من كان المذنب؟

منذ البداية علِمتُ أنّ خليل مُتزوّج، فهو كان بُمنتهى الصراحة معي، الأمر الذي حملَني على تقديره والوثوق بكلامه. لَم أكن أعلَم حينها أنّه ليس مِن الضروريّ أن يكون المرء محطّ ثقة لأنّه قال في بعض الأحيان الحقيقة. كنتُ صبيّة غير مُتمرّسة آنذاك، أيّ أنّ الحياة لَم تكن بعد قد علّمَتني الدّروس الكافية لتحصين ذاتي.

لماذا أحبَبتُ رجلاً مُتزوّجًا في حين أنّ الكثير مِن الشبّان العزّاب كانوا يحومون مِن حولي؟ لأنّ خليل كان يُمثّلُ بالنسبة إليّ النضوج مِن حيث سنّه، والنجاح لِترؤّسه شركة كبيرة، فهو كان يُناسبُ تمامًا فئتي الإجتماعيّة مِن حيث ماله ومكانته. إضافة إلى ذلك، هو أكَّدَ لي أنّه غير سعيد مع زوجته وأنّه ينوي تركها قريبًا بعدما يكبُر أولاده قليلاً. خفتُ أن أكون السبب بطلاقه، الأمر الذي لَم أكن لأقبله على الإطلاق، إلا أنّ الأحوال بينهما كانت سيّئة منذ البدء.

أخفَيتُ طبعًا حبّي الجديد عن أهلي ومعارفي، لأنّني توقّعتُ المُمانعة مِن قِبَلهم والتأنيبات والنصائح. كيف لأيّ منهم فَهم الذي يربطُني وحبيبي؟ لِذا كنّا نذهبُ سويًّا إلى المقاهي والمطاعم البعيدة كلّ البُعد عن مكان سكَن خليل وسكَني، لنجلس ونتكلّم عن حبّنا وعن حياتنا المُستقبليّة تحت سقف واحد.

حصلتُ على شهادتي الجامعيّة بتفوّق، واحترتُ إن كان عليّ إكمال دراستي أم أكتفي بذلك لأهتمّ ببيتي وأولادي مع رجل حياتي. لِذا سألتُه رأيه في الموضوع وهو أجابَ:

 

ـ لو رجِعَ الأمر لي لخطفتُكِ في الحال وتزوّجتُكِ، إلا أنّني لا أريدُ أن تكوني زوجة ثانية بل الوحيدة التي إسمها مقرون باسمي. تابعي علمكِ يا حبيبتي إلى حين يتمّ طلاقي.

 

كم كنتُ سعيدة لِما قالَه! فاتّضَحَ لي أنّ خليل هو، إلى جانب مزاياه العديدة، إنسان غير أنانيّ على الإطلاق ولا يهمُّه سوى سعادتي وتقدّمي. تسجّلتُ للماجستير وحضرتُ الحصص كلّها كما طلَبَ منّي خليل أن أفعَل.

هناك تعرّفتُ إلى زميل جديد لي، أعني بذلك جديدًا بالنسبة لي، فهو كان منذ البدء في صفيّ إلا أنّني لَم أُلاحظ وجوده إطلاقًا. حاوَلَ جهاد التقرّب منّي وصِرتُ أتفاداه علَنًا. مَن اعتقَدَ نفسه يكون كي يأمَل بُمنافسة خليل وعظمته؟!؟

مرَّت سنتان وأقترَب موعد تقديم أطروحة الماجستير حين غابَ خليل عنّي لفترة أسبوع بكامله. هو قال لي إنّه مُسافر بداعي العمَل لكنّ شيئًا في حديثه لَم يُقنعِني. هل كانت نظراته المُتهرّبة أم لهجته غير الواثقة؟ إلا أنّني حزِنتُ، فكان مِن الواضح أنّ أمرًا ما يحصلُ مِن دون علمي، أو أنّ حبيبي قد ملّ منّي خاصّة أنّني كنتُ قد رفضتُ مرارًا السماح له بمُعاشرتي بل اكتفَينا بالقُبَل وما هو أكثر بقليل. وكان طلاقه قد تأخَّرَ بسبب وعكة صحّيّة أُصيبَ بها إبنه البكر، الأمر الذي برَّدَ الأجواء بيننا بعض الشيء وشغَلَ بالي بشأن مُستقبلنا سويًّا.

لِذا قرّرتُ التأكّد بنفسي إن كان خليل خارج البلد أم لا، فرحتُ أركُن سيّارتي أمام منزله الزوجيّ. هو لَم يدلّني يومًا على عنوانه، ربمّا خوفًا مِن أن يخطر ببالي فضحه أمام زوجته، بل سألتُ في ما مضى شخصًا يعرفُه جيّدًا عن عنوانه. كتَمتُ الأمر لنفسي، فبالرغم مِن حبّي الكبير له وثقتي به الأكبَر بعد، وجدتُ أنّ تلكّؤ خليل عن الزواج بي مُريب.

