بدأَت القصّة حَول موضوع المياه التي تروي بساتيننا، فكان مِن الواضح أنّ جيراننا كانوا يستعملون مياهنا لِسقي أرضهم حين كنّا في المدينة خلال الأسبوع. فعند وصولنا القرية، كنّا نُلاحظ شَح تلك المياه إلى أن بدأَ الزَرع باليباس تدريجيًّا. حاولنا طبعًا حلّ تلك المشكلة بِطريقة ودّيّة، وتوصّلنا حتى أن نعرض على هؤلاء الناس تقاسم المياه معهم شرط ألا يأخذوا الكميّة كلّها، إلا أنّهم ظلوا يُنكرون تورّطهم بالمسألة. وآخر شيء كنتُ أُريدُه هو أن يدخل رمزي زوجي في سجال حاد مع أناس معدومي الأخلاق. لِذا قرّرتُ التكلّم شخصيًّا مع أمّ الشبّان الذين نُعاني منهم. عندما طرقتُ بابها قالَت لي بنبرة جافّة:
ـ ماذا تُريدين؟
ـ جئتُ أزوركِ أيّتها الجارة وأشربُ القهوة معكِ...
ـ أنا مُنشغلة الآن.
ـ ... وأتكلّم معكِ بموضوع مياه الرَّي.
ـ ليس هناك ما نتكلّم عنه. لسنا سارقين... أيّتها الجارة.
ـ لَم أقلُ ذلك معاذ الله، ولكن نحن حقًّا جيران ولا يجوز أن يكون هناك خلافات بيننا... كلّ ما نُريدُه هو أن نزرع بعض الخضار والفاكهة ونأكل منها. فذلك مُفيد للأولاد.
فجأة أقفلَت المرأة الباب بِوجهي فامتلأت عينايَ بالدموع لهذا الكمّ مِن الوقاحة. عدتُ إلى البيت حزينة لكنّني لَم أُخبر زوجي عمّا حصل مع تلك الجارة. إكتفَيتُ بالقول له إنّ الأمور لَم تسِر جيّدًا.
عندها لجأَ زوجي إلى القانون، فهذه كانت الوسيلة الوحيدة للحفاظ على رزقي الذي ورثتُه عن أبي. لكنّ المُحامي الذي أوكلَه رمزي لَم يكن يرَ أنّ دعوى ستصل بنا إلى أيّ مكان فبقينا نُعاني مِن المُشكلة نفسها. طفَحَ كيلي إلى حدّ لَم أتوقّعه، وصرتُ صعبة المزاج حتى عندما كنّا في العاصمة بعيدين عن تلك المشكلة.
حاوَلَ رمزي تهدئتي قائلاً إنّ الموضوع لا يستحقّ أن أُتلِف صحّتي مِن أجله، ففي آخر المطاف حياتنا كانت وستبقى في المدينة. فهو لَم يفهَم مدى تعلّقي ببيتي القرويّ وبتلك الأرض الطيّبة، فمِن خلالهما كنتُ أستعيدُ ذكريات الطفولة حين كان والدي يأخذُني لزيارة جدَّيَّ. هناك كنتُ أشعرُ بالحنان الذي حُرِمتُ منه بعد أن ماتَت والدتي وأنا لا أزال طفلة. وحين ماتَ جدَّاي ومِن ثمّ أبي، صرتُ أتوقُ للذهاب إلى القرية أسبوعيًّا لإزالة الضغوط التي تتراكم فوق رأسي خلال الأسبوع بسبب عملي والإهتمام بِعائلتي. رمزي لَم يكن يُحبّ الأرض كثيرًا فهو كبُرَ في العاصمة وكذلك أهله، بالرغم مِن مُحاولاتي لِحمله على تذوّق كرَم الطبيعة. وعندما فشلتُ بذلك، ربَّيتُ أولادنا على هذا الحبّ فتعلّقوا بِبيت القرية والأشجار فيها. لكن مع بدء المُشكلة مع جيراننا، صارَ ذلك المكان الجميل بِمثابة كابوس مُزعج بعد أن اتّضَحَ أنّ هؤلاء السارقين لَم يكونوا مُستعدّين للتفاوض وبأيّ شكلٍ كان.
ذات يوم، خلال فرصة نهاية الأسبوع، وأنا أتمشّى يائسة في بستاني، رأيتُ أحد أولاد جيراني وهو يقطفُ ثمرة مِن أشجارهم. إقتربتُ منه وألقَيتُ السلام عليه بِلطف وهو بادلَني بالمثل. عندها قلتُ له:
ـ أنظر إلى رزقي... هو عطِش للغاية... لدَينا كميّة كبيرة مِن المياه ولكنّ أشجاري تموت مِن العطش... هل هذا مقبول؟ أنتَ إبن أرض وتعرفُ كيف أشعر.
ـ أنتِ على حقّ... هذا ليس مقبولاً.
