حين وصَلَ طارق إلى الشركة، نظرنا إليه بشيء مِن الاندهاش والرَيبة، فهو كان يرتدي ثيابًا قديمة الطراز مع أنّه لَم يكن كبيرًا في السنّ ونظّارات سميكة للغاية. للحقيقة، لَم نستطِع تحديد سنّه على التمام، بل وضعناه في فئة الثلاثينات وصولاً إلى الأربعينات. هو ألقى التحيّة علينا بتهذيب، وراحَ على الفور يجلسُ على مكتبه مِن دون إصدار أيّ صوت. وقفنا للحظة نُحدّقُ فيه ثمّ رحنا إلى أعمالنا. وفي فترة الاستراحة، بدأنا نتساءَل إن كان سينخرطُ معنا أم يبقى لوحده. تطوّعتُ للذهاب إليه وجَلبه إلى غرفة الاستراحة، وعدتُ به مُنتصِرة بعد أن حاوَلَ التهرّب بذرائع عديدة. عندها قال كلّ منّا كلمة لطيفة له ورأيناه يبتسم، الأمر الذي أراحَنا. سألَته إحدانا عن نفسه لكنّه غيَّرَ الحديث بلباقة، وانتهى الموضوع في ما يخصّه. فهِمنا أنّ طارق لا يزال يشعرُ أنّه غريب وسطنا، فأعطَيناه الوقت اللازِم للتأقلم.
لَم يتغيّر شيء على مرّ الأيّام بالنسبة لتصرّف طارق في الشركة، لكن إتّضَحَ انّه موظّف جدّيّ ورصين يقومُ بعمله مِن دون ملَل، أليس هذا ما كان مطلوبًا منه؟ أثنى المُدير أمامنا على دقّة طارق وتفانيه الواضح، فشعرنا بنوع مِن الانحياز إذ أنّنا لَم نسمَع أيّ مدح لنا مِن قَبل، لكن عُدنا وفهمنا أنّ ذلك الكلام كان تشجيعًا للقادم الجديد. إلا أنّ طارق بقيَ لغزًا لنا، ولَم نتوقّف عن اصدار الترجيحات بشأنه. ومرّة أخرى، تطوّعتُ لمعرفة المزيد كَوني صبيّة حسناء تُجيدُ التعامل مع الشبّان والرجال. لكنّ زميلنا الجديد لَم يتأثّر بأنوثتي، الأمر الذي أحبطَني فأصرَّيتُ أكثر وأكثر، لكنّه قالَ لي بتهذيب:
ـ أرجوكِ يا آنسة... أنا لا أحبّ أن أُدليَ بتفاصيل عن حياتي الشخصيّة.
ـ لا أسألُكَ مِن باب الفضول يا طارق، بل أُريدُ أن أتعرّفَ عليكَ أكثر.
ـ لن تعرفي عنّي سوى ما يجب معرفته، فأنا هنا لأعمَل وليس لأكوّن صداقات. أنتم كلّكم لطفاء معي وأشكرُكم على ذلك، لكن لدَيّ واجبات عليّ القيام بها هنا ولا وقت لديّ للثرثرة.
ـ ثرثرة؟!؟ كلامكَ قاسٍ يا طارق.
ـ أعذريني... لَم أقصدُ أن أبدوَ قاسيًا، لكنّكِ تضيعين وقتكِ، فلن تعرفي عنّي شيئًا.
عدتُ إلى زملائي مُحبطة وأخبرتُهم بما قالَه طارق وسكتنا جميعًا، فلَم يتصرّف أيّ منا هكذا لدى قدومه الشركة بل انخرَطنا جميعًا على الفور بالموظّفين القُدامى.
ومنذ ذلك اليوم، إبتعَدَ الكلّ عن طارق، فكيف لنا أن نُصادق شخصًا لا يُريدُ إعطاءنا أيّ معلومة عنه لنتعرّف عليه أكثر؟ أمّا هو، فبدا لنا سعيدًا هكذا. وسرعان ما لَم نعُد نعتبرُه موجودًا ولا نتذكّره إلا عندما إقتضَت الحاجة بالنسبة لسَير العمَل.
مرَّت أسابيع عديدة... واختفى طارق فجأة! للحقيقة لَم نُلاحظ غيابه على الفور، بل السكرتيرة هي التي أثارَت الموضوع بعد أن أنشغَلَ بال مُديرنا حول عدَم قدوم زميلنا الغامض إلى عملَه. لكن بالرغم مِن الجهود كلّها، لَم يستطِع أيّ مِن المُدير أو مُساعدته إيجاد طارق أو معرفة أيّ معلومة عن مكانه.
فالجدير بالذكر أنّ طارق كان قد أعطى للشركة تفاصيل خاطئة عن عنوانه ومكان عمَله السابق. أمّا بالنسبة لرقم هاتفه، فهو كان مُقفلاً تمامًا.