بقيَ منزل خليل مُظلمًا لأيّام عديدة، وكأنّ لا أحد يسكنُ فيه، وسألتُ نفسي إن كان قد اصطحَبَ عائلته بأسرها معه خارج البلاد. ولكن ماذا عن مدارس أولاده وصحّة إبنه التي كانت لا تزال ضعيفة؟ لَم يكن لدَيّ سوى انتظار عودته والإكتفاء بالرسائل القليلة والقصيرة التي كان يُرسلها لي على هاتفي.

وعند انتهاء الأسبوع أخيرًا، عادَ حبيبي إلى نمط حياته المُعتاد. عندها قرّرتُ الضغط عليه كي يتركُ زوجته بأقرب وقت لأنّني لَم أعُد أحتمِل ذلك الوضع.

نظَرَ خليل إليّ بحزن واضح وإرباك ليقول لي أخيرًا:

 

ـ يا حبيبتي... أنا آسف لكن...

 

ـ لكن ماذا؟ ألا تنوي تطليق زوجتكَ؟ هل انتظرتُكَ سدىً؟!؟

 

ـ الأمر ليس كما تظنّين.

 

ـ أعلَم أنّكَ مُتردّد بشأن أولادكَ لكنّهم أصبحوا أكبر سنًّا الآن و...

 

ـ ليس لدَيّ أولاد.

 

ـ ماذا؟!؟ وإبنكَ الذي أُصيبَ بمرض شديد؟

 

ـ وليس لدَيّ زوجة... أعني ليس قبَل أسبوع.

 

شعرتُ وكأنّ الدنيا تنهار على رأسي، ووجدتُ صعوبة باستيعاب هذا الكمّ مِن الأخبار السيّئة في آن واحد. وضَعَ خليل يدَه على ذراعي وتابَع:

 

ـ لقد اعتَدتُ على إخبار مَن أتعرّف عليها مِن صبايا بأنّني مُتزوّج كي لا تتأمّلنَ بشيء، وهذا ما فعلتُه معكِ. لَم يكن مِن الوارد بالنسبة لي الإرتباط رسميًّا بأحد... إلى حين إلتقَيتُ مؤخّرًا بالتي وقعتُ في حبّها... ولقد تزوّجنا منذ أسبوع. كنتُ في شهر العسل حين غبتُ عنكِ. أنا آسف.

 

بعد ذلك، تركَني خليل لوحدي أُفكّرُ بالسنوات التي أضَعتُها مِن أجله والأحلام التي بنَيتُها. بكيتُ لأيّام لوحدي، فما مِن أحد كان على علم بحبّي وعلاقتي بذلك الماكر والأنانيّ.

وحده جهاد لاحَظَ مدى تعاستي خلال تواجدي في الجامعة، فأجبرَني على القول عمّا يُسبّبُ لي هكذا حزن. لَم أكن أُريدُ إطلاعه على شيء بتاتًا، فلَم نكن قد تبادَلنا الكلام سوى مرّات نادرة، لكنّني أفرغتُ له ما في قلبي. حين انتهَيتُ مِن الكلام، أخَذَ يسألَني بضع أسئلة أجبتُه عليها مِن دون أن أنتبِه إلى أنّني أعطيتُه تفاصيل خاصّة عن خليل. واساني جهاد ووعدَني بأنّ كلّ شيء سيجري كما يجب ثمّ رحَلَ. للحقيقة، هو تغيَّب عن الجامعة لفترة لا بأس بها، وظننتُه تركَ الكلّيّة لسبب ما. أردتُ الإطمئنان عليه إلا أنّني نسيتُ أمره بسرعة لأُركّز على خَيبَتي.

 

عادَ جهاد إلى الجامعة وأخذَني جانبًا قائلاً:

ـ إسمعي... أحببتُكِ منذ رأيتُكِ لأوّل مرّة وبقيتُ آملُ بأن تُلاحظي على الأقل وجودي. وبعد أن تقاسمتِ معي حزنكِ وصرنا مُقرّبَين، أقسمتُ لنفسي أن أحميكِ وأُحافظُ عليكِ مِن أيّ خطر أو أسى. لستُ مكانكِ إلا أنّني أشعرُ، ولو بعض الشيء، بالأذى الذي سبَّبَه لكِ ذلك الماكر الخائن. لا يجدرُ بأيّ إنسان أن يهدر سنوات مِن عمره سدىً، ولقد أخَذَ خليل منكِ عمركِ وبراءتكِ وثقتكِ بالجنس البشريّ، ولن أسكتَ عن ذلك.

 

ـ أشكركَ على تعاطفكَ معي يا جهاد، لكن ما عساكَ تفعل؟ إنّ خليل قد تزوّجَ وهو يعيشُ بسعادة مع التي اختارَها. الحقّ يقَع عليّ لأنّني صبرتُ مِن دون أن يكون هناك أيّ اثبات فعليّ لحبّ خليل لي.

