عندما وصلَني الخبَر، ركضتُ على الفور إلى المشفى لأستفسِر لدى زوج وإبنة خالتي عمّا حدَثَ لها ولماذا هي في غيبوبة. لَم أستطِع رؤية خالتي ثريّا عن قُرب، لكنّني تمكّنتُ، مِن خلال فتحة الباب، من رؤية نحول جسمها المُخيف. يا إلهي، كيف لها أن تخسَر هذا الكمّ مِن الوزن في حين لطالما كانت تميلُ إلى السمنة؟!؟
لَم ألتقِ بزوجها رائد أو ابنتها هدى، إنّما بالطبيب المُعالِج. لكن بعد أن عرّفتُه عن نفسي، قاطعَني قائلاً: "ليس مسموحًا لي إطلاعكِ على شيء، فهذه هي تعليمات عائلتها المُقرّبة". وكلّ ما إستطعتُ معرفته هو أنّها أخذَت كميّة زائدة مِن أقراص الأعصاب، وأنّها نائمة إلى حين يزولُ مفعول ذلك الدواء. في تلك اللحظة جاءَت ابنتها هدى، وأخذَتني جانبًا موصيةً بألا أُزعِج الطبيب بأسئلتي فهو لدَيه مرضى كثيرون ولا وقت عنده. وإن كنتُ أُريدُ معرفة أيّة تفاصيل، يُمكنُني سؤالها مُباشرة. وهي أكملَت قائلة:
ـ المسكينة أمّي... كونها مكفوفة ساهَمَ حتمًا في أخذَها جرعة كبيرة مِن ذلك الدواء. ستستفيقُ مِن غيبوبتها على الأرجح.
ـ أتمنّى ذلك يا إبنة خالتي... لكن ماذا عن نحولها؟
ـ إنّه داء السكّر... ما عسايَ أفعل؟
ـ لكنّ نحولها مُخيف! وهي تُعاني مِن داء السكّر منذ سنوات!
ـ لماذا هذا الإصرار مِن جانبكِ على مسألة النحافة؟ أهتمُّ بها جيّدًا وكذلك أبي!
ـ طبعًا، طبعًا. متى أستطيع رؤيتها؟
ـ الزيارات ممنوعة في الوقت الحاضر، على الأقّل إلى حين تستفيق. على كلّ الأحوال، نُفضّل ألا يراها أحدٌ حتى حين تخرجُ مِن الغيبوبة، فحالتها الصحّيّة هشّة للغاية.
وجدتُ تفسيرات هدى غير مُقنِعة لكنّني عدتُ إلى البيت. وفور وصولي، إتّصلتُ بإبنة خالتي الثانية وداد، التي تعيشُ وزوجها في الولايات المُتحّدة لأُطلعُها على حال أمّها. لَم أنسَ أن أقولَ لها كيف أنّ أختها وأباها يُحيطون مريضتهما بسرّيّة تامّة. عندها قالَت لي:
ـ لستُ مُطمئنة... أرجو منكِ أن تكوني أذنّيَ وعينَيّ حيث أنتِ... فأنتِ تعلمين في أيّة ظروف عاشَت أمّي مع أبي، وتعلمين أيضًا نفسيّة هدى الحاقدة على البشريّة بأسرها، بسبب قوامها وملامحها اللذَين وقفا حاجزًا أمام أيّ زواج مُحتمَل. فهي تُحمِّلُ أمّنا مسؤوليّة عزوبيّتها، خاصّة بعدما فقدَت المسكينة نظرَها وصارَت تهتمّ بها. يا إلهي... كَم أنا قلِقة! سأُحاولُ السفَر قريبًا، لكنّ الأمر صعب للغاية بسبب عمَلي وعمَل زوجي.
المُهمّة التي أوكِلَت إليّ أعطَتني حافزًا للإستقصاء عن الموضوع، فقرّرتُ أن أقصد المشفى في اليوم التالي خلال الساعات الهادئة آمِلة أن أعرِف المزيد.