بدأنا كلّنا نُثير الترجيحات وأطلَقنا العنان لمُخيّلتنا، فتصوّرنا أغرَب السيناريوهات. لكنّنا عُدنا واستوعَبنا أنّ مِن الجائز أن يكون قد ماتَ بطريقة طبيعيّة أو بسبب حادث ما. عندها توقّفنا عن المزاح، وفضّلنا انتظار أيّ خبَر جدّيّ عن الذي اختفى.
إعترفُ أنّني تأثّرتُ أكثر مِن غيري بالأمر، لأنّني أنا التي تكلّمَت معه وحثََّته على الاندماج بنا، بينما بقيَ زملائي بعيدين عنه. لِذا رحتُ إلى مُديرنا أسأله إن كان قد علِمَ شيئًا عن طارق. لكنّه نظَرَ إليّ بحزن وقال:
ـ المسكين... المسكين ماتَ دهسًا بسبب سائق مُتهوِّر.
ـ يا إلهي! كيف علِمتَ بالأمر يا حضرة المُدير؟
ـ جاءَني إتّصال مِن أحَد أنسبائه.
ـ خبَر مُحزِن للغاية، فهو كان إنسانًا خلوقًا بالرغم مِن إنعزاله عنّا.
ـ أجل، قامَ طارق، رحمه الله، بعمَل جيّد عندنا، فقد رتّبَ جميع الملفّات بشكل مُحترف جدًّا وكان سيُراجِع قريبًا حسابات عملائنا كلّها. لم أجِد حتّى اليوم أفضل منه لهذا المنصب. أخبري الباقين عمّا حدَثَ له، مِن فضلكِ.
ذُهِلَ الزملاء بالخبَر، وعمَّ الحزن بيننا وقُلنا الصلوات مِن أجل سلام روحه، ثمّ عُدنا إلى مشاغلنا المُعتادة.
لكن بعد أيّام قليلة وصلَتني رسالة خطّيّة على هاتفي تقولُ: "هذا أنا، لا أزال حيًّا. أحتاجُ إلى التكلّم معكِ". علِمتُ على الفور أنّ المُرسِل هو طارق، حتى لو كانت الرسالة مُبهمة، ففي قرارة نفسي لَم أُصدِّق خبَر موته.
تبادَلنا بضعة أسطر أعطاني طارق خلالها موعدًا ليشرحَ لي حقيقة ما جرى، فوافَيتُه إلى ذلك المقهى الصغير. للحقيقة لَم أتعرَّف إليه على الفور، فهو بدا لي مُختلفًا مِن دون نظّاراته السميكة وفي ملابس عصريّة وبطريقة جلوسه ونظراته الواثقة. وبعد أن جلستُ معه، قال:
ـ إسمي أيمَن وكلّ الذي بدا منّي ليس مُطابقًا للواقع.
ـ ماذا تعني؟ لستُ أفهَم.
ـ لقد قصدتُ الشركة ليس للعمَل فيها بل للتقصّي.
ـ عمّا؟!؟
ـ تقصدين عمّن. مُديركم تحت المجهَر. أنا مبعوث مِن الشركة الأم بسبب شكوكٍ حول ذلك المُدير، فقد بدا لمجلس الإدارة أنّ هناك اختلاس مِن قِبَله.
ـ آه... لذلك أنتَ راجَعتَ الملفّات كلّها؟
ـ أجل، لكن للأسف، ليس كلّها. فلقد شعرتُ أنّ شخصيّتي ستنكشِف بين يوم وآخَر فاختفَيتُ وادّعَيتُ الموت.
ـ مُديرنا رجُل طيّب وخلوق ولَم أسمَع عنه أيّ كلام سيّئ.
ـ لأنّه يُخفي لعبته جيّدًا. إسمعي، شركتنا هي مِن أقوى الشركات في المنطقة وهناك مَن يستفيد منها خلسةً. واتّضَحَ، بحسب تحرّيات سابقة، أنّ الاختلاس آتٍ مِن فرعكم وبالأخص مِن القيِّم عليه.
ـ ولماذا تقولُ لي ذلك؟ ما شأني؟
ـ لدَيكِ دور عليكِ لعبه.
ـ أنا؟ لستُ سوى موظّفة بسيطة.
ـ ربّما، لكنّكِ صديقة السكرتيرة الخاصّة... هذا ما لاحظتُه.
ـ صحيح ذلك. أتُريدُني أن أطلعَها على ما يجري؟
ـ لا! لا يجب أن يعرفَ أحدٌ بالأمر، فأنا لا أثقُ بأحَد.
ـ لكنّكَ وثقتَ بي.
ـ أجل، فلقد راقبتُكِ. إضافة إلى ذلك، لدَيّ شعور قويّ تجاهكِ. لا تُقاطعيني مِن فضلكِ... عادةً أنا لا أخلطُ العمَل والحياة الخاصّة، لكن في ما يخصّكِ، فلقد تجاوزتُ تلك الحدود. أجل، أنا مُعجبُ بكِ، لا بل مُغرَمٌ.
ـ لكن...
