من حفر حفرة لأخيه...

كانت عمّتي نوال قد ورثَت البيت مِن أبوَيها، وتخلّى لها أبي عن حقّه به وأقنَعَ باقي الأولاد بفعل الشيء نفسه، لأنّها كانت عزباء وتخطَّت الخمسين مِن عمرها، وكان ذلك البيت بمثابة ملاذها الوحيد.

كنتُ أحبّ عمّتي، بشكل خاص لأنّني كنتُ أحمل الاسم ذاته بسبب تعلّق أبي بها، وكنتُ أفتخر بذلك كثيرًا لأنّ تلك المرأة كانت إنسانة متعلّمة وطموحة وطيّبة جدًّا.

وكم كانت فرحتي كبيرة عندما كانت تدعوني لوحدي إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع والفرَص الصيفيّة! وبالرّغم مِن فارق العمر الشاسع بيننا، لم أشعر يومًا بالملل برفقتها، فقد كانت تعرف كيف تبقيني منشغلة بالقراءة والذهاب إلى مدينة الملاهي وأكل طبخها اللذيذ.

مرَّت السنوات وتزوّجتُ وأصبحَت نوال عجوزًا، ولكنّها لم تفقد شيئًا مِن روح الشباب التي كانت تميّزها، وبقيتُ أقصد بيتها قدر ما استطَعتُ، لأنّ عمّتي كانت آخر فرد مِن عائلة أبي بعدما مات هو وأخوته. ولكن كان عليّ التوفيق أيضًا بين عمَلي وزوجي.

علِمتُ أنّني حامل، لِذا صِرتُ أزور نوال بصورة متقّطعة بسبب ما قاله الطبيب لي، إذ كان عليّ التقليل مِن ركوبي السيّارة كي لا أفقد الجنين. في تلك الأثناء بدأ أخي مازن بزيارة عمّته فجأة، فهو لم يكن يقصدها سوى مرّة كل سنة أو سنَتَين. وردَدتُ الأمر إلى انشغالي ونيّته بعدَم تركها لوحدها. في البدء كانت تذهب معه والدتي، ولكن سرعان ما تعبَت هي الأخرى بسبب سنّها.

لم تكن نوال تحبّ أخي كثيرًا لأنّه كان كسولاً ويعيش معظم الأحيان ممّا تعطيه له أمّنا مِن معاش تقاعد أبي. وكان يُبدّد هذا المال بسرعة على ملذّاته ويطلب المزيد والمزيد. لم يكن يطلب منّي شيئًا بعدما فهِم أنّني لن أصرف عليه ولا زوجي:

 


ـ نحن نعمل جاهدًا لكسب راتبَينا، وعليكَ العمل أنتَ الآخر، ألا تريد بناء عائلة يومًا؟

 

ـ عائلة؟ هاهاها! لأصبح مثلكِ؟ لا شكرًا! أنا إنسان حرّ أفعل ما أشاء ساعة أشاء! لا تريدين مساعدة أخيكِ الوحيد؟ كم أنّكِ بخيلة!

 

لم يخطر ببالي أنّ اهتمام مازن المفاجئ بعمّته كان سببه المنفعة، لأنّني خلتُ صدقًا أنّه يتمتّع بشيء مِن الضمير والحنان ولكنّني كنتُ مخطئة، فالناس البالغون لا يتغيّرون بل يزيدون سوءًا مع الوقت. وكان أخي يرى في نوال مصدر منفعة ليس فقط بسبب راتبها الذي تتقاضاه بعد تقاعدها بل أيضًا مِن أجل البيت.

فالحقيقة كانت أنّ مجمّعًا كبيرًا كان سيُنشأ بالقرب مِنها، وكانت الشركة بحاجة إلى الأرض حيث هو البيت. كيف علِم بذلك؟ للأسف منّي بعدما قلتُ أمامه إنّ بيت عمّتي هو العائق الوحيد أمام بناء هذا المجّمع وإنّه بات باهظ الثمَن. ولكنّ ذلك كان مِن أشهر طويلة، وكنتُ قد نسيتُ الأمر كليًّا. أما هو، فلا.

إستقبَلَت نوال اخي بلطف، وهو مثّل عليها دور ابن الأخ الحنون الذي لا يُريد شيئًا منها سوى أن تكون بخير. وبعد مشاوير عدّة إليها، أقنعهَا باستضافته بصورة دائمة. كان مازن يعرف كيف يتحايل على الناس ويحملهم على الرّضوخ له.

مرَّت الأشهر وكان حملي بالفعل صعبًا لِدرجة أنّني اضطرِرتُ لترك عملي والبقاء ممدّدة في البيت. وكانت صلَتي الوحيدة بنوال عبر الهاتف، وكانت تروي لي عن مازن الذي كان يأتي لها بالحاجيات مِن السوبر ماركت ويُنظّف معها البيت. ولكنّها كانت مشتاقة إليّ وإلى قلبي الأبيض، كما قالت.