 

ـ الحقّ يقَع على الذي هو أكبر منكِ سنًّا، فأنتِ كنتِ يافعة حين ألقى شباكه عليكِ. إن سمحتِ لي بذلك، سأكون رجُلكِ، حتى لو عن بُعد، فأنا لا أطلبُ منكِ شيئًا.

 

كبرَ قلبي لهذا الكلام الشجاع، فوضعتُ قُبلة خفيفة على خدّ جهاد وابتسمتُ له. لَم أعرِف حينها أنّني بذلك أحملُه على تنفيذ ما في رأسه.

فلقد أقدَمَ جهاد على الإنتقام لي مِن خليل، وذلك طبعًا مِن دون أن أشكّ بشيء. ففي احدى الليالي، راحَ زميلي إلى بيت حبيبي السابق حين لَم يكن أحد موجودًا واضرَمَ النار فيه. إشتعلَت النيران بشدّة وشاءَت الأقدار أن يصِل خليل وزوجته في تلك الأثناء، وعند رؤية ما يحصل، ركَضَ خليل إلى البيت لينتشل ما يُمكنه مِن الألسنة المُلتهبة. إلا أنّه تعرّضَ لحروق بالغة في ذراعه ووسطه وورجله وأُخِذَ إلى المشفى للمعالجة.

سمعتُ بما حصَلَ وردَدتُ الأمر إلى عقاب إلهيّ ليس أكثر. للحقيقة، لَم أفرَح لخليل بل حزنتُ له بعد أن خسِرَ بيتًا بناه مِن عمله، وهو باتَ مشوّهًا مِن ناحيته اليُسرى إلى الأبد.

لكن في اليوم التالي، قصدَني جهاد فرِحًا وفخورًا قائلاً:

 

ـ لقد أتمَمتُ ما وعدتُكِ به... عاقبتُ الماكر! ما رأيُكِ بذلك الحريق المهول؟

 

ـ ماذا؟!؟ أنتَ الذي قمتَ بحرق المنزل وتشويه خليل؟

 

ـ لَم أقصد أذيّته شخصيًّا لكنّه عادَ باكرًا. على كلّ الأحوال، هو يستحقّ ما حصَلَ له!

 

ـ هل أنتَ مجنون؟!؟ ما فعلتَه أبشَع بعد مِن الذي هو فعلَه! وإن كان على أحد أن ينتقم منه فهو أنا! ليُسامحكَ الله! كدتَ أن تقتل إنسانًا، هل تعي لذلك؟ صحيح أنّ خليل ضحِكَ عليّ، إلا أنّه لَم يُجبِرني على شيء فكان لدَيّ الخيار واخترتُ أن أُصدّقه. الدلائل كلّها كانت تدّلُ وبوضوح أنّه كاذب وأنا شئتُ أن أتجاهلها. لقد حزنتُ كثيرًا إلا أنّني بدأتُ أعتبرُ أنّ هناك عبرة يُمكنُني الإستفادة منها لباقي حياتي. هناك دائمًا جانب إيجابيّ لمآسينا، والإنتقام لَم يكن يومًا الحلّ.

 

ـ فعلتُ ذلك مِن أجلكِ وهكذا تُكافئيني؟!؟

 

ـ لَم أطلُب منكَ حرق بيوت الناس.

 

بعد أقلّ مِن يومَين، تمّ القبض على جهاد بفضل كاميرات المُراقبة الموضوعة في الحيّ وشهادة بعض المارّة والجيران، وانتهى المطاف به في السجن. مِن حسن حظّي، لَم يذكُر جهاد إسمي في التحقيق بل قال إنّه أقدَم على فعلته بسبب ولَعه بإضرام النيران وحسب.

شعرتُ بذنب كبير تجاه كلّ تلك الأحداث وبدَت أذيّة خليل لي تافهة للغاية. إتّصَلَ جهاد بي مرارًا مِن السجن ليُعبّر لي عن حبّه الكبير واحترتُ لِما عليّ قوله له، ففي آخر المطاف هو دمَّرَ حياته مِن أجلي.

إخترتُ السفَر بعيدًا لإنهاء أطروحة الدكتورا والبقاء في الهجرة على أمل أن أستطيع بدء حياة جديدة حيث أنا. إلا أنّ حبّي لخليل وخيانته لي ووقوعه ضحيّة حروق بالغة بسببي، وسجن جهاد أيضًا بسببي أثَّرَ بي لدرجة لَم أتصوّرها مُمكنة. لِذا صرتُ إنسانة حزينة طوال الوقت ولَم أجرؤ على الوقوع في الحبّ مِن جديد.

وأسألُ نفسي سؤالاً أتمنّى الوصول إلى جوابه لأرتاح أخيرًا: مَن كان المُذنِب؟ خليل، أم جهاد، أم أنا؟ أرجو مِن كلّ مَن قرأ هذه القصّة أن يُعطيني جوابه. حفظكم الله.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button