كنتُ أشعرُ بامتعاض أختي لي، لكنّني لَم أعلَم السبب بل رددتُ الأمر إلى طَبع سامية الذي عانَى منه الجميع. رجوتُ طبعًا أن يهدأ حالها مع الوقت، وأخذتُ أزيدُ لطفًا معها فهي كانت أختي الكبرى وتعلّمتُ أن آخذَ ذلك بالإعتبار بتعاملي معها.
لكنّ سامية لَم تتغيّر وبقيَت تعتبرُني كبش محرقتها، فهي لَم تتأخّر عن زجّي في مواقف أُلامُ أنا عليها بدلاً منها. حاولتُ لَفت انتباه والدَيّ إلى ما يجري لكنّني اصطدمتُ بمُجابهة مِن قبلهما.
مِن حسن حظّي أنّ كان لدَيّ صديقات عديدات، وإلا قضَيتُ طفولتي مع مُعذّبتي لوحدنا، فصرتُ أجدُ شتّى الحجج لأبقى أكبر قدر ممكن خارج البيت. حاولَت سامية الضغط على أهلنا لأُمنَع مِن الخروج لكنّها لَم تفلحَ بذلك. فهي كانت بحاجة إلى مَن تصبّ غضبها عليه. وهو غضبٌ له جذور بعيدة وعميقة.
فالإنسان يتصرّف ببشاعة عندما يكون خائفًا، وخوف سامية كان في محلّه. فما لَم أكن أعرفُه آنذاك هو أنّ أختي ليست أختي بل فتاة تبنّاها والداي حين كانت لا تزال طفلة. كانت أمّها البيولوجيّة قد تخلَّت عنها بعد أن حمِلَت بها مِن دون زواج. وعندما علِمَت سامية صدفةً بواقعها المرير، خافَت أن آخذ حبّ والدَينا منها كَوني إبنتهما الحقيقيّة. إمتزجَ خوف سامية مِن الهجرة وامتعاضها مِن امّها بغيرتها منّي، فصارَت أختي فتاة كريهة وغاضبة لا تضمرُ لي سوى الشرّ والأذى.
سبب تبّني أهلي لِسامية كان عقم أمّي الذي لَم يجد الأطبّاء حلاً له. وكم تفاجأَت والدتي عندما وجدَت نفسها حاملاً بعد ستّ سنوات مِن التبنّي. عندها إتَفقَت مع أبي على عدَم التفرقة بين سامية وبيني، لكنّهما بقيا يُحيطانها كي لا تشعر بأنّني أخذتُ مكانها في قلبهما. لِذا صارَ كلّ شيء مسموحًا لها... وهي استفادَت مِن الوضع.
مِن جهتي، كان قلبي دائم الحزن، لأنّني كنتُ أجدُ لدى صديقاتي ما فتّشتُ عنه في أختي. لكنّني لَم أفقد الأمل.
لا أدري متى خطَرَ ببال سامية تدمير حياتي، لكنّني مُتأكّدة مِن أنّها أخذَت وقتها في التخطيط لأنّ السيناريو كان مُحكمًا ولا شوائب فيه. كنتُ قد بلغتُ الثانية عشرة، وكان قد طفَحَ كَيلي مِن تنمّر أختي ودفاع أهلي الدائم عنها، حتى انفجرتُ بالبكاء ذات يوم مُستنكرة. عندها أخذَتني سامية إلى غرفتنا وقالَت لي مُحرَجة:
ـ سامحيني... أعلم كَم أنّني قاسية عليكِ.
ـ هذه أوّل مرّة تعتذرين منّي يا سامية وتعترفين لي بالقسوة عليّ. أشكرُكِ.
ـ الذنب ليس ذنبي... فلقد رأيتُ كيف أنّ والدَينا يُحبّاني أكثر منكِ فاستغلَّيتُ الموقف. لا أستطيع لومها، ففي آخر المطاف...
ـ ماذا؟!؟ تكلّمي!
ـ لا أدري إن كان يجدُر بي أن أقول لكِ الحقيقة، فهما منعاني مِن ذلك تحت طائلة مُعاقبتي... أقسمي لي أنّكِ ستتصرّفين وكأنّكِ لستِ على علم بشيء. فأنا أخاف مِن والدَينا. للحقيقة، لستُ صبيّة شرِسة بل العكس. هما اللذان حوّلاني إلى ما أنا عليه. أحبُّكِ فعلاً... أحبُّكِ وكأنّكِ فعلاً أختي.
ـ ماذا تقصدين؟ أنا أختكِ!
ـ للحقيقة لا... أنتِ فتاة مُتبّناة.
ـ ها ها ها! وهل خلتِ أنّني سأصدّق هذه الكذبة؟
ـ لا أدري إن كان عليّ ترككِ تظنّين أنّني أختكِ أم يجب عليَّ الإصرار لتُصدّقيني. أنا حليفتكِ ولستُ عدوّتكِ. لقد أدركتُ أنّ ما أفعلُه بكِ هو خطأ لكنّني مثلكِ... ضحيّة هذَين اللذَين لم يستطيعا حبّكِ تمامًا بل بقيا يُحبّان إبنتهما البكر لأنّها منهما... على خلافكِ.