ـ كنتُ آتي إلى هنا عندما كنتُ صغيرة... أنتَ لا تعرفُني لأنّكم جئتم إلى هنا منذ سنوات قليلة.
ـ صحيح ذلك... أبي أشترى البيت والأرض قبل مماته بقليل... كان لنا رزق في آخر البلدة لكنّ المياه هناك كانت قليلة.
ـ وهنا المياه وفيرة... مياهي...
ـ إسمعي سيّدتي...
ـ أنتَ اسمَع... هنا تكمن حياتي السابقة وكلّ ما ومَن أحبَبتُه مِن كلّ قلبي، وما يحصل يؤثّر عليّ للغاية.
ـ لسنا مسؤولين عمّا يحصلُ يا سيّدتي، صدّقيني.
ـ إذًا أين تذهب المياه؟ لماذا رزقي على وشك اليباس؟ لِنتقاسم المياه فهي تكفي للأرضَين.
ـ أعلمُ ذلك.
ـ لقد حاولتُ التحدّث مع والدتكَ لكن مِن دون جدوى وفكَّرنا بإقامة دعوى ضدّكم...
ـ لا تُتعبي نفسكِ يا سيّدتي، فلَن تصلي إلى نتيجة.
ـ ألهذا الحدّ أنتم بلا ضمير؟
ـ لا... أنتِ مُخطئة.
أدارَ الشاب ظهره وعادَ إلى بيته. لَم أفهم المنطق الذي استعملَه وعادَ الحزن إلى قلبي.
مرَّت الأشهر ويبِسَ بستاني بالكامل ولَم أعد أحبّ الذهاب إلى القرية. حاوَل رمزي مواساتي إلا أنّني شعرتُ وكأنّ حقبة بكاملها مِن حياتي قد يبسَت هي الأخرى. ركّزتُ على عملي وعلى عائلتي وأهملتُ رزقي وبيت القرية حتى كدتُ أنسيه. كانت تلك طريقة استعملَها عقلي الباطنيّ لِتجنيبي حزنًا كبيرًا.
ثمّ أخبرَني زوجي أنّه وجَدَ مَن يشتري رزقي منّي على حاله وبِمعرفة المشاكل التي توجد حول المياه:
ـ الشاري مُستعدّ لِمواجهة هؤلاء القوم... قد يكون يعرفُ مَن يُقنعهم بالتوقّف عن سرقة المياه، فهو شخص مهمّ.
ـ لَم يعد يهمّني شيء بهذا الخصوص، مِن الأفضل أن أتخلّى عن البيت والأرض، أنتَ على حق، كالعادة. أمهلني أسبوعًا لأُحضِر ما أريد جلبه مِن البيت قبل بَيعه فهو يحتوي على ذكريات مهمّة.
في نهاية الأسبوع، رحتُ إلى القرية وحدي إذ كنتُ بحاجة لأختلي مع نفسي لِتوديع المكان كما يجب. أخذتُ معي الكراتين والأكياس وبعض الأكل. قرّرتُ أطفاء جوّالي كي لا يُزعجني أحد خلال تلك الفترة الأليمة.
بعد وصولي بيتي بِساعات قليلة، سمعتُ قرعًا على الباب. رحتُ أفتَح بعد أن مسحتُ دموعي فقد كنتُ أبكي وأنا أرتّب الأغراض. رأيتُ ذلك الشاب واقفًا أمامي. قال لي:
ـ رأيتُكِ مع كراتينكِ... وعلِمتُ بأمر بَيع الرزق... هل أنتِ بِحاجة إلى مُساعدة؟
ـ لا شكرًا.
ـ كنتِ تبكين؟
ـ وما شأنَكَ أنتَ؟ فالذنب ذنبكم ولَم أكن لأبيع لو لم تسرقوا مياهي.
ـ سبقَ وقلتُ لكِ إنّ لا دخلَ لنا بالذي جرى ويجري.
ـ ولَم أصدّقكَ.
ـ هل لي أن أدخل؟
ـ تفضّل.
أجلستُ جاري الشاب في الصالون وحضّرتُ له كوبًا مِن الليموناضة المُنعشة. شرِبَ شفّة ثمّ قال:
ـ أنتِ سيّدة لطيفة بالرغم مِن اتّهاماتكِ لنا، فقد بقيتِ مُهذّبة معنا ولَم تُهيني أحدًا بِكلامكِ.
ـ لقد تربَّيتُ جيّدًا. الفضل يعود لأبي.
ـ وماذا عن أمّكِ؟
أخبرتُه قصّة طفولتي وقصّة هذا البيت والبستان، وهو حزِنَ مِن أجلي. ثمّ قال:
ـ إسمعي يا سيّدتي اللطيفة... بعد الذي قصَّيتِه عليّ لَم يعد بِمقدوري السكوت. لن أدعكِ تبيعين قطعة مِن حياتكِ.