وفي إحدى مكالماتنا قالت لي نوال إنّها تريد أن تكتب البيت باسمي، وفرحتُ كثيرًا للخبر، أوّلاً لأنّ ذلك يُبرهن مدى حبّها لي وثانيًا لأنّ البيت كان كبيرًا وجميلاً وأنوي إنجاب الكثير مِن الأولاد، وكنتُ أخشى أن يكون مسكني وزوجي صغيراً لذلك.

سألتُها إن كان مازن على علم بالأمر، فأجابَت أنّها لم تقل له شيئًا كي لا تحزنه لأنّه لن يرث منها.

لكنّ أخي كان يُراقب نوال ليلاً نهارًا لإيجاد طريقة لاقناعها بالبيع والحصول على عمولة مِن قِبل الشركة، وكان قد سمِعَ حديثنا وباقي أحاديثنا، وأدركَ أنّ خطّته البديلة في حال عدم نجاح الأولى التي تقضي بانتظار حصوله على حصّته مِن البيت بعد وفاة نوال، كانت تتبخّر أمام عَينَيه.

لِذا بدأ يضغط على عمّته، وسرعان ما حصَلَت أمور عديدة في البيت: تعطّل جهاز التدفئة وتسخين الماء، ومرضَت المسكينة بسبب البرد القارس ومِن ثم انقطَعَ الهاتف ومِن بعده الكهرباء. وكلّما جاءَت بأحد لتصليح الأعطال كانت تظهر مِن جديد. لقد كان مازن يُريد مِن ذلك جعل البيت مكانًا غير صالح للعيش لتسرِع عمّتي بالبيع.

 


ولكنّ نوال بقيَت صامدة ربمّا لتبقي لي المنزل، فكما ذكرتُ كانت تحبّني وكأنّي ابنتها، الأمر الذي أغضَبَ أخي وأقنعَه بالانتقال إلى تنفيذ ما هو أفظع... بكثير.

فالحلّ الوحيد كان أن تموت نوال قبل أن تكتب لي البيت. وكان الوقت يُداهم مازن، لِذا أخَذَ نوال معه ليجلبا بعض الحاجيّات قائلاً:

 

ـ هيّا بنا... لا يجدر بكِ أن تبقي جالسة على أريكتكِ طوال الوقت، فذلك مضرّ لصحّتكِ... سترافقيني هذه المرّة.

 

واشتريا كلّ ما كان لازمًا، وحين خرجا مِن السوبر ماركت طلَبَ أخي مِن عمّته انتظاره في المرآب ليأتي بالسيّارة. وبعد لحظات رأت عمّتي سيّارة آتية نحوها بسرعة فائقة وأدركَت أنّها ستصدمها. وبردّة فعل عفويّة دفَعَت أمامها عربة الحاجيّات، فأنعطف مازن نحو الجهة الأخرى لتفادي العربة واصطدَمَ بعامود المرآب. ولأنّه كان يقود بسرعة رهيبة، تضَّرر جسديًّا، وحين حملوه إلى المشفى كان بحالة يُرثى لها حتى خالوا أنّه لن يعيش. ولكنّهم أجروا له جراحات عديدة خرَجَ منها متعافياً جسديًّا ولكن ليس عقليًّا، إذ كان قد تلقّى الصّدمة على رأسه لأنّه لم يكن يضع حزام الأمان ولم تفتح الوسادة الهوائيّة. هل حصل ذلك بفضل العناية الالهيّة؟ بالتأكّيد!

حتى وقت طويل خالَت عمّتي أنّ مازن فقَدَ السيطرة على مركبته ولم تشك أبدًا بأنّه أراد قتلها. أمّا أنا، فكانت لدَيَّ شكوك قويّة. كنتُ أعلم أنّ مازن مؤذٍ ولكنّني لم أفهم ما كانت دوافعه، ولِما فعل شيئًا كهذا إلى حين تلَّقيتُ مكالمة مِن الشركة التي تريد شراء البيت:

 

ـ نحاول الاتصال بالسيّد مازن ب. هل هو موجود؟

 

ـ لا... أنا أخته وهذا رقم منزل والدته، أنا هنا للزيارة.

 

ـ هل بأمكانكِ إعطاؤنا رقمًا آخرًا فهو لا يُجيب على جوّاله.

 

ـ هذا لأنّه في المشفى، لقد تعرّضَ لحادث مروّع.

 

ـ يا للأسف... قلتِ إنّكِ أخته... ربما بإمكانكِ مساعدتنا.

 

وشرحوا لي أنّهم اتّفقوا مع اخي على إقناع عمّتي ببيع بيتها مقابل عمولة كبيرة، وأضافوا أنّ مازن قال لهم في آخر حديث له معهم إنّه سيُصبح قريبًا وريثها، الأمر الذي سيُسهّل المفاوضات.

هكذا إذًا...

لم أقل لعمّتي ما كان ينوي أخي فعله بها كي لا أحزنها، وماتت مِن دون أن تعرف.

أمّا مازن فيقضي أيّامه في مؤسّسة مختصّة بذوي الإعاقات العقليّة. وصدَقَ مَن قال: "مَن حفر حفرة لأخيه وقَعَ فيها"!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button