ـ أعرفُ أنّ ما قلتُه اليوم صعب الاستيعاب، أكان مِن ناحية هوّيتي الحقيقيّة أو مِن جهة مشاعري تجاهكِ. كلّ ما أُريدُه منكِ هو الوثوق بي وإعطائي ملفًّا أخيرًا لَم يتسنَّ لي مُراجعته. إنّه خاصّ بأسماء عملائكم.
ـ لا أستطيع إعطاءكَ ملفًّا بكامله! سيُلاحظُ المُدير إختفاءه!
ـ أقصدُ تصويره. إحملي صديقتكِ على إدخالكِ إلى مكتب المُدير. سأُعطيكِ الآن كلّ التفاصيل اللازمة.
عندما عدتُ إلى بيتي، كان رأسي مليئًا بالتساؤلات وأخذتُ أُحلِّل ما سمعتُه. أيمَن هو مُفتّش لدى الشركة الأم، إنتحَلَ شخصيّة طارق وأخَذَ يبحثُ في الملفّات عن دلائل تتعلّق بإختلاس مُديرنا للأموال. وهو وقَعَ في حبّي واتّصَلَ بي لأُساعده على إنهاء مُهمّته بإحضار له صوَر ملّف العملاء. شعرتُ أنّني وسط قصّة تجسّس مليئة بالمُفاجآت وأثارَني ذلك. فكنتُ سأُساعدُ أيمَن على توقيف مُديرنا عند حدّه. مِن ناحية أخرى، أسِفتُ أن يكون مُديرنا سارِقًا ونصّابًا، فهو بالفعل إنسان طيّب وعادل وبمثابة أب لنا جميعًا. لكن أليس أيمَن مُختلفًا تمامًا عن شخصه كطارق؟ هل أنّ لمديرنا وجهَين أيضًا؟ وماذا عن موقفي مِن حبّ أيمَن لي؟ فالخبَر لَم يُفرِحني بشكل خاصّ، فأنا لا أهواه عاطفيًّا بل أعتبرُه شخصًا عاديًّا للغاية بالرغم مِن كونه مُفتِّشًا.
فكّرتُ في الموضوع طوال الليل ، ولَم أنَم بل رحتُ العمَل مُنزعِجة كثيرًا لِما كنتُ سأفعله، خاصّة أنّني خفتُ أن يُفتضَح أمري. فحتّى لو كان المُدير نصّابًا، ألن يقولَ الجميع عنّي إنّني جاسوسة؟ وكيف لهم أن يثقوا بي بعد ذلك؟
جلستُ خلف مكتبي أُفكِّر بكيفيّة طلَبي مِن صديقتي السكرتيرة دخول مكتب المُدير مِن دون إثارة شكوكها، وذلك قَبل أن يأتي المُدير إلى الشركة. كان الوقت يُداهمُني... فكان عليّ تصوير ملّف العملاء بسرعة فائقة. مهلاً... ملفّ العملاء؟ ملفّ العملاء؟!؟
هنّأني الجميع وحصلتُ على ترقية يوم اقتيدَ أيمَن إلى السجن، وكنتُ فخورة بنفسي لأنّني لَم أقَع في الفخ. فلقد وثقِتُ بانطباعي الأوّل عن مُديري، إذ كنتُ أعرفُه منذ سنوات ولن أُصدِّق غريبًا يقولُ ما يشاء عنه. إضافة إلى ذلك، طلَبَ منّي أيمَن تصوير ملّف العملاء، في حين قال إنّه يُفتّشُ عن دلائل حول اختلاس ماليّ. وبما أنّني لستُ غبيّة كما هو اعتقَدَ، ولَم يؤثِّر بي كلامه عن الحبّ والغرام، ربطَُّ الأمور ببعضها، فانتظرتُ أن يأتي المُدير لأُخبره كلّ شيء. إتّصلنا بالشرطة وأنا بأيمَن لأُعطيه موعدًا مزعومًا لتسليمه طلبَه. ألقيَ القبض عليه واتّضَحَ أنّه يعمَل كجاسوس لدى شركة كبيرة مُنافِسة، الأمر الذي لَم أكن أعلَم أنّه موجود على الاطلاق، ويُسمّى "التجسّس الصناعيّ".
يا لسعادتي لأنّني لَم أصبِح شريكة في تلك العمليّة، حتى عن غير قصد، وتجنّبتُ التسبّب بالضرَر للشركة التي أعيشُ منها ولمُديري الذي يُعاملُني أفضل مُعاملة. وأشكرُ الله أنّني لَم أٌصدِّق وعود أيمَن بالحبّ، كبعض الصبايا اللواتي تصدّقنَ الكلام المعسول وتحلمنَ بالزواج بأيّة طريقة. أنا إتّكلتُ على حَدسي فقط واستعملتُ المنطق والتحليل، وساهمتُ بتوقيف إنسان لو نجَحَ بفعلته لكان تسبَّبَ بضرَر كبير للشركة التي أعمل فيها!
حاورتها بولا جهشان