وهكذا دخلتُ الطابق حيث هي غرفة ثريّا، ولَم يكن هناك سوى مُمرّضة واحدة مُنهمِكة بالردّ على الاتصالات وتعبئة بعض الأوراق. دخلتُ غرفة خالتي على رؤوس أصابعي وأغلقتُ الباب ورائي. جلستُ على كرسيّ بالقرب منها وأمسكتُ بيَدِها وبدأتُ أُكلّمُها. فلقد سمعتُ أنّ الذين هم في غيبوبة يُدركون ما يجري مِن حولهم. وبدأتُ أخبرُ خالتي عن شوقي إليها، ثمّ سردتُ لها بعض الذكريات المُفرِحة عن ماضٍ كانت أمّي لا تزال حيّة خلاله. وفجأة بدأت ثريّا بالتثاؤب مِن دون أن تستفيق فعلاً. إمتلأ قلبي بالفرَح وبالأمَل، فذلك عنى أنّها قريبة مِن الخروج مِن غيبوبتها. وقبل أن أتركها لوحدها، راقبتُ نحولها بإمعان: كانت كلّ عظام جسمها بارزة لا تُغطيها سوى طبقة رقيقة مِن الجلد. منظرٌ مُقلِقٌ للغاية، فقد كانت لِمَن لا يعرفُ أنّها نائمة، شبيهة بالميّتة.
زفّيتُ الخبر شبه السار إلى وداد وأخذنا نُصلّي سويًّا عبر الهاتف. يا إلهي، إشفِ ثريّا، المرأة الهادئة، والقنوعة والمُحِبّة! وتلك الصفات بالذات هي التي ساهمَت في تدمير حياتها، لأنّها أخطأت في إختيار زوجها الذي استغلّ طيبتها ودمَّرَها مِن الداخل والخارج. فإن كانت ثريّا تأخذُ أقراصاً للأعصاب، فذلك بسبب رائد ومُعاملته السيّئة لها. وأنا مُتأكّدة مِن أنّ داء السكّر جاءها أيضًا بسبب رائد. فكلّ شيء بدأ حين ولِدَت هدى، إبنتهما الثانية. كانت خالتي لا تزال في المشفى، فدخَلَ زوجها الغرفة دقائق بعد ولادة الطفلة صارخًا في زوجته:
-رماذا قلتُ لكِ؟!؟ ألَم أطلُب صبيًّا؟!؟ أنتِ تخفقين في كلّ شيء تفعلينَه! يا لك مِن فاشلة!
كانت والدتي رحمها الله موجودة، فدافعَت عن أختها بحرارة، لكنّ الطاغي لَم يتراجَع بل وعَدَ ثريّا بمُعاقبتها فور عودتها إلى البيت. وبعد مدّة قصيرة، بدأَت تُعاني خالتي مِن إكتئاب نفسيّ رافقَها طوال حياتها. علِمَت أمّي أن رائد توقّفَ عن مُعاشرة زوجته، خوفًا مِن أن تحمِلَ مُجدّدًا وتأتي له بإبنة ثالثة، وصارَ يُعاشرُ غيرها بطريقة مفضوحة غير آبهٍ لأحد. وإن حصل أن تذمّرَت المسكينة مِن أيّ شيء، كان الوحش يُبرحُها ضربًا. وهكذا أُصيبَت بداء السكّر، على الأرجح مِن جرّاء زعلَها الدائم. توسّلَتها أمّي أن تترك زوجها، إلا أنّ ثريّا بقيَت معه مِن أجل بنتَيها. خلاصها الوحيد كان عملَها الذي كان يُعطيها فسحة تتنفّس خلالها قليلاً قبل أن تعودَ إلى بيتها. عمِلَت سنوات عديدة، وعندما حانَ وقت التقاعد، حظيَت بتعويض ماليّ كبير، أخذَه رائد منها... بُمساعدة ابنتها هدى. أمّا إبنتها البكر وداد، فكانت قد سافرَت بعيدًا ولم تستطِع التدخّل لِمنع تلك السرقة العلنيّة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، بدأت خالتي تفقدُ نظرها تدريجيًّا، إلى أن صارَت مكفوفة وتعتمدُ كليًّا على زوجها وإبنتها.
إستفاقَت ثريّا بالفعل في اليوم التالي، وارتاحَ قلبي وقلب وداد في المهجَر، لِذا رحتُ أزورُها في المشفى لكنّني تفاجأتُ بهدى تقفُ كالحرس أمام الغرفة:
- لا يجب أن يراها أحدٌ... هي صحيح إستفاقَت لكنّها لا تزال تُعاني مِن تداعيات الغَيبوبة. عودي بعد أيّام... ولكن إتّصلي بي قبل أن تأتي كي لا تُعذّبي نفسكِ سُدىً.
في اللحظة نفسها، رأيتُ زائرة تترك غرفة خالتي فصرختُ لهدى:
ـ ولماذا بإمكانها رؤية خالتي؟!؟
ـ لا بدّ أنّها دخلَت الغرفة مِن دون أن أنتبِه، فلقد كنتُ في الكافيتيريا أشرب القهوة.
