل ما بوسعي لأثبتَ لكِ هذا. أنتِ الآن مستاءة وتحتاجين الى بعض الوقت لإدراك مدى حبّي لكِ.

 

عدتُ إلى البيت معتقدةً أنّ كل شيء قد إنتهى. ولكن الحقيقة كانت مختلفةً تماماً. فقبل أن أصل إلى منزلي بدأت الرسائل تردني على هاتفي كلها تقول:" أحبّكِ". بعثَ ما يقارب الـ20 رسالة خلال دقيقة واحدة وبقيَ على هذه الحال طوال النهار والليل.
في البدء لم أُجبه معتقدةً أنه سيهدأ، ولكنه لم يسأم من مراسلتي. أجبرتُ على إخفاء صوت هاتفي لكي أتمكن من العمل والنوم.

وبعد أسبوع وجدته واقفاً أمام بابي.

 

- إشتقتُ إليكِ حبيبتي وجئتُ لآخذكِ الى عملكِ.

 

- إذهب من هنا! ما بالكَ لا تفهم؟ لا اريدُك َ ولا أريدُ كذبكَ !

 

ثم دفعته بقوّة جانباً وركبتُ سيّارتي. ولكن عند خروجي من المكتب وجدته بإنتظاري وكأنّ شيءً لم يكن. تجاهلتُه قدر المستطاع وذهبتُ الى البيت. عاد في اليوم التالي وكل يوم على مدى أسبوعين حتى قررتُ أن أذهب إلى الشرطة وإخبارهم بكل شيء. ولكن بما أنّه لم يسبّب لي أي أذى فعليّ لم يكن بإستطاعتهم سوى تسجيل شكوتي.

لا أدري إن كان قد رآني ذاهبة إلى قسم الشرطة لأنّه إختفى فجأةً وعندما ظننتُ أنّه سئمَ من ملاحقتي عاد بعد أيّام طالباً منّي عبرَ رسالة أن نلتقي مرّة أخيرة في مكان عام ليقدّم لي إعتذاره مدركاً أنّ كلّ شيء إنتهى بيننا.

تقابلنا وبدا لي هادئاً ومنطقيّاً وتفارقنا بطريقة حضاريّة. ولكن بعد خروجي من المقهى أدركتُ أنّ مفاتيحي قد إختفت وأنّه كذبَ مرة أخرى عليّ. لم أخاطر طبعاً بالرجوع إلى المنزل مع أنّه كان هناك مفاتيح إضافيّة لدى خالتي. ذهبتُ إليها ومكثتُ الليل عندها. ولكن مجرى الأحداث التي تتالت كان غير متوقّعاً إطلاقاً فعندما رنّ هاتفي في اليوم التالي لم أتخيّل للحظة أنّ المتصّل كان الشرطيّ الذي سجّل شكوَتي.
فقد أخبرني أن حادث سيّارة مروّع حصلَ لوليد وأنّه قد ماتَ على الفور. حزنتُ كثيراً لسماع هذا وشعرتُ أنني كنتُ قاسية معه فلم أرِد له يوماً الأذى. ولكن تحوّل شعوري إلى غضب وذعر عندما أخبرني الشرطيّ الوقائع قائلاً:

 

- عندما وصلنا إلى حطام السيّارة حاولنا طبعاً معرفة لمن تعود الجثّة. وجدنا بطاقة هويّة وتذكّرتُ أنّني كنتُ قد دوّنتُ بنفسي هذا الإسم من فترة قصيرة. آنستي، لا تحزني عليه على العكس، عليكِ أن تحمدي الله أنّه مات قبل أن يصلَ إليكِ. فلقد عثرنا بحوذته على حقيبة تحتوي على حبل وشريط لاصق ومسدّس. موته كان خلاصكِ. ماتَ وكُتبت لكِ حياة ثانية. 

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button