ـ هذا ليس صحيحًا! ولماذا يتبّني والدانا إبنة؟ فكنتِ موجودة وهذا كافٍ.
ـ لأنّهما أرادا جَلب أخت لي ولَم تعد أمّي قادرة على الإنجاب. بمَن ستثقين؟ باللذَين كذِبا عليكِ أم بالتي تكشفُ لكِ عن سبب مآسيكِ؟ ولأثبتَ لكِ أنّني أقول الحقيقة، أعدُكِ بمعاملتكِ بطريقة حسنة، فلقد تحرّرتُ أخيرًا مِن هذا السرّ الثقيل، وفهمتُ أنّ ما يفعلانه بكِ ليس مُنصفًا. سأكون سندكِ في عائلة ندِمَت على تبنّيكِ.
ـ كفى! كفى أرجوكِ! لا أُصدّقكِ!
ـ كنتُ أترقّب ردّة فعلكِ هذه، فذلك طبيعيّ... كلّ ما عليكِ فعله هو الإنتباه إلى التفاصيل الصغيرة... كيف ينظران إليّ وإليكِ مثلاً... إلى مَن يُوجّهان عاطفتهما أكثر... كيف يعذران كلّ تصرّفاتي ويُوبّخانكِ باستمرار. عندها ستعلمين مَن هي إبنتهما الحقيقيّة. لكن إيّاك أن تفضحي سرّنا، وإلا سيُنكران الأمر وستفلتُ الحقيقة مِن بين يدَيكِ. تعالي نلعب عليهما لعبة... تعالي ندّعي أنّنا لا نزال على خلافنا الدّائم، هكذا لن يشكّان بشيء.
ـ لماذا أخبَرتِني الحقيقة؟!؟ كنتُ سعيدة باعتقادي أنّني إبنتهما!
ـ أخبرتُكِ كلّ ذلك لأنّني سئمتُ مِن أن ألعبَ دور الشرّيرة. فالحقّ يقَع عليهما.
بعد حوارنا هذا، إنقلبَت حياتي رأسًا على عقب. كيف لصبيّة في العشرين مِن عمرها أن تكون بهذا الخبث والحقد؟ كم كان كبيرًا غضبها منّا جميعًا، لِتخرب حياتي وتسبّب لي حزنًا لا مثيل له! أظنّ أنّها أرادَت أن أذوق طعم الذي تمرُّ به منذ معرفتها بأنّها مُتبنّاة.
فعلتُ كما قالَت لي سامية، أي أنّني حفظتُ السرّ وصرتُ أُراقبُ ردّة فعل والدَينا حين أتشاجرُ معها. كانا بالفعل، كما جرَت العادة، يُدافعان عنها ويُلقيان اللوم كلّه عليّ. لِذا ترسّخَت الفكرة في رأسي وتقوقعتُ على نفسي بعد أن شعرتُ بالفعل أنّني غريبة وسط هؤلاء القوم. وتدهورَت نتائجي في المدرسة وكدتُ أن أرسب. تفاجأَت المدرّسات بما يحصل، فكنتُ مِن أوائل صفّي لكنّهنّ ردَدنَ الأمر إلى سنّ المُراهقة.
إلتجأتُ إلى صديقاتي وأهلهم لأشعر أنّ لي عائلة حقيقيّة، مُفسحةً مِن دون أن أدري المجال أمام سامية لِتنعَم بوالدَيّ قدر ما تشاء.
إنتصرَت سامية نهائيًّا عليّ، عندما قرّرتُ العَيش عند خالتي العزباء التي تسكنُ في بيت أبوَيها المتوفّيَين. إستغرَبَ أهلي هذا القرار لكنّهما قبِلا، بعدما رأيا أنّ ذلك قد يُفيدُ معنويّاتي التي وصلَت إلى أدنى درجة، وأملا أن يُؤثّر ذلك إيجابًا على نتائجي المدرسيّة.
إستغرَبَت أيضًا خالتي أن أطلبَ منها البقاء معها، لكنّها استقبلَتني بفرَح إذ طالما كانت تُحبُّني. إخترتُها لأنّني شعرتُ مرارًا بأنّها تُفضّلني على سامية، ولأنّها دافعَت عنّي حين كان والدايَ يوبّخاني على ما لَم أفعله. كنتُ في الثالثة عشرة وكنتُ بِحاجة إلى مَن يُنقذني مِن ضياعي وحزني العميق. كنتُ أحملُ سرًّا أكبر منّي وكان الحِمل رهيبًا.