ـ أُريدُ رؤية خالتي!
ـ إنّها أمّي، وأنا وأبي مسؤولان عنها قانونيًّا ونُقرّرُ مَن يراها أو لا!
قرّرتُ عندها عدَم الإصرار، فتوجّهتُ إلى المصعد حين وافَتني إحدى المُمرّضات قائلة:
- لقد سمعتُ جدالكما... مريضتكِ تحتاج للرفقة... تعالي لزيارتها عند الثامنة مساءً، فإبنتها لا تنام عندها.
شكرتُ تلك المرأة الحنونة وارتاحَ بالي. دخلتُ مساءً غرفة ثريّا وهمَستُ لها:
- أنا إبنة أختكِ العزيزة... وأحملُ لكِ تحيّات وداد وقبلاتها الحارّة. هي آتية لرؤيتكِ في أوّل فرصة تُتاح لها. كيف حالكِ، هل أجلبُ لكِ شيئًا؟
عندها رفعَت خالتي رأسها عن الوسادة وقالَت:
- أنا جائعة! أطعموني!
إمتلأتت عَيناي بالدموع لأنّ شكوكي قد تكون في محلّها: كانت ثريّا لا تأكل شبعَها. طلبتُ المُمرضّة وسألتُها إن كانت خالتي قد تناولَت وجبة العشاء، فأجابَت أنّ هدى هي التي أطعمَتها قبل أن ترحل، فقلتُ لها:
- خالتي لا تزال جائعة، هل لكِ أن تأتي لها بأيّ شيء تأكله، أيّ شيء؟
إحتارَت المُمرضة، فمطبخ المشفى كان مُقفلاً وخالتي تُعاني مِن داء السكّر، فماذا بإمكانها أن تأكل؟ عادَت المُمرّضة بكوب مِن الشاي والكعك غير المُحلّى إلتهمَته ثريّا بلحظة. المسكينة... عمِلتُ جهدي لأحبس دموعي أمام المُمرّضة التي استغربَت كيف أنّ المريضة جائعة لهذه الدرجة. إكتفَيتُ بالقول لها:
- هل لكِ أن تكوني موجودة غدًا مساءً مع خالتي حين يأتون لها بالعشاء؟
وافقَت المرأة وعلى وجهها علامات الاستغراب.
في الليلة التالية، إنتظرتُ أمام مدخل المشفى خلف حائط، ورأيتُ هدى ورائد يُغادران فدخلتُ إلى الطابق حيث هي ثريّا. أخبرَتني المُمرّضة أنّها حضَرت تناول خالتي وجبة العشاء حتى النهاية، وتأكّدَت مِن أنّ إبنتها أطعمَتها بالفعل. ثمّ دخلتُ غرفة خالتي وقبّلتُها وسألتُها عمّا حصَلَ لها فعلاً نسبة لأقراص المهدّئة، وكيف لها أن تتناوَل أكثر مِن واحد. وهي قالَت:
ـ لستُ أدري... أنا لا آخذُ أدويتي بنفسي بل هدى هي المسؤولة عن هذه المُهمّة... لدَيّ أيضًا أقراص داء السكّر وضغط الدمّ. فكما تعلمين أنا لا أرى على الإطلاق... يا لحظّي! أتذكرين كيف كنتُ منذ سنوات قليلة؟ كنتُ إمرأة عاملة ونشيطة و...
ـ وخاضعة منذ الأوّل لزوج عنيف! ولا تزالين، أليس كذلك؟ قولي لي، هل تأكلين شبعَكِ في البيت.
ـ لماذا هذا السؤال؟
ـ لأنّكِ شبيهة بهيكل عظميّ! قولي الحقيقة!
ـ أنا تعبة وأُريدُ أن أنام، مِن فضلكِ يا حبيبتي.
وضعتُ قبلة على خدّها النحيل وعدتُ إلى البيت حزينة. فكان مِن الواضح أنّ ثريّا تفادَت الاجابة على سؤالي، ما عنى أنّني قد أكون على حقّ. مَن يفعلُ ذلك بأمّه؟ أيّ ابنة هي هدى ؟ ولماذا هذه القساوة؟!؟
لكنّ تدخّلي وأسئلتي أثارَت ريبة هدى ورائد تجاهي، فبدآ يُعيدان حساباتهما. هل سينجحان بإبعادي عن خالتي وطَمس الحقيقة؟
>>> تابعي قراءة الجزء الثاني من القصة