ـ كلام كبير لِشاب بسنّكَ.
ـ أنا ابن أرض كما تفضّلتِ سابقًا... نحن لا نسرق مياهكِ والمسؤول عمّا يحصل هو... زوجكِ.
ـ رمزي؟!؟ ماذا تقول؟ لماذا وكيف؟
ـ لقد أوكَلَ شخصًا لِتحويل المياه عن الرزق خلال الأسبوع.
ـ كيف علِمتَ بذلك؟!؟
ـ هو أوكلَ خالي بالمهمّة، لِذا لَم نكن قادرين على البوح بالحقيقة لكِ.
ـ ولماذا يفعل رمزي شيئًا كهاذا؟
ـ الجواب لدَيكِ... فكرة مَن كانت بَيع البيت والأرض؟
ـ فكرة زوجي. ولكن...
ـ ستغضبُ أمّي كثيرًا لأنّني أخبرتُكِ عن خالي. عديني بالا تشتكي عليه أرجوكِ.
ـ أعدُكَ بذلك. أنتَ إنسان طيّب مثل هذه الأرض. إيّاكَ أن تتغيّر!
تركتُ كراتيني وأكياسي مكانها وعدتُ إلى المدينة بسرعة لأجري مع رمزي حديثًا جدّيًّا وقاطعًا. وجدتُه في البيت مع الأولاد. أخذتُه إلى الغرفة بعد أن تفاجأَ بِعودتي المُبكرة وقلتُ له بِنبرّة حادّة:
ـ أعلمُ كلّ شيء... أعلمُ أنّكَ أمرتَ أحدًا بِتحويل المياه عن أرضي... كيف تفعل ذلك بي ولماذا؟!؟
سكَتَ رمزي مُطوّلاً وقال والدمع يملأ عَينَيه:
ـ أنا سافل، أليس كذلك؟
ـ لَم أقل ذلك...
ـ لَم أكن أريدُكِ أن تعلمي بالأمر ولكن... لقد خسرتُ الكثير مِن المال بالمَيسر.
ـ أنتَ تلعب المَيسر؟!؟ ومنذ متى؟
ـ منذ ما قبل زواجنا. كنتُ قد توقّفتُ عن ذلك لِفترة لكنّ تلك العادة لا تُبارحُ صاحبها. ورأيتُ أنّ الحلّ الوحيد هو الإستفادة مِن بيع رزقكِ لكنّكِ كنتِ مُتعلّقة جدًّا به وكان يجب حملكِ على البيع. نجحتُ بإقناع دائنيّ بالإنتظار حتى تنجَح الخطّة، وبقيَ أن أجد طريقة لأخذ المال منكِ بعد البَيع.
ـ ماذا كنتَ ستقول لي؟
ـ لا أدري... ربمّا أنّني أُريدُ إقامة مشروع ما.
ـ بقيتَ تكذب عليّ سنوات بشأن المَيسر ومِن ثمّ بشأن شحّ المياه، وكنتَ ستأخذ مالي بعد حرماني مِن أعزّ ذكرياتي... أيّ إنسان أنتَ؟ مَن تزوّجتُ أنا؟ هل كذبتَ أيضًا عليَّ بما يخصّ حبّكَ لي؟!؟
ـ لا! إلا هذا!
ـ وتتوقّع منّي تصديقكَ بعد الآن؟
ـ المهمّ الآن هو إيجاد المال لِتسديد ديوني وإلا سأدخلُ السجن، أو ما هو أفظع فقد أموتُ على يَد هؤلاء المرابين!
ـ هذه مُشكلتكَ يا عزيزي. حلّها بِنفسكَ. في هذه الأثناء سآخذ أولادنا إلى القرية فالفرصة الصيفيّة على وشك البدء. لدَيكَ ثلاثة أشهر لتُدبّر أموركَ. وفي هذه الأثناء سأفكّر بِمصير زواجنا... أيّها الغشّاش!
أمضيتُ والأولاد وقتًا مُمتعًا للغاية في القرية بعد أن أخذتُ إجازة طويلة مِن عمَلي. لَم تعد تنقطع المياه عن الأرض فجئتُ بأولاد جيراني لِزَرعها مِن جديد. إكتشفتُ أنّهم أناس طيّبون للغاية، خاصّة والدتهم.
لَم أشتَق لِرمزي أبدًا بعد أن اكتشفتُ حقيقته البشعة، وهو دخَلَ السجن لعدَم تمكّنه مِن دَفع ما عليه. شرحتُ للأولاد أنّ أبيهم إقترفَ خطأً وعليه التكفير عن ذلك وهم تقبّلوا الفكّرة بشكل جيّد.
سيخرجُ زوجي مِن السجن قريبًا، ولستُ أدري إن كنتُ سأعودُ إليه أم لا. سأرى ذلك في الوقت المناسب.
حاورتها بولا جهشان