حياتي عند خالتي كانت هادئة وهانئة لأنّني شعرتُ بحبّها لي. فهي لَم تتأخّر عن التعبير لي عن هذا الحبّ، الأمر الذي خفّفَ مِن حزني. تمنَّيتُ سرًّا أن تكون خالتي هي التي تبنَّتني بدلاً مِن أختها، لِذا اعتبرتُها أمّي بالوكالة. حبّ تلك المرأة لي غير المشروط هو الذي أنقذَني، فمَن يدري، فلربمّا كنتُ نوَيتُ إنهاء حياتي لو بقيتُ في البيت أو تصرّفتُ بشكل مُتهوّر، كتعاطي المخدّرات أو ما هو أفظَع.
كنتُ أذهبُ إلى البيت مرّة في الأسبوع، لكنّني لَم أنَم هناك ولو مرّة بل كنتُ أُسرِع بالعودة إلى خالتي. تحسّنَت علاماتي في المدرسة بِسرعة مُرضية ولَم يعد شبَح الرسوب يُخيّم فوق رأسي. في تلك الأثناء، أنهَت سامية دراستها الجامعيّة ووجَدت عملاً.
فكّرتُ مرارًا بإخبار خالتي بالذي أعرفُه، لكنّني خفتُ أن تتخلّى عنّي بعد أن تشعر بأنّها لَم تعد بحاجة إلى لعِب دور الخالة الحقيقيّة. فحبّها لي كان كافيًّا.
الغريب بالأمر، هو أنّني صرتُ فعلاً أرى أبوَيّ وكأنّهما ليسا مِن لحمي ودمي، وأدركتُ لاحقًا مدى تأثير العقل على العاطفة. كانا قد أصبحا غريبَين لا صلة لهما بي على الإطلاق.
كيف علِمتُ أنّ مسألة التبنّي ليست سوى لعبة دنيئة؟ مِن سامية نفسها. أجل، هي أخبرَتني بأنّها كذبَت عليّ طوال سنوات لِمجرّد شعورها بأنّني محظوظة أكثر منها، كَوني أعرفُ مَن والدايَ، واعترفَت بأنّها تغارُ منّي. قالَت لي ذلك وهي تضحك وكأنّ الأمر مُجرّد دعابة قرّرَت إنهاءها، لأنّها وجدَت الحبّ وتنوي الزواج. وصَلَ الأمر بها لشكري على رحيلي مِن البيت لأنّها "ذاقَت أخيرًا طعم السعادة وسط والدَينا". أخذَت أختي المُتبنّاة مكاني مِن دون وخزة ضمير، وها هي تعرضُ عليّ إسترجاع حياتي التي لَم تعد بحاجة إليها. أيّ إنسان يفعل ذلك؟!؟ لَم أصدّق أذنَيّ لدى سماعي إعترافها، وشعرتُ بِنار الغضب يتملكُني وإرادة قويّة بالإنتقام لضياع حياتي التي قضَيتُها أُدافعُ عن نفسي أمام تنمّر سامية. كَم مِن مرّة سألتُ نفسي مَن أنا حقًّا، ولماذا تُرِكتُ مِن قِبَل امّ لَم تكن تُريدُني؟ لِمتُ أبوَيَّ طبعًا لأنّ بحبّهما المُفرط لِسامية وعدَم رغبتهما بأن تشعر بأنّها غريبة، كانا قد نسيا أنّني إبنتهما.
حين أخبرتُ خالتي بالذي حصَلَ فعلاً كادَت ألا تصدّقني لكثرة فظاعة الأمر، وأسِفَت لأنّها لَم تُلاحظ شيئًا ولامَتني لأنّني أبقَيتُ الأمر لنفسي وتعذّبتُ لوحدي، في حين كان بإمكاني معرفة الحقيقة مُباشرةً منها.
لَم أعد إلى بيت والدَيَّ حتى بعد زواج سامية ورحيلها، لأنّني لَم أعد أشعُر بأيّ عاطفة تجاههما. صحيح أنّني إبنتهما الحقيقيّة لكنّهما أصبحا بالنسبة لي أبوَين متبنّيَين. فأمّي الفعليّة كانت خالتي، لِذا بقيتُ معها حتى بعد أن أخبرَتهما بالذي حصَلَ وفهِما سبب تركي البيت. الغريب في الأمر، هو أنّ والدَيَّ برّرا تصرّفهما بأنّهما شعرا بالذنب تجاه سامية، وأراداها أن تنسى أنّها مُتبنّاة وبقيا يعذرانها حتى بعدما علِما بما فعلَته بي. أنا اليوم مُتأكّدة مِن أنّهما أحبّاها أكثر منّي، وأنّ مجيئي إلى الحياة كان صدفةً لَم يتوقّعاها أو يرغبا بها.
عرسي بعد أشهر قليلة وأنا في قمّة السعادة. أبوايَ وسامية مدعوّون إلى الفرَح، لكن ضيفة الشّرَف هي طبعًا خالتي، أو بالأحرى "ماما" كما اعتدتُ تسميتها.
حاورتها بولا جهشان