من يحاول التخلّص من خالتي؟ (الجزء الثاني)

وصلَت وداد أخيرًا مِن السفَر، والتقَينا في كافتيريا المشفى قبل أن ترى أمّها، لأُطلِعها شخصيًّا على المُستجدّات والنظريّات الخطيرة التي توصّلتُ إليها. بعد التفكير في الأمر، هي وجدَت صعوبة بتصديق أنّ أختها قد تؤذي أو حتى تُهمل أمّها، لكنّها عادَت وقالَت:

 

ـ مِن جهة أخرى، وكما قلتُ سابقًا، صارَت هدى في الأربعين مِن عمرها، وقد تكون، في ذهنها طبعًا، تلومُ أمّنا على بقائها عزباء، مع أنّها لَم تبدأ بالاهتمام بها سوى مِن سنوات معدودة. إضافة إلى ذلك، أختي غير محظوظة منذ ولادتها بأيّ نوع مِن الجمال أو الجاذبيّة، على عكسي. فكما لاحظتِ حتمًا، أُشبِهُ أمّي وهي تُشبِهُ والدنا. أمّا في ما يخصّه، فلا أستغربُ أبدًا أن يكون يُواصل تعذيب زوجته، فهو لَم يكن يومًا لطيفًا معها أو مُحبًّا، بل العكس. لكن ما تقولينَه، هو أنّ أبي وأختي مُتواطئان للتخلّص مِن أمّي... إنّها قصّة شبيهة بالأفلام!

 

ـ إذًا عليكِ التكلّم مع الطبيب والاستفسار عن الذي حصَلَ لخالتي، فهو رفَضَ الإجابة على أسئلتي بحجّة أنّني لستُ فردًا مِن عائلتها المُقرّبة.

 

ـ سأعرفُ كلّ ما عليّ معرفته. دعيني أوّلاً أرى أمّي الحبيبة، فكَم خفتُ أن أفقدها وأنا بعيدة عنها ألوف الأميال! ما أبشَع الغربة!

 

ـ لماذا سافرتِ حقًّا؟

 

ـ بسببه هو، أعني أبي، كَم أنّه كريه! منذ ما أتذكّر، وهو يتصرّف في البيت وكأنّه نزيل في فندق، ومعنا وكأنّنا غرباء عنه لا بل أعداؤه. فهو لَم يُحبّنا حقًّا فقط لأنّنا إناث. لكن مع الوقت، صارَ هناك رابط بينه وبين هدى وشعرتُ أنّني وأمّي خارج تلك الحلقة. عرضتُ عليها أن تأتي معي إلى أمريكا، ففي حينها كانت لا تزال بصحّة جيّدة، ولدَيها عمَل تُحبّه ويُعطيها فرحًا لَم تلقَه في بيتها. ثمّ تزوّجتُ وصرتُ مشغولة بزوجي وعمَلي. لماذا هي لَم تثُر ضدّ أبي ولو مرّة واحدة؟!؟

 

ـ لا تقارني بين شخصيّتكِ وشخصيّتها، فهي إنسانة خاضعة، وبنات جيلها تعلّمنَ السكوت والتضحيّة والابتعاد عن الفضيحة.

 

ـ وما نفع التضحية عندما يُربون الأولاد في جوّ مسموم ومَحقون، ويكبرون ليصيروا إمّا خاضعين أو ظالمين؟

 

ـ إذهبي الآن وحاولي معرفة المزيد قبل أن يحين موعد خروجها مِن المشفى!

 

ذرفَت ثريّا الدموع لدى وصول ابنتها الغرفة، وتبادلَت المرأتان الكثير مِن الكلام، لكن حين فتحَت وداد موضوع الأقراص والأكل، إنغلَقَت أمّها كلّيًّا ولَم يُنقذها إلا دخول هدى، فهي قالَت لأختها عندما رأتها:

 

ـ مَن أرى بيننا؟ أختي وداد؟ المُغترِبة والمُرتاحة مِن أيّ مسؤوليّة وهَمّ؟

 

ـ أُذكّرُكِ يا هدى أنّني سافرتُ قبل أن تتدهوَر حالة أمّنا الصحّيّة.

 

ـ وإن يكن! أنتِ لا تزالين بعيدة ومُرتاحة!

 

ثمّ نظرَت إلى أمّها وصرخَت بها:

 

ـ ماذا كنتِ تقولين لوداد؟ هيّا أجِبي!

 

ـ لا شيء، صدّقيني... كنتُ فقط أسألُ عن أخبارها في أمريكا... هذا كلّ ما قلتُه!

 

ـ حسنًا... لا تنسي أنّكِ تعبة وفاقدة الادراك الصحيح بسبب الغَيبوبة التي كنتِ فيها، وقد تتصوّرُ لكِ أمورًا لا أساس لها.

 

ـ لَم أقُل شيئًا.

 

بقيَت هدى جالسة مع أختها وأمّها طوال الوقت، ثمّ وافَتني وداد في الكافتيريا لتقصّ عليّ ما حصل. عندها سألتُها:

 

ـ ألا تزال لدَيكِ شكوك في ما يخصّ نظريّتي؟

 

ـ للحقيقة، مِن الواضح أنّ أمّي تخافُ مِن هدى. دعينا نتريّث، فالموضوع، إن صحَّ، خطير للغاية. فإن كنّا مُخطئتَين، سيدفعُ بريئان الثمَن.

 

ـ حسنًا... لكنّ الوقت يُداهمنا. هل قابلتِ الطبيب؟

 

ـ سأراه بعد نصف ساعة، فلدَيه مرضى.

 

غابَت وداد وعادَت إليّ قائلة:

 

ـ لا أُصدّق ما حصَل! رحتُ أرى الطبيب وعندما عرّفتُه عن نفسي أدارَ ظهره وخرَجَ مِن مكتبه بحجّة لَم أفهمها. ركضتُ وراءه وأمسكتُه بذراعه وأدرتُه نحوي صارخةً به أنّ مِن حقّي القانونيّ معرفة أسباب حالة أمّي، مُضيفةً أنّني قادرة على الاشتكاء عليه.

 

ـ واستجابَ لطلبكِ؟

 

ـ بالطبع، فأنا أعرفُ حقوقي!

 

ـ لكن ما سبب تردّده؟!؟

 

ـ توجيهات هدى وأبي له.

 

ـ أرأيتِ؟!؟ أخبريني ما قالَه لكِ الطبيب وبالتفاصيل!

 

ـ أُطلبي لنا القهوة أوّلاً فرأسي سينفجِر!

 

شربنا القهوة وحثَّيتُ وداد على التكلّم، فكان صبري قد نفَذ. كنتُ وسط أحداث شبيهة بقصّة بوليسيّة وحماسي بذروته!

قالَت لي وداد أخيرًا ما دارَ بينها وبين الطبيب:

 

ـ حسَب قوله، حصَلَ لغظ في أدوية أمّي، فهي تناولَت جرعة إضافية أو أكثر مِن دواء الأعصاب.

 

ـ هدى هي التي تُعطيها الأدوية.

 

ـ أمّا في ما يخصّ نحول والدتي، فقالَ الطبيب إنّها أقرَّت بنفسها أنّها لا تأكلُ لقلّة شهيّتها.

 

ـ هذا ليس صحيحًا! فقد رأيتُها تأكل بشراهة الكعك مع الشاي! إضافة إلى ذلك، المُمرّضة أكّدَت لي أنّ خالتي تُنهي وجبتها حين تكون موجودة.

 

ـ قد تكون عادَت شهيّتها لها بسبب العلاج الذي تتلقّاه في المشفى. إسمعي، أعرفُ أنّ شيئًا مُريبًا يجري في بيت أهلي، لكن لكلّ شكوككِ جواب منطقيّ. لا أستطيع المكوث في البلَد طويلاً وإلا فقدتُ عمَلي.

 

ـ لقد أُجبِرَت أمّكِ على القول إنّها لا تُحبّ الأكل، فهي خائفة مِن أبيكِ وأختكِ، أنا أكيدة مِن ذلك! ألا تعرفين رائد وهدى؟!؟

 

ـ سأبقى إلى حين تعودُ أمّي إلى البيت، هذا كلّ ما أستطيع فعله.

 

خابَ ظنّي كثيرًا إذ شعرتُ أنّني الوحيدة التي تعرفُ حقًّا ما يجري. لا أستطيع لوم وداد، فمِن الصعب تصديق أنّ أشخاصًا ربينا معهم بإمكانهم التوصّل إلى أذيّة قدرها قتل أحد أفراد العائلة نفسها. لكنّ ذلك يحصلُ يوميًّا في كلّ انحاء العالم، فلِما لا مع مَن نعرفُهم؟

عادَت وداد إلى أمّها وأنا بقيتُ في الكافتيريا أُفكّرُ في الموضوع، حين دخلَت هدى وتوجّهَت مُباشرة إلى طاولتي وجلسَت قُبالتي مِن دون إذن. وقالَت لي بغضب لَم تُحاول إخفاءه بالرغم مِن وجود الناس حولنا:

 

ـ لا أدري لماذا تفعلين ذلك وما هو هدفكِ، لكن عليكِ التراجع!

 

ـ ماذا تقصدين يا إبنة خالتي؟

 

ـ كلامكِ عن أدوية أمّي وخاصّة عن نحولها!

 

ـ هذا ما رأيتُه ومِن حقّي الاستفسار.

 

ـ ربّما هذا الفيديو سيُقنعُكِ.

 

وفتحَت هدى هاتفها وأرَتني فيديو تظهرُ فيه ثريّا في بيتها وهي تأكلُ بشراهة كمّيّة كبيرة ومُتنوّعة مِن الطعام. نظرَت إليّ هدى مُنتصِرة وقائلة:

 

ـ أرأيتِ؟ إنّها تأكل، وكثيرًا!

 

ـ لماذا التقطِّ هذا الفيديو يا هدى حين كانت أمّكِ لا تزال في بيتها ولَم تدخُل في الغيبوبة والمشفى. مَن يُصوِّر أمّه وهي تأكل لو لَم يشعُر بالحاجة للتستّر عن أمر خطير؟ ولِما تقولُ أمّكِ للطبيب إنّها لا تُحبّ الأكل لقلّة شهيّتها، بينما أراها في الفيديو وهي تلتهمُ أطباقًا عديدة وكأنّها لَم ترَ الطعام منذ فترة؟ هل تحسبين الناس أغبياء؟ إسمعي، لا أعرفُ دوافعكِ، لكن اعلَمي أنّ خالتي هي كلّ ما تبقّى لي مِن عائلة أمّي الحبيبة التي ماتَت وهي مشغولة البال عليها بسبب سوء مُعاملة والدكِ لها. واعلمي أنّني لن أسكُت أو أتراجَع فالسكوت عن الجريمة هو الاشتراك بها. سأكونُ لكِ ولأبيكِ بالمرصاد حتى لو تبقّى مِن عمري يوم واحد.

 

ـ سنرى ذلك! قد تعيشُ أمّي عشرين سنة أو أكثر!

 

ـ وهذا ما يدفعُكِ للتفكير بالتخلّص منها، أليس كذلك؟ تخافين أن يذهب عمركِ وأنتِ تهتمّين بأمّكِ؟!؟ مَن منعكِ مِن الزواج حتى الآن؟ فعمركِ يفوقُ الأربعين سنة ولَم تمرَض ثريّا إلا مِن سنوات قليلة. ولماذا لا تدعينَها تهتمّ بنفسها وتُعلّميها كيف تُديرُ أمورها، فالعديد مِن المكفوفين يتدبّرون حاجاتهم بنفسهم. لكنّكِ تهوين لعب دور الجلاد والضحيّة في آن واحد، وحقدكِ وأنانيّتكِ هما اللذان حالا دون زواجكِ وتأسيسكِ لعائلة، فأنتِ مثل أبيكِ يا هدى. إليكِ ما سأفعلُه: ليس لدَيّ أدلّة قاطعة على مُخطّطاتكِ لكنّني سأُراقبُكِ وأبيكِ. حين تعودُ خالتي إلى بيتها، سأزورُها بصورة دائمة وأُريدُ أن تتحسّن وأن يزيدَ وزنها. وإيّاها أن تُخطئ بالأدوية!

 

ـ وإلا؟

 

ـ وإلا ستجدين نفسكِ في السجن مع شريككِ! حياتكِ الآن أفضل بكثير مِن قبوعكِ وراء القضبان، صدّقيني.

 

ـ سأمنعُكِ مِن دخول بيتنا!

 

ـ وتلفُتين أنظار العدالة عليكِ؟ أنتِ أذكى مِن ذلك. لو كنتُ مكانكِ، لفعلتُ جهدي للحفاظ على صحّة ثريّا، فيوم ستموت، سأُقدِّم بلاغًا بكِ وأبيكِ وأطلبُ التشريح مِن قِبَل طبيب شرعيّ. وحتى لو لَم يجِدوا شيئًا مُريبًا في موتها، الفضيحة ستكون كافية للقضاء على سمعتكِ.

 

ـ أيّتها الأفعى!

 

خرَجت ثريّا أخيرًا مِن المشفى، وسافرَت وداد بعد أن طمأنتُها بأنّني سأهتمّ بأمّها. وصرتُ أزورُ خالتي مرّتَين في الأسبوع، وهي الآن بحالة جيّدة بعد أن استعادَت وزنًا مقبولاً لسنّها، وتعدَّلَ مستوى السكّر لدَيها وارتاحَت أعصابها. فلن أملَّ أبدًا مِن مُهمّتي التي صارَت قضيّة شخصيّة بالنسبة